مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
تقديم:
الجريمة واقعة قانونية تترتب عليها آثار
جزائية، وهي ليست واقعة بسيطة بل مركبة، وقد حرص الفقهاء منذ زمن على تحليل
الجريمة إلى عواملها الأولية ودراسة كل عامل على حده،ن وقد استقر الفقه التقليدي
على تصور ثابت لأركان الجريمة يتسم بالبساطة والوضوح، فكان يقسم الجريمة إلى ركنين
أحدهما مادي والآخر معنوي.
غير أنه من الفقهاء المحدثين من خرج على تصور
القدامى واستبدل بتحليلهم للجريمة تحليلات أخرى، فهم يرون بأن للجريمة ثلاثة أركان
كما سيتم توضيحه للاحقا، ويبدو هذا الاتجاه بوضوح في الفقه الألماني والإيطالي على
وجه الخصوص، وهو الرأي الذي نؤمن به ونتبعه.
والأركان عند فقهاء القانون هي العناصر
الجوهرية التي يرتبط وجود الجريمة بوجودها، بحيث يترتب على تخلفها امتناع الجريمة
أصلا أو امتناع جريمة بعينها.
ويمكن تجاوز الخلاف الفقهي السابق الإشارة إليه
والقول بأن للجريمة ثلاث أركان:
- الركن الشرعي وهو نص التجريم الذي يجرم
الفعل ويعاقب عليه.
- الركن المادي وهو النشاط المكون للجريمة
سواء كان فعلا إيجابيا أو مجرد إمتناع.
- الركن المعنوي ونقصد به العلاقة التي تربط
ماديات الجريمة مع نفسية الفاعل.
وتقتضي دراسة الركن الشرعي للجريمة تناوله في
جانبه الإيجابي والسلبي، فالركن الشرعي يعني في جانبه الإيجابي خضوع الفعل لنص
التجريم وفقا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، كما يعني في جانبه السلبي عدم خضوع
هذا الفعل لأي سبب من أسباب الإباحة، وهو الأمر الذي يقتضي البحث من خلال أول
محاضرة في مبدأ الشرعية، مفهومه، تاريخه، مبرراته ونقائصه وأخيرا النتائج المترتبة
عليه.
أولا: ما هية مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
يتم تناول مبدأ الشرعية من خلال التطرق أولا إلى
تعريفه تم بيان إقراره من الناحية التاريخية.
1/ تعريف مبدأ الشرعية
يعني هذا المبدأ حصر الجرائم والعقوبات في
القانون، وذلك بتحديد الأفعال التي تعد جرائم وتقرير العقوبات المقررة لها، كما
يفيد هذا المبدأ كذلك أن مهمة حصر الجرائم وتحديد عقوباتها هي مهمة السلطة
التشريعية وحدها، ولا يملك القاضي إلا تطبيق النص كما هو، أي التأكد من مدى مطابقة
الوقائع التي إرتكبت مع النموذج القانوني لجريمة من الجرائم المنصوص عليها في
قانون العقوبات، وأكثر من ذلك يمنع عليه إضافة جرائم جديدة أو عقوبات لم يتضمنها
التشريع العقابي. ويعبر على هذا المبدأ في التشريعات بـ لاجريمة ولا عقوبة إلا بنص
وهو ما نصت عليه المادة الأولى من قانون العقوبات الجزائري.
2/ تاريخ المبدأ
إن مبدأ الشرعية له جذور تاريخية قديمة، وهو أحد
أهم مبادئ التشريع الجنائي الإسلامي وإن كان الفقه الغربي ينكر ذلك، فالشريعة
الإسلامية كانت السباقة لإقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وذلك بالنص في
القرآن الكريم "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" (سورة الإسراء الآية
رققم 15) ويقول "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"(سورة النساء
الآية رقم 165) ويقول أيضا:"وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا
يتلوا عليهم أيتنا" (سورة القصص الآية رقم 59).
و في العصور اللاحقة على هذا التاريخ كانت تعيش
المجمعات الأوروبية في جور الحكام وتعسف القضاة، بحيث كان الحاكم يجمع بين يديه
جميع السلطات، حينذاك لم يكن لمبدأ الشرعية وجود، إذ كان تحديد الجرائم والعقوبات
يخضع لهوى الحاكم وتعسف القضاة، وكان الأفراد يفاجأون بجرائم جديدة لا يعلمون بها
مقدما وعقوبات قاسية غير محددة لاسلفا.
وهذا الوضع دفع المفكرين والفلاسفة أمثال روسو و
مونتسيكيو و بيكاريا إلى المناداة بضرورة الفصل بين سلطات الدولة، وتطبيقا على ذلك
قصر التجريم والعقاب بيد السلطة التشريعية، أما تطبيق ما يصدر من تشريعات فيقع على
عاتق السلطة القضائية، ويعبر على هذا المعنى بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.
ولقد نص على هذا المبدأ الأول مرة في العصر
الحديث في المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان و المواطن الفرنسي الذي صدر في 26
أوت 1789 وذلك في أعقاب الثورة الفرنسية، وقد كرست هذا المبدأ المواثيق الدولية
منها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 ديسمبر 1948، وتأخذ
أغلب التشريعات الحديثة الأجنبية والعربية بهذا المبدأ سواء بالنص عليها في
دساتيرها أو قانون العقوبات.
ولم يشذ المشرع الجزائري عن التشريعات الحديثة
في احترامه لمبدأ الشرعية والعمل بمقتضاه من خلال النصوص الدستورية أو النصوص الواردة
في قانون العقوبات ومن بينها:
المادة 46 من الدستور 1996 "لا إدانة إلا
بمقتضى قانون صادر قبل ارتكاب الفهل المجرم".
المادة 142 من الدستور 1996 "تخضع العقوبات
الجزائية إلى مبدأي الشرعية والشخصية".
المادة الأولى من قانون العقوبات "لا جريمة
ولا عقوبة أو تدابير أمن بغير قانون".
ثانيا: الجدل الفقهي حول إقرار مبدأ الشرعية
ثار الجدل بين الفقهاء بين معارض لمبدأ الشرعية ومؤيد له، وكل له
تبريراته نحاول أن نوجزها كما يلي:
1/ الاتجاه المعارض لمبدأ الشرعية
لم يسلم مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات من النقد، فقد وجهت له انتقادات
قاسية في محاولات لتعديل مضمونه، ونحاول أن نحصرها في نقطتين، الأولى تتعلق بشق
التجريم والثانية تتعلق بشق العقاب.
- فبالنسبة لشق التجريم، فقد أنتقد مبدأ الشرعية وقيل فيه أنه مبدأ
رجعي وجامد، يجعلنا عبيد للنص الوضعي، كما أنه يصيب التشريع بالجمود ويجرده من
المرونة اللازمة في مواجهة الظواهر الإجرامية المستحدثة التي قد لا تندرج بالنظر
لحداثتها وأساليب ارتكابها تحت نص التجريم، مما يجعله يتسبب في إفلات المجرمين من
التهرب من المسؤولية بحيث يستفيدون من
الثغرات الموجودة في القانون.
كما ترجع عيوب مبدأ الشرعية إلى نصوص التشريع نفسه عندما لا يستطيع
القاضي الوصول إلى التعريف الدقيق للعمل الإجرامي نتيجة للنصوص الغامضة، في حين لا
يسمح له بالتفسير الواسع أو القياس، ويؤدي ذلك إلى تعطيل النصوص التشريعية وتهرب
الجناة من العقاب.
- وبالنسبة لشق العقاب، فقد أنتقد مبدأ الشرعية لكونه يتعارض مع أهم
مبادئ السياسية الجنائية الحديثة، وهو مبدأ تفريد الجزاء الجنائي الذي يترتب على
تطبيقه إختلاف العقاب نوعا ومقدارا بالنسبة للفعل الواحد تبعا لدرجة خطورة كل من
ساهم في إرتكابه، وعلى الرغم من أهمية مبدأ تفريد العقوبة، فإن مبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات يقف عقبة كأداء أمام القاضي تحول بينه وبين إختيار العقوبة التي تتلائم
وشخصية المجرم، ذلك أن هذا المبدأ يفرض على القاضي نوع العقوبة ومقدارها بالنسبة
لكل فعل تبعا لجسامته دون اعتداد بدرجة خطورة الفاعل، وفي هذا تفويت لفرصة
الاستفادة مما يحققه التقدم العلمي والفني من نتائج ترتبط بالجريمة والمجرمين.
2/ الاتجاه المؤيد لمبدأ الشرعية
يذهب الرأي الغالب في الفقه إلى تأييد مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
ويرى بأنه يحقق مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة.
- فبالنسبة لمصلحة الفرد، فإن هذا المبدأ يعد السياج الحقيقي لحماية
الحقوق والحريات الفردية، فلا يملك القاضي متابعة أشخاص بأفعال لم يجرمها المشرع
ولا يقرر عقوبات غير تلك التي حددتها النصوص
التشريعية وفي هذا الصدد يقول الفقيه الإيطالي بيكاريا "إن القاضي
مقيد بنصوص القانون المراد تطبيقها ولا يملك أدنى حرية أمام القاعدة المكتوبة، بل
هو مجرد بوق يردد كلمة القانون".
كما أن قصر تحديد الجرائم والعقوبات على السلطة التشريعية يحقق إنذار
الأفراد مقدما بما هو محظور عليهم ارتكابه من الأفعال فلا يفاجئون بأمور تقيد من
حرياتهم وتنال من حقوقهم.
- أما بالنسبة لمصلحة الجماعة، فإن مبدأ الشرعية يحقق المساواة بين
أفراد المجتمع وعدم التمييز بينهم على أساس طائفي أو طبقي من حيث التجريم والعقاب،
كما يساهم في علو مبدأ سيادة القانون، وألا تقوم أي سلطة باغتصاب اختصاصات سلطة
أخرى، وفي ذلك تأكيد لمبدأ الفصل بين السلطات.
بل وأكثر من ذلك إن لمبدأ الشرعية دور وقائي من الجريمة ذلك أنه ينذر
الأفراد مقدما بالأفعال المجرمة، مما يسمح بإحجام بعضهم على الأقل عن ارتكاب
الجرائم.
ثالثا: النتائج المترتبة على مبدأ الشرعية
يترتب على إعمال مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
عدة نتائج أهمها:
1/ حصر مصادر التجريم والعقاب في التشريع
ويقصد بالتشريع كل قاعدة قانونية مكتوبة صادرة
عن سلطة مختصة طبقا للإجراءات التي نص عليها الدستور، وتتميز القاعدة القانونية
الجنائية عن غيرها من القواعد القانونية الأخرى بأن مصدرها الوحيد هو القانون
المكتوب ، أما المصادر الأخرى فهي مستبعدة من نطاق القوانين الجنائية، ومنه فلا
مجال لتطبيق المصادر المعروفة في القوانين الأخرى كالشريعة الإسلامية أو العرف أو
مبادئ العدالة والقانون الطبيعي إلا في مجال أسباب الإباحة وموانع المسؤولية
وغيره.
ولا يشترط أن تكون جميع الجرائم والعقوبات
مصدرها النصوص التشريعية الصادرة عن البرلمان، بل يمكن للسلطة التنفيذية أن تشرع
بدورها، وهذا ما نصت عليه المادة 122/7 من الدستور بحيث نصت بأن يشرع البلمان في
مجال قواعد قانون العقوبات لاسيما تحديد الجنايات والجنح ولم يذكر المخالفات،
ويكون بذلك فاتحا المجال أمام السلطة التنفيذية للتشريع في مجال المخالفات، وهذا
عن طريق المراسيم الرئاسية والقرارات الإدارية التي تصدر عن الوزراء و الولاة
رؤساء البلديات.
2/ التفسير الكاشف للنصوص
يعني التفسير الكاشف، الكشف عن حقيقة إرادة
المشرع من خلال الألفاظ و العبارات الواردة في القاعدة القانونية المراد تفسيرها،
فعلى القاضي عندما يعرض عليه نص غامض نتيجة لعيب في صياغته أو لتناقض بين ألفاظه
أو لتعارض بينه وبين نصوص أخرى أن يجتهد في إزالة الغموض وتفسير النص بما يكشف عن
حقيقة مدلوله مع الالتزام بالحدود التي لا تصل إلى حد خلق الجرائم أو العقوبات.
أما إذا كان النص واضحا بحيث يكشف عن حقيقة قصد
المشرع، فإنه يكون صالحا للتطبيق ويجب على القاضي تطبيقه على الواقعة المعروضة
عليه إذا لا اجتهاد في معرض النص الصريح.
3/ حظر القياس
لا يجوز للقاضي وهو بصدد النظر في الواقعة
المعرضة عليه أن يجرم فعلا لم يرد نصا بتجريمه قياسا على فعل ورد نص بتجريمه بحجة
وقوع تشابه أو تقارب بين الفعلين، أو أن يكون العقاب في الحالتين يحقق نفس المصلحة
الاجتماعية مما يقتضي تقرير عقوبة الثاني على الأول، لأن في ذلك اعتداء صريح على
مبدأ الشرعية، وهذا ما يعرف بالتفسير بطريق القياس، فالجرائم والعقوبات لا يقررها
إلا المشرع والقاضي لا يملك ذلك قانونا، فإن فعل ذلك يكون قد خلق جرائم لم يضعها
المشرع ونصب نفسه مشرعا ما لار يسمح به القانون.
ومثال على ذلك يحظر على القاضي أن يقيس مثلا
جريمة السرقة المتمثلة في أخذ مال الغير المنقول دون رضاه على فعل الاستيلاء على
منفعة، وأن يعتبر من يحصل على منفعة شيء مملوك لغيره دون وجه حق سارقا.
ولكن تجدر الإشارة و أنه القياس محظور فحسب في
التجريم والعقاب دون أن يكون كذلك في نطاق الأعمال التي تقرر سببا للإباحة أو مانع
من موانع المسؤولية أو العقاب طالما أن هذا الأمر ليس فيه مساس بالحريات الفردية،
بل هي في صالح المتهم، وبالتالي فهي لا تتعارض مع مبدأ الشرعية.
المرجع:
- عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 47 إلى ص 55.