القتل بدافع الشفقة أو القتل الرحيم
تثير مسألة القتل بدافع الشفقة، أو ما
يسمى بالقتل الرحيم euthanasie ، جدلا حادا،
ويكمن صلب المشكلة في أن العدوان الواقع في مثل هذا القتل لا ينبعث من نفس إجرامية
وإنما من نفس رحيمة.
وفي هذا الصدد، يثار التسائل حول ما
إذا كان من الجائز قانونا لطبيب أو لأي شخص آخر أن يقتل عن قصد مريضا لا يؤمل
شفاؤه لمساعدته على إنهاء آلامه، بعد أن يئس الطب من شفائه وتركه وآلامه، أو طفلا
مشوها معاقا رحمة به وشفقة عليه.
عرضت هذه المسألة على القضاء منذ بداية
القرن العشرين، وهكذا ففي سنة 1912 قتل أحد وكلاء النيابة الفرنسيين زوجته المصابة
بشلل نصفي ناشئ عن إصابة دماغية hémiplégique، وعند استفساره
صرح أمام المحكمة أنه قام بواجبه تجاه زوجته التي تعاني آلاما لا تطاق.
وفي سنة 1921 قتل طبيب بلجيكي طفلة
كانت مصابة بتشوه فظيع عند ولادتها، بسبب انهيار والدتها و صراخها حينما رأت
ابنتها على تلك الهيئة وتوسلاتها إليه بأن ينقذها من تلك المأساة الإنسانية ..
ونفس التساؤل أثير على المستوى الفقهي
والفكري.
يرى رجال القانون في غالبيتهم أن
المسألة لا تثير أي إشكال من الناحية القانونية، إذ أن القتل جريمة مهما كانت حدة
الدافع على ارتكابه لأن لا عبرة في القانون بالبواعث.
في حين ذهب الكثير من المفكرين إلى
تبرير هذا القتل، مستندين في ذلك إلى الحجج الآتي بيانها:
- ما دام القانون لا يعاقب على
الانتحار أو الشروع فيه، فما الفرق حينئد بين من يقتل نفسه وبين من يطلب من غيره
أن يعاونه في ذلك، أليس هذا دليلا على حقه في التصرف في حياته وأن الفرق بين الأول
والثاني هو في وسيلة التنفيذ فحسب ؟
- غالبا ما يقع القتل إشفاقا تحت وطأة
الإكراه المعنوي الذي يشل إرادة الفاعل، ألا يعد من يجد نفسه أمام عزيز عليه، وهو
يحترق ألما، فيستغيث به لوضع حد لآلامه، واقعا تحت تأثير إكراه لا قدرة له على
مقاومته ؟
فيما يرى البعض عدم إباحة القتل إشفاقا
مستندين إلى العديد من الحجج الدينية والطبية والأخلاقية والقانونية.
فأما من الناحية الدينية فكل الديانات
السماوية تحظر قتل الأبرياء، وهكذا قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : "
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ... وغضب الله عليه ولعنه وأعد له
عذابا عظيما "، كما قال : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق
"، إذ أن الإسلام يبيح القتل لأحد ثلاث : ردة يعد إسلام، ونفس بنفس، وزنا بعد
إحصان.
وأما من الناحية الطبية فلا مبرر للقتل
إشفاقا لأن مهمة الطبيب هي علاج المريض وتخفيف آلامه، فمهما استعصى علاجه يبقى
الأمل قائما لاسيما والعلم يفاجئنا كل يوم بجديد ..
ولا يغير في الأمر شيئا كون المريض
راضيا بوقوع الفعل عليه لأن رضا المجني عليه لا قيمة له في جناية القتل، ولا كون
الفاعل مدفوعا بباعث الشفقة لأنه لا عبرة في القانون بالبواعث.
إجمالا لما سبق،نقول أن الإنسان يحظى
دائما بحماية القانون ولو أصيب بمرض ميئوس من شفائه ومن شأنه أن يقوده إلى الموت
حتما، أو كان مشوها أو معاقا إلا إذا وصل تشوهه إلى الحد الذي يخرجه من عداد بني
الإنسان.
ومع ذلك فقد ظهرت نزعة إباحية في
السبعينيات تناضل من أجل إباحة القتل إشفاقا، تحتل هولندا الريادة في هذا المجال
حيث أصدرت قانونا يقرر عقوبة مخففة للقتل إشفاقا وهي 12 سنة سجنا، وتطور الأمر في
سنة 1994 إلى وضع ما يسمى بـ "معايير الدقة" يباح القتل إشفاقا عند
توافرها، وهي سبعة.
ومن هذه المعايير أن يكون بناء على طلب
المريض أو والديه إذا كان قاصرا دون 16 سنة، وأن يكون الطبيب مقتنعا بأن هذا الطلب
صادر عن إرادة حرة، وأن يكون المرض ميؤوسا من شفائه ولا يحتمل، وأن لا يكون هناك
حل آخر، وأن يستشير الطبيب على الأقل أحد زملائه المستقلين عنه.
وحال توافر هذه الشروط يجوز للطبيب أن
يساعد مريضه في وضع حد لحياته، على أن يتم ذلك بدقة.
وبعد إتيان الفعل، يعرض الأمر على لجنة
جهوية متساوية الأعضاء تتكون من طبيب وقاض
وخبير في العلوم الأخلاقية التي تبت في ملاءمته لمعايير الدقة، فإذا كان
الجواب بالنفي أحيلت الدعوى إلى العدالة من أجل المتابعة القضائية.
وإلى غاية سنة 1999 فصلت اللجان
الجهوية في 2000 حالة 90% منها تخص مرضى السرطان في مرحلته النهائية.
وفي نهاية سنة 2000 خطت هولندا الخطوة
المتبقية لإباحة القتل إشفاقا،وهكذا صادق مجلس النواب الهولندي بتاريخ :
28-11-2000 على مشروع قانون يبيح القتل إشفاقا إذا ما تم وفق شروط معينة وهي أن
يكون من فعل طبيب وأن يكون المريض يعاني من آلام لا تحتمل ولا تطاق.
وتلتها بلجيكا التي صادق مجلس نوابها
بتاريخ 19-05-2002 على قانون يبيح القتل إشفاقا، وبذلك تكون بلجيكا البلد الثاني
الذي يبيح القتل إشفاقا.
وقبل هولندا، كانت استراليا البلد
الأول في العالم الذي أباح القتل إشفاقا حيث صادق برلمان مقاطعات الشمال في شهر
ماي 1995 على قانون يبيح القتل إشفاقا، وهو القانون الذي دخل حيز التنفيذ في شهر
جويلية 1996، ولكنه لم يعمر طويلا حيث ألغاه مجلس الشيوخ في شهر مارس 1997.
كما صادقت ولاية "أوريقان Oregon" بالولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 27-10-1997 على قانون
يتعلق بـ "الموت في كرامة" ، وهو قانون يبيح المساعدة الطبية للانتحار،
وحسب مجلة طبية أمريكية، بلغ عدد طلبات المساعدة للانتحار إلى غاية 24-02-2000،
221 طلبا.
في حين اكتفت بعض التشريعات بتخفيف
العقوبة المقررة للقتل إشفاقا، كما هو الحال في اسبانيا منذ 1996 (3 سنوات حبسا
على لأكثر) وفي لبنان (10 سنوات سجنا على الأكثر).
كما تلقى المساعدة على الانتحار تسامحا
في بعض الدول مثل الدانمارك منذ 1992، في حين لا يشكل هذا الفعل جريمة في ألمانيا
وسويسرا.
المرجع
- د. أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجزائي الخاص، الجزء الأول، دار هومة، الطبعة الثامنة العشر، الجزائر، 2015، من ص 24 إلى ص 27.