محاضرة في الجريمة المستحيلة
تقديم:
تكون الجريمة مستحيلة عندما لا يمكن تحقيقها سواء كان السبب في ذلك هو
الوسيلة المستعملة كأن كانت الوسيلة غير صالحة تماما لإحداث النتيجة أو عاد الأمر
إلى الشئ محل الجريمة نفسه، كأن كان موضوع الجريمة أيضا غير صالح لإحداث النتيجة.
ويقصد بالجريمة المستحيلة أن يبدأ الجاني في تنفيذ السلوك الإجرامي ويستفيد
كل نشاطه ويبذل كل ما في وسعه لتحقيق النتيجة غير أن هذه الأخيرة مستحيلة الوقوع
بسبب انعدام محل الجريمة أو بسبب عدم صلاحية الوسيلة حتى ولو كرر الجاني نشاطه.
أولا: طبيعة الجريمة المستحيلة
الشروع في الجريمة المستحيلة كالشروع في الجريمة الخائبة، أو هو صورة من
صور الجريمة الخائبة، ففي كليهما يستنفذ الجاني سلوكه الإجرامي ألازم لتحقيق
النتيجة الإجرامية ومع ذلك لا تتحقق تلك النتيجة لسبب خارج عن إرادته.
ووجه الخلاف بينهما هو أن النتيجة الإجرامية في الجريمة الخائبة كان من
الممكن تحقيقها لولا تدخل السبب الخارجي، بينما النتيجة الإجرامية في الجريمة
المستحيلة من المستحيل تحقيقها.
وهناك من الفقه من يرى بأن الجريمة المستحيلة ليست نوعا من الشروع بل تختلف
عنه تماما، ووجه الخلاف بينهما هو أن عدم وقوع النتيجة في الجريمة المستحيلة كان
مقطوعا به منذ البداية، فالجريمة منذ البدء مستحيلة، أما عدم وقوع النتيجة في
الشروع فراجع إلى عامل خارجي لا دخل لإرادة الجاني فيه ولولا ذلك لوقعت النتيجة،
ولكن أغلب الفقه يميل إلى جعل الجريمة المستحيلة صورة من صور الشروع.
ومن أمثلة الجريمة المستحيلة إطلاق الرصاص على شخص بقصد إزهاق روحه فإذا به
كان ميتا، أو أن البندقية غير صالحة للاستعمال أصلا، أو إدخال الجاني يده في جيب
الضحية لأجل سرقته فإذا بالجيب فارغ ليس فيه مال، أو محاولة إجهاض امرأة ولكن كانت
هذه الأخيرة غير حامل.
وما يمكن ملاحظته من هذه الأمثلة أن الاستحالة يكون سببها الوسيلة
المستعملة مثل كون البندقية غير صالحة للاستعمال أو أن يكون سببها محل الجريمة كأن
يكون المجني عليه ميتا قبل إطلاق الرصاصة، مع الملاحظة أن الجاني حينما ارتكب فعله
كان يجهل سبب الاستحالة، لأنه إذا كان يعلم سبب الاستحالة لا تقوم الجريمة لانتفاء
القصد الجنائي لديه، ويكون ما صدر عنه من نشاط مجرد عبث لا قيمة له.
ثانيا: وجه العقاب في الجريمة المستحيلة
إن استحالة وقوع الجريمة أمر حير الفقه عن جدوى اهتمام التشريعات بها
والمعاقبة عليها لكون الفائدة التي يبتغيها المجتمع من العقاب هي حماية المصالح
القانونية عن اعتداءات ممكنة الوقوع أما إذا كانت هذه الأخيرة مستحيلة الوقوع فما
الحكمة إذن من تجريمها؟ وهو الأمر الذي انقسم الفقه بشأنه، فاتجاه يرى بعدم العقاب
على الجريمة المستحيلة واتجاه آخر يرى بمعاقبة جميع الجرائم المستحيلة، إلا أن
هناك اتجاه وسط بين الرأيين، وسنحاول توضيح هذه الآراء على التوضيح التالي :
1/ الاتجاه الأول: عدم العقاب على الجريمة المستحيلة
يرى هذا الاتجاه بأنه يجب ألا يعاقب على الجريمة المستحيلة وذلك لسببين:
أ/ السبب الأول:
هو أن الشروع المعاقب عليه يفترض البدء في تنفيذ الفعل، وإذا كانت الجريمة
المستحيلة يستحيل تنفيذها فكيف نتصور أن يبدأ الإنسان في تنفيذ المستحيل، وبعبارة
أخرى لا يمكن البدء بتنفيذ ما لا يمكن تنفيذه.
ب/ السبب الثاني:
إن المشرع عندما يجرم أفعالا معينة إنما ينظر إلى ما يترتب عليها من ضرر أو
خطر يصيب مصالح على درجة من الأهمية، وبالنسبة للجريمة المستحيلة لا يتوافر هذا
الضرر أو الخطر على الحق المعتدى عليه لاستحالة تنفيذ الجريمة أصلا.
ويؤدي لأخذ بهذا الرأي إلا إفلات الكثير من المجرمين ممن تتوفر فيهم خطورة
إجرامية، ونتساءل عن ما هو الفارق بين لص يضع يده في جيب شخص فيجده خاليا من
النقود، وبين لص آخر صادف نقودا في جيب المجني عليه، فخطورة السلوك الإجرامي واحدة
في الحالتين، مما لا يقبل معه معاقبة الثاني وترك الأول دون عقاب.
2/ الاتجاه الثاني: العقاب على الجريمة المستحيلة
يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى العقاب على الجريمة المستحيلة مطلقا، وسندهم في
ذلك أن العقاب على الشروع لا يعتد بقيمة النتيجة الإجرامية، وإنما المعمول عليه هو
النية الإجرامية التي تتجه إلى تحقيق تلك النتيجة، وأي فعل يكشف عن هذه النية وعن
خطورة فاعله يكفي للعقاب عليه دون تفرقة بين ما إذا كان إتمام الجريمة ممكنا أم
مستحيلا، وقد حقق الجاني في الجريمة المستحيلة كل النشاط الإجرامي الذي يكشف عن
نية إجرامية قاطعة وعزم أكيد على تنفيذ الجريمة.
ومنه فمن يطلق الرصاص على شخص بقصد قتله ثم يتبن بعد ذلك أنه كان ميتا قبل أن يطلق عليه
الرصاص، فيعاقب على الشروع في جريمة قتل لأن فعله كشف بصورة قاطعة على نيته
الإجرامية و خطورته، مما يستوجب عقابه على الشروع في هذا الغرض.
إلا أن هذا الرأي مغالي فيه إذ يعاقب على مجرد النية، ويتجاهل أن الشروع
جريمة ويتطلب فيه مثلما يتطلب في باقي الجرائم.
ومن تضييق الاتجاه الأول ومغالاة الاتجاه الثاني ظهر اتجاهين آخرين وسط
بينهما بحيث يتفقان بأنه لا عقاب على كل جريمة مستحيلة، كما أنه لا يمكن أن يفلت
من العقاب كل فعل كانت نتيجتة مستحيلة، إلا أنهما يختلفان فقط في نوع الجرائم
المستحيلة التي فيها عقاب.
3/ الاتجاه الثالث: التفرقة بين الاستحالة المطلقة و الاستحالة النسبية
حسب هذا الرأي إذا كانت الاستحالة مطلقة فلا عقاب عليها، وإذا كانت
الاستحالة نسبية فيعاقب عليها القانون.
وتكون الاستحالة مطلقة سواء تعلقت بموضوع الحق المعتدى عليه أم بوسيلة
الاعتداء على هذا الحق، وتكون الاستحالة المطلقة الراجعة لإلى موضوع الحق مثل
الشخص الذي يطلق الرصاص على شخص ميت، وتكون الاستحالة المطلقة الراجعة إلى الوسيلة
إذا حاول شخص إطلاق النار على عدوه بواسطة بندقية غير صالحة للاستعمال، أو إذا
استخدم مادة غير سامة، والاستحالة المطلقة بنوعيها لا يعاقب عليها القانون
أما الاستحالة النسبية فقد تتعلق هي الآخرى بموضوع الحق المعتدى عليه، وقد
تتعلق بالوسيلة المستعملة في الاعتداء، ومن أمثلة الإستحالة النسبية المتعلقة
بالموضوع محاولة السرقة في جيب خال من النقود، أو إطلاق الرصاص في المكان الذي
اعتاد المجني عليه التواجد فيه في وقت معين وتغيب عنه الصدفة، ومن أمثلة الاستحالة
النسبية المتعلقة بالوسيلة إلقاء قنبلة على جمع من الناس دون إزالة الصمام، أو
استعمال مادة سامة بكمية غير كافية لإحداث التسمم، والاستحالة النسبية بنوعيها
يعاقب عليها القانون.
ويؤخذ على هذا الرأي أنه غير منطقي، لأن الاستحالة نوع واحد لا تقبل
التدرج، فالجريمة إما أن تكون ممكنة أو تكون مستحيلة.
4/ الاتجاه الرابع: التفرقة بين الاستحالة القانونية والاستحالة المادية
حسب هذا الرأي إذا كانت الاستحالة قانونية فلا عقاب عليها، وإذا كانت
الاستحالة مادية فيعاقب عليها القانون.
وتكون الاستحالة قانونية إذا تخلف أحد أركان الجريمة أو العناصر التي يتوقف
عليها قيام الجريمة كما وصفها نص التجريم، فمن يطلق النار على شخص ميت لا يعاقب
لتخلف أحد الأركان القانونية لجريمة الفعل، وهو أن يكون المجني عليه حيا وقت
ارتكاب الفعل، ومن يستولي على مال له معتقدا أنه مال غيره لا يعاقب على جريمة
السرقة لتخلف أحد أركانها وهو أن يكون المال المسروق مملوكا للغير، أو كون المرأة
غير حامل في جريمة الإجهاض،والاستحالة القانونية في جميع حالاتها لا يعاقب عليها
القانون.
أما الاستحالة المادية فتكون إذا كان عدم تحقق النتيجة يرجع لأسباب مادية
مستقلة عن إرادة الفاعل رغم توافر عناصر الجريمة، ويمكن أن ترجع الاستحالة المادية
إلى الوسيلة المستعملة مثل عدم صلاحية الوسيلة لأحداث النتيجة سواء لعيب فيها أو
لعيب في طريقة استعمالها ، ويمكن أن ترجع الاستحالة المادية إلى محل الجريمة كأن
يكون الشخص المراد قتله غير موجود في مكان وزمان الحادث، والاستحالة المادية
بنوعيها يعاقب عليها القانون.
وما يعاب على هذا الرأي لم يأت بشئ جديد بخلاف ما أتى به أصحاب التفرقة بين
الاستحالة المطلقة والنسبية، إلا أنه يرد عليهم وأن الأساس القانوني المعتمد عليه
من طرف الاتجاهين مختلف تماما، ناهيك على أن التفرقة بين الاستحالة القانونية
والاستحالة المادية أكثر وضوح وأكثر منطقية، وهو ما جعل الكثير من التشريعات تأخذ
بها.
5/ موقف المشرع الجزائري:
لقد ساير المشرع الجزائري في قانون العقوبات الاتجاه الغالب في الفقه
والتشريعات المقارنة في أخذه بالعقاب على الجريمة المستحيلة كمبدأ عام، وهذا ما
نلمسه من نص المادة 30 قانون عقوبات والتي تنص "... حتى ولو لم يكن بلوغ
الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها".
كما أن النص السالف الذكر يؤدي إلى الاعتقاد وأن المشرع الجزائري أخذ
بالرأي الفقهي التصالحي الذي يميز بين الاستحالة المادية التي مردها إما الوسيلة
المستحيلة أو موضوع الحق المعتدى عليه، والاستحالة القانونية التي تتحقق إذا انعدم
في الجريمة أحد أركانها كركن الإنسان الحي في جريمة القتل 254 ق ع ، وركن المادة
السامة في التسميم 260 ق ع ، وركن الشئ المملوك للغير في جريمة السرقة 350 ق ع،
وركن المرأة الحامل في جريمة الإجهاض 304 ق ع.
إلا أن هناك رأي فقهي يرى بأن المشرع الجزائري قد مزج بالأخذ بين الاستحالة
المطلقة والاستحالة النسبية من جهة والاستحالة القانونية والاستحالة المادية من
جهة أخرى، والدليل على ذلك نجده في المادة 260 ق ع المتعلقة بالقتل بواسطة التسميم
بحسب نص المادة "... التسميم هو الاعتداء على حياة إنسان بتأثير مواد يمكن
أن تؤدي إلى الوفاة" وبالتالي فلا شروع في جناية التسميم إذا كانت المواد
المستعملة لا تؤدي إلى الوفاة، بمعنى آخر أن المشرع أخذ هنا بعدم العقاب على
الاستحالة المطلقة التي مردها إلى الوسيلة خلافا لما جاءت به المادة 30 قانون
العقوبات.
المرجع:
- عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 122 إلى ص 129.