محاضرة في أسباب الإباحة (ما يأمر و يأذن به القانون)
القسم الأول: أسباب الإباحة (ما يأمر و يأذن به القانون)
تقديـــم:
قبل الحديث عن
أنواع أسباب الإباحة يجدر بنا التطرق أولا إلى ماهية هذه الأسباب ثم إلى
أساسها القانوني، وأخيرا طبيعتها القانونية.
1/ ماهية أسباب الإباحة:
لقد سبق القول وأن
للركن الشرعي شقان، شق إيجابي يتمثل في خضوع الفعل لنص التجريم، وشق سلبي يتمثل في
عدم خضوع هذا الفعل لأي سبب من أسباب الإباحة.
وبعد أن تناولنا
الشق الإيجابي من خلال إقرار النص، سوف نتناول في هذه المحاضرة الشق السلبي للركن
الشرعي، والمتمثل في عدم خضوع الفعل لأي سبب من أسباب الإباحة أو كما يسميها
المشرع الجزائري بـ الأفعال المبررة، والتي نأخذ منها على سبيل المثال الشخص الذي
يقتل دفاعا عن نفسه أو الطبيب الذي يقوم بعملية جراحية إنقاضا للمريض.
وأسباب الإباحة
كما يفصح عنها اسمها أحوال تبدو فيها الواقعة من حيث الظاهر مستجمعة كل العناصر
لاعتبارها جريمة ولكنها مع ذلك لا تعد جريمة، وذلك لوجود قاعدة قانونية ترخص
بارتكاب الفعل في تلك الأحوال أو توجبه.
فالقانون يحمي
الحق في سلامة البدن، ولهذا فهو يجرم الضرب والجرح ويعاقب على ن يرتكب هذا الفعل
أو ذاك، لكنه في الوقت نفسه لا يعرقل الطبيب أثناء ممارسة مهنته، وربما اقتضاه ذلك
أن يجري عملية جراحية لمريض قد تؤدي إلى بتر عضو من أعضائه، وهو يجيز كذلك للأب أن
يؤدب أولاده وقد يستدعي ذلك ضربهم لتقويمهم.
فصفة الطبيب في
الحالة الأولى والأب في الحالة الثانية تبيح لكل منهما بشروط معينة أن يرتكب
أفعالا ينص القانون على عقاب مرتكبها في الظروف العادية.
إذن أسباب الإباحة
ظروف مادية تضاف إلى الفعل المجرم وتسحب عنه الصفة الجرمية، وتضفي عليه الصفة
الشرعية، ومن كل ما سبق يمكن تعريفها بأنها "تلك الأسباب التي من شأنها
إزالة صفة التجريم عن أفعال سبق أن جرمها المشرع".
2/ الأساس القانوني للإباحة:
تكمن العلة من
الإباحة في انتفاء العلة من التجريم، فالقاعدة أن المشرع إنما يجرم من الأفعال ما
يهدد الحقوق والمصالح الاجتماعية التي يرى ضرورة حمايتها، فإذا تبين له أن فعلا من
هذه الأفعال لا يؤثر في ظروف معينة على تلك الحقوق والمصالح، أو ثبت له أنه وإن
كان يضر ببعضها إلا أنه يكفل الحماية لغيرها مما يعد أولى بالرعاية منها، فإنه
يغلب جانب الإباحة على جانب التجريم.
فالضرب والجرح
كلاهما اعتداء على سلامة البدن، ومن حق المجتمع بل من واجبه أن يحافظ على سلامة
أبدان أفراده وأن يجرم العدوان على هذا الحق، غير أنه إذا وقع الفعل من طبيب على
مريض لدرء علة فإن هذا الفعل في ظروف ارتكابه لا يعد عدوانا على سلامة البدن، بل
هو على العكس من ذلك صيانة له مما يقتضي إباحته، والطبيب كذلك الذي يعطي دواء
لمريضه أو يكشف عورته أو يتسبب في إحداث عاهة له لا يعتبر مرتكبا لجرائم إعطاء
مواد ضارة أو سامة أو جريمة هتك عرض أو إحداث عاهة مستديمة متى التزم بأصول مهنته
وكان مرخصا له بممارستها، وكان قيامه بهذا العمل نتيجة لظروف معينة، والموظف الذي
ينفذ حكم الإعدام فيمن حكم عليه والذي يعد فعله بحسب الظاهر فيه مساسا بحق الإنسان
في الحياة فإنه يحمي حقا آخر هو من الناحية الاجتماعية أغلى وأهم و هو حق المجتمع
في إقرار الأمن و تطبيق القانون وتنفيذ أحكام القضاء.
ومن كل ذلك يمكن
القول أن الفعل الذي يعاقب عليه في الأحوال العادية يكون مباحا في حالتين.
الحالة الأولى : إذا أحاطت بالفعل وقت ارتكابه ظروف من شأنها
دائما أن تعقمه وتجرده تماما من كل معنى من معاني العدوان، أي انتفاء الضرر الذي
كان يمكن أن يلحقه بالحق أو بالمصلحة الجديرة بالحماية، ومثال على ذلك ما طرحناه
حول الطبيب من أمثلة.
الحالة الثانية : إذا وقع التعارض بين حقين اجتماعيين واستحال
صيانة أحدهما دون الآخر، وكان ذلك الفعل يهدر أدنى الحقين قيمة، ففي هذه الحالة
يفضل المشرع حماية الحق الأول عن الحق الثاني، مثل حالة الدفاع الشرعي إذ يقوم شخص
بالاعتداء على نفس أو مال الغير، فلا يكون أمام المعتدى عليه سوى الدفاع عن نفسه
فس مواجهة المعتدي، فالمشرع هنا يفاضل بين حقين حق المعتدي وحق المعتدى عليه ولا
يملك سوى حماية حق الثاني ولو بالتضحية بالحق الأول.
3/ طبيعة أسباب الإباحة:
تعد أسباب الإباحة
ذات طبيعة موضوعية لا شخصية، فهي تنتج أثرها بصرف النظر عن الموقف النفسي للفاعل،
أي سواء علم بوجود أسباب الإباحة أو كان يجهلها، ويترتب على ذلك أن أثرها لا يترتب
على الفاعل وحده بل يمتد كذلك إلى شركائه، لأنه إذا كان ما وقع من الفاعل الأصلي
مباحا فلا يمكن أن يلحق التأثيم فعل شريكه، وذلك عملا بقاعدة أن الفرع يأخذ حكم
الأصل، ويترتب على ذلك أنه إذا أجرى الطبيب جراحة لمريض فإن الإباحة لا تقتصر على
فعل الطبيب وحده بل تشمل كذلك فعل الممرض الذي ساعده، وإذا أعدم الجلاد محكوما
عليه شملت الإباحة فعل الجلاد وفعل ن أمره بالتنفيذ، وإذا أدب الأب ولده فإن
الإباحة تنصرف إلى فعل الأب وإلى من أنبأه بانحراف ولده وحرضه على تأديبه.
ويترتب كذلك على
أسباب الإباحة حصول الفاعل على البراءة، كما لا يمكن مساءلته بالتعويض في الدعوى
المدنية، وتختلف بذلك أسباب الإباحة عن موانع المسؤولية في كون هذه الأخيرة تمنع
المساءلة الجزائية ولكن لا تمنع المساءلة المدنية أي يمكن طلب التعويضات من
المسؤول.
كما تختلف أسباب
الإباحة عن موانع العقاب بحيث تقتصر هذه الأخيرة على إعفاء الجاني من العقوبة رغم
بقاء مسؤوليته الجزائية والمدنية، ويترتب على ذلك أن شريكه يعاقب ولا يستفيد مما
استفاد منه الفاعل الأصلي.
و لقد وردت أسباب
الإباحة في قانون العقوبات في نص المادة 39 و 40 منه، في الفصل الرابع من الباب
الأول تحت عنوان الأفعال المبررة، بحيث
ورد في المادة 39 القسم الأول منها المتمثل فيما يأمر ويأذن به القانون، وفي نفس
المادة في الفقرة الثانية ورد القسم الثاني منها والمتمثل في حالة الدفاع الشرعي،
أما المادة 40 فهي تكملة للقسم الثاني والتي تناولت حالة الدفاع الشرعي الممتاز.
ونتناول في هذه
المحاضرة القسم الأول ونترك القسم الثاني المتعلق بحالة الدفاع الشرعي للمحاضرة
اللاحقة.
القسم الأول: ما يأمر أو يأذن به القانون
تنص المادة 39 من
قانون العقوبات على ما يلي : "لا جريمة ... 1- إذا كان الفعل قد أمر أو أذن
به القانون".
وبالرجوع إلى نص
لمادة 39 قانون العقوبات نجدها لم تحدد الأفعال المجرمة التي تشملها أسباب الإباحة
بناء على أمر القانون أو إذن القانون إلا أن الفقه إجتهد في جمعها مستفيدا بما ورد
في النص، وهو ما يدعونا إلى تقسيم هذه النقطة إلى ما يأمر به القانون وحالاته وما
يأذن به لقانون وحالاته.
أولا: ما يأمر به القانون
إن الأفعال التي
يأمر بها القانون مباشرة أو تتم تنفذا لأمر صادر من السلطة المختصة المخولة قانونا
بإصدار ذلك الأمر تعتبر أفعال مباحة، وتكمن سبب إباحة الأفعال التي يأمر بها
القانون في النص القانوني ذاته، فمن غير المنطقي أن يأمر القانون بفعل معين، ثم
يجرمه بعد ذلك، فإذا رأى المشرع ضرورة التدخل رعاية لمصلحة اجتماعية بتعطيل نص
التجريم وتبرير الخروج عليه في حالة معينة، فإن ذلك يعني إباحته ضمن الشروط التي
حددها القانون.
ومن أمثلة ذلك نجد
أن قانون الصحة يأمر الطبيب بالكشف عن أي مرض معدي تم اكتشافه، فإن قام الطبيب
بذلك فلا يعد مرتكبا لجريمة إفشاء سر المهنة طبقا لنص المادة 301 من قانون عقوبات،
وكذلك الأمر بالنسبة لتنفيذ أوامر السلطة المختصة فضابط الشرطة القضائية المكلف
بتنفيذ أمر بالقبض صادر عن قاضي التحقيق لا يعتبر مرتكبا لجريمة الاعتداء على
الحريات طبقا لنص المادة 291 من قانون العقوبات.
ولكن يشترط في هذه
الأحوال حتى تكون سببا من أسباب الإباحة أن تكون إما بنص القانون ذاته أو صادرة عن
سلطة مختصة بإصداره، كما يشترط في تنفيذ هذه الأوامر أن تحمل الصفة المطلوبة
قانونا مثل صفة الطبيب، وصفة ضابط الشرطة القضائية وصفة الموظف وغيرها.
ثانيا: ما يأذن به القانون
نقصد بإذن
القانون، ترخيص القانون لصاحب الحق في استعمال حقه، ولفظ لقانون في نص المادة 39
من قانون عقوبات جاء شاملا ليتسع ليشمل كل قاعدة قانونية سواء كانت محددة في نص
تشريعي أو قاعدة في الشريعة الإسلامية أو العرف.
ويتحدد الفرق بين
ما يأمر به القانون وما يأذن به، في أن الأول إجباري يجب القيام به، بحيث يترتب
على مخالفته المسؤولية الجنائية، في حين أن الثاني مجرد استعمال لحق يمكن القيام
به ويمكن الامتناع عن ذلك، ولكن إن قام به الشخص فلا تقوم الجريمة ومن تطبيقات ما
يأذن به لقانون استعمالا للحقوق المقررة قانونا نذكر الصور التالية.
1/ حق التأديب:
وتتمثل العلة من
ممارسة حق التأديب في تقدير المشرع لمصلحة الأسرة ومصلحة المجتمع، كما أن الغاية
منه هي تهذيب من يخضع له وحمله على السلوك الذي يتفق مع مصلحة الأسرة و
المجتمع،ويجد حق التأديب مصدره في الشريعة الإسلامية والخاضعين له هي لزوجة
والأولاد الصغار.
- بالنسبة لتأديب
الزوجة، فقد جاء في سورة النساء في الآية 34 (والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن
في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا).
وبحسب الآية إذا
ثبت ارتكاب الزوجة لمعصية فلا يجوز للزوج اللجوء إلى الضرب قبل استنفاذ باقي
الإجراءات، حيث قررت الشريعة الإسلامية تدرجا في وسائل التأديب تتمثل في الوعظ
أولا والهجر ثانيا، فإذا استمرت الزوجة في المعصية لجأ إلى الضرب، ولكن يشترط في
الضرب ألا يكون شديدا ومبرحا، وأن تكون غايته إصلاح حال الزوجة وليس الانتقام، فإن
تحققت كل هذه الشروط كان فعلا مباحا وإن تخلف أحدها أضحى يشكل جريمة الضرب طبقا
بنص المادة 264 من قانون العقوبات وما يليها.
- أما بالنسبة
لتأديب الصغار، يسمح شرعا وعرفا للولي الشرعي أو الوصي حق تأديب الصغير بضرب خفيف
لا يترك آثار على الجسم وأن يكون باليد فقط دون استعمال العصا أو السوط، وأن يتقي
الفاعل المواضع المخوفة من الجسم كالرأس والوجه، وينطبق حق تأديب الصغار حتى على
المعلم في المدرسة والمدرب في الرياضة والحرفي لمتعلم الحرفة.
2/ حق ممارسة الأعمال الطبية:
العمل الطبي عبارة
عن نشاط يهدف إلى كشف العلة في المريض بغرض علاجه، وفي سبيل ذلك قد يعطي الطبيب
للمريض مواد يتناولها أو يجري له عملية جراحية، فهو في الأصل يمس بالجسم، ولكن فعله
هذا لا يرتقي إلى مرتبة العدوان لأن غرضه الشفاء، ويشترط لإباحة العمل الطبي توافر
الشروط التالية :
- أن يحمل الطبيب
ترخيص قانوني لممارسة مهنة الطب.
- رضا المريض
بالعلاج وبأي وسيلة يستعملها الطبيب لذات الغرض.
- إجراء العمل
الطبي بغرض العلاج وليس لأهداف علمية كالتجارب.
أما بالنسبة
للأخطاء الطبية، فإن فشل العلاج لا يعد قرينة قاطعة على خطأ الطبيب، فقد يفشل
العلاج على الرغم من التزام الطبيب بالأصول والقواعد العلمية للعلاج، وبالتالي فإن
سلوك الطبيب يعتبر مشروعا ولو ساءت حالة المريض، أما إذا ثبت وجود خطأ مهني فإن
الطبيب يسأل مسؤولية غير عمدية.كما أن الطبيب ملزم ببذل عناية الرجل الحريص وليس
بتحقيق نتيجة ما عدا الجراحة التجميلية وعمليات التخدير اللتان يلتزم فيهما الطبيب
بتحقيق نتيجة.
3/ حق ممارسة الألعاب الرياضية:
تفترض بعض الألعاب
الرياضية أن يقوم المنافس بالمساس بجسم منافسه عمدا مثل رياضة الملاكمة و المصارعة
والجيدو والكاراتيه، وفي هذه الألعاب لا تقوم المسؤولية الجزائية لأن قوانين
الرياضة تبيح المساس بالجسم في حدود الالتزام بقواعد اللعبة، ويترتب على ذلك خروج
الفعل من نطاق التجريم.
ولكي تتوافر
الإباحة في الأفعال الرياضية لا بد من توافر الشروط التالية:
- أن تكون اللعبة
معترف بها قانونا.
- أن تكون أفعال
العنف قد أرتكبت أثناء المنافسة وليس خارجها.
- أن يلتزم اللاعب
حدود قواعد اللعبة، فإن تجاوزها متعمدا سئل عن أفعاله.
المرجع:
- عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 81 إلى ص 89.