محاضرة في أسباب الإباحة (الدفاع الشرعي)
القسم الثاني: محاضرة في أسباب الإباحة (الدفاع الشرعي)
الدفاع الشرعي
الدفاع الشرعي هو
رد اعتداء غير مشروع على مصلحة قانونية، فالقانون يحمي الحقوق والمصالح، وتتولى
الدولة حماية حقوق الأفراد من أي اعتداء عليها، ولكن القانون يرخص في نفس الوقت
لمن يقع عليه اعتداء أو يتعرض لخطر اعتداء حال أن يدفع هذا الاعتداء ويرده إذا
استحال عليه الاستعانة بالسلطات، لأنه ليس من المنطقي أن يسأل المعتدى عليه جزائيا
من رد عدوان وقع عليه في وقت لم تتمكن السلطات العامة أن تحميه.وتقتضي دراسة
الدفاع الشرعي التعرض في مرحلة أولى لماهيتة وأساسه القانوني وفي مرحلة ثانية
لشروط قيامه وآثاره.
أولا: ماهية الدفاع الشرعي وأساسه القانوني
1/ الماهية:
يعرف الفقه الدفاع
الشرعي بأنه "رخصة يخولها القانون لمن يتعرض لاعتداء تتوافر فيه شروط معينة
باستعمال القوة لرد الاعتداء عنه قبل وقوعه أو الحيلولة دون استمراره".
والدفاع الشرعي
بهذا المعنى هو أحد أسباب الإباحة، والذي يقتضي أن كل شخص يتعرض لعدوان على نفسه
أو ماله أو على نفس ومال الغير أن يدفع هذا العدوان ولو عن طريق ارتكاب جريمة إذا
كانت هذه الجريمة هي الوسيلة الوحيدة والملائمة لدرء هذا العدوان.
وترجع الحكمة في
تقرير الدفاع الشرعي أن الشخص المطالب بتبليغ السلطات عن أي فعل يعتدي عليه قد لا
يكفيه الوقت للقيام بهذا الواجب إذا كان هذا الشخص قد تعرض لخطر وشيك الوقوع في
ظروف لا تسمح له بمراجعة السلطات المختصة في الوقت المناسب، فهل يترك الأمر حتى
تتحقق الجريمة أم يسمح له برد الاعتداء على نفسه أو عن ماله ؟
فضروري أن يسمح له
برد الاعتداء طالما لم يكن هو المبتدئ بالعدوان الذي داهمه، ولم يترك له مجال
للقيام بواجبه في تبليغ السلطات المختصة.
2/ الأساس القانوني:
لقد اختلف الفقه
في تحديد الأساس القانوني للدفاع الشرعي، فمنهم من يرى بأن مصدره فكرة العقد
الاجتماعي التي ناد بها جون جاك روسو، ذلك أن ضرورة الدفاع ترد الإنسان إلى حالته
الطبيعية الأولى حيث كان له حق حماية نفسه بنفسه، وأن كل إنسان قد احتفظ لنفسه
بهذا الحق عندما تنازل عن حقوقه للجماعة.
ومن الفقه من يرى
بأن العدوان إنكار لحكم القانون أو نفي له وأن الدفاع نفي لهذا النفي، فكأنه إثبات
أو إقرار لحكم القانون ومن هنا كانت إباحته.
ومن الفقهاء من
يرى بأن المدافع إذ يرد العدوان فإنما ينوب عن الدولة في ممارسة سلطتها البوليسية،
لأن منع الجرائم من مهام الدولة الأساسية، فإذا تعذر عليها التدخل في الوقت نفسه
لمنع الجريمة على وشك الوقوع فإنها تنيب أي فرد للحلول محلها في منع وقوعها.
ومنه الفقه من
يعتبر أن الدفاع الشرعي هو مقابلة الشر بالشر، وهذا الرأي حري بأن يرد عليه بالقول
وأنه ضعيف ويجعل من الدفاع عقابا للمعتدي وهذا غير صحيح، فضلا عن ذلك فإن اعتبار
الدفاع شرا كالعدوان يقتضي التسليم بأنه جريمة مثله.
وهناك من يرى أن
الدفاع الشرعي نوع من الإكراه المعنوي يمنع المسؤولية الجنائية، لأن المدافع
بخضوعه لضغط الاعتداء أصبحت إرادته غير معتبرة قانونا، مما يعطل الركن المعنوي
للجريمة الذي يتطلب أن تكون الإرادة حرة ومختارة.
والرأي الراجح عند
الفقه أنه في حالة الدفاع الشرعي يقع تعارض بين حقين، أحدهما خاص بالمعتدى عليه
والآخر خاص بالمعتدي، والحقان يتكافآن من الناحية المجردة، فكلاهما خليق بالحماية،
غير أنه لما كانت التضحية بأحد الحقين أمرا لا مناص منه، فحق المعتدي أولى بأن يضحى
به لأن عدوانه يهبط بالقيمة الاجتماعية لحقه من جهة، ولأنه يصيب فضلا عن حق
المعتدى عليه حقا آخر هو حق المجتمع.
وعلى ذلك فالدفاع
الشرعي يباح لأنه وإن أصاب حقا للمعتدي إلا أنه صان حقين أحدهما خاص بالمعتدى عليه
والآخر خاص بالمجتمع، وهذا الحق الأخير جوهري وصيانته أضحت واجبة، وفيه تكمن علة
الإباحة، ونحن نميل مع هذا الرأي لأنه جدير بالتقدير وحق على الفقه أن يلتف حوله.
3/ النموذج القانوني للدفاع الشرعي في القانون الجزائري:
نصت المادة 39/2
من قانون العقوبات على أنه "لا جريمة إذا كان الفعل قد دفعت إليه الضرورة
الحالة للدفاع المشروع عن النفس أو عن الغير أو عن مال مملوك للشخص أو للغير بشرط
أن يكون الدفاع متناسبا مع جسامة الخطر".
ومن خلال نص
المادة المذكورة أعلاه يمكن استنتاج شروط الدفاع الشرعي، منها شروط مرتبطة بفعل
العدوان وشروط أخرى مرتبطة بفعل الدفاع، إلا أنه يجب التذكير أن هذه الشروط عامة
تنطبق على حالة الدفاع الشرعي العادي، أما حالة الدفاع الشرعي الممتاز فلها وضع
خاص.
ثانيا: شروط الدفاع الشرعي
1/ الشروط المتطلبة في فعل العدوان:
يلزم في فعل
العدوان الذي يتوافر به الدفاع الشرعي أن يكون الفعل موجودا حقيقة وليس وهميا وأن
يكون غير مشروع وأن يهدد بخطر حال وأن يهدد النفس أو المال.
أ/ أن يكون الفعل موجودا:
فعل العدوان يعني
وجود خطر ينذر بوقوع ضرر أو أن هناك ضرر قد بدأ ولا يزال مستمرا، يصيب النفس أو
المال، وتطبيقا لذلك فإن انتفاء الخطر يعني انتفاء العدوان و انتفاء العدوان يعني
انتفاء الدفاع الشرعي.
ويقتضي توافر
الخطر أن يصدر عن المعتدي فعل مادي، ولهذا لا يتوافر الدفاع الشرعي حيث يتخلف هذا
الفعل، ومنه فمجرد حمل السلاح لا يفيد وجود خطر إلا إذا كان متيقنا بأنه سوف
يستهدفه بعدما وجه السلاح نحوه مباشرة.فالدفاع الشرعي لم يشرع إلا لرد اعتداء عن
طريق الحيلولة بين من يباشر الاعتداء وبين الاستمرار فيه، فلا يجوز الدفاع ضد من
لم يثبت أنه كان يعتدي أو يحاول الاعتداء فعلا، ويستوى أن يكون مصدر الخطر فعلا
إيجابيا أو سلبيا.
وإذا كان الخطر وهميا
بمعنى غير حقيقيا في ذهن المعتدي كأن يشاهد شخصا قادما نحوه ظنا منه أنه يريد قتله
فيبادر هو بإطلاق الرصاص فيقتله، فانقسم الفقه في تبرير هذا الفعل بين مؤيد
لإباحته ومعارض له، ويميل غالبية الفقه إلى عدم الاعتداد بالخطر الوهمي، ومنه
القول بمسؤولية من توهم وجود عدوان حتى لا يكون هذا الأمر ذريعة تبيح الجريمة، مع
الملاحظة أن المشرع الجزائري لم يتناول هذه الحالة.
ب/ أن يهدد الفعل بخطر غير مشروع:
ويكون الفعل غير
مشروع إذا كان يهدد بوقوع نتيجة إجرامية معينة إذا تركت دون رد مناسب يحول دون
تحقيقها أو استمرارها، فالمعتدي الذي يهم بضرب المعتدى عليه بالعصا يحقق بفعله
جريمة الضرب، وإن استمرار الضربات ينشأ عنها حق للمعتدي عليه في الدفاع عن نفسه.
ويكون فعل العدوان
غير مشروع حتى ولو كان الفاعل غير مسئول جزائيا، إذ العبرة بأن يكون الاعتداء في
حد ذاته يهدد حقا يحميه القانون وينذر بوقوع نتيجة إجرامية معينة، مثل الاعتداء
الذي يقع من المجنون أو صغير السن.
وأما الخطر
المشروع فلا يصلح كسبب لفعل الرد، ذلك لأن مبعثه عمل من الأعمال التي تخضع لسبب من
أسباب الإباحة التي يقتضي معها حق الدفاع الشرعي، فالمتهم المتلبس بالجريمة لا يعد
في حالة دفاع شرعي ضد من يريد القبض عليه.
ج/ أن يكون الخطر حالا:
وقد عبر المشرع
الجزائري بهذا الشرط بالنص "الضرورة الحال " ويقصد بها أن يكون الخطر
وشيك الوقوع، فهو وإن لم يقع بعد فإنه متوقع أن يحدث فورا حسب المجرى العادي
للأمور، كما قد يحل الخطر وذلك بوقوع فعل الاعتداء ويستمر الخطر حالا مادام فعل
الاعتداء مستمرا لم ينته، ولا يكون هناك مجال أو فسحة من الوقت تمكنه من الاستعانة
برجال السلطة، ونأخذ على سبيل المثال من يرفع يداه ضد خصمه بقصد ضربه بتوجيه
لكماته إليه فيكون في موقف الدفاع ولو أن فعل الاعتداء لم يقع بعد، فوقوعه أصبح
أمرا منتظرا كخطوة تالية مباشرة بحسب المجرى العادي للأمور.
ونفس الشيء بالنسبة
لمن شرع في فعل الاعتداء ولم ينته بعد، كأن يبدأ المعتدي بالضرب ولم ينته بعد أو
من يطعن شخص بالسكين ولازال مستعدا لتوجيه طعنات أخرى، فيبقى حق الدفاع الشرعي حتى
ينتهي فعل الاعتداء،أما وإن انتهى فلم يبقى مجال لرد الاعتداء، ولا يمكن للمتهم
التذرع بحق الدفاع الشرعي في مواجهة المعتدي،ويعد العمل الذي يقوم به من قبيل
الانتقام، ومنه لا يجوز لمن سرق منه ماله أن يذهب إلى منزل السارق ويسترجعه بالقوة
ظنا منه أنه في حالة دفاع شرعي، وكذلك لا يجوز لمن بنا جاره جدارا بصفة غير شرعية
وحجب عنه الضوء أن يقوم بنفسه ويهدم الجدار بحجة الدفاع الشرعي.
وإذا كان الخطر
مستقبلي وليس حالا فلا يجوز الدفاع الشرعي، فمن يهدد خصمه إن أمسكه سيقتله أو
سيقتله غدا، فإنها ليس من الضرورة الحالة طالما يبقى مجال واسع من الوقت لتبليغ
السلطات لتقوم بحمايته.
د/ أن يهدد الخطر النفس أو المال:
وهو ما نصت عليه
المادة 39 من قانون عقوبات، بحي يجب أن يكون الخطر يهدد النفس أو الغير أو نفس
الغير أو مال الغير، دون أن يحدد المشرع ما هي جرائم النفس والمال المعينة بنص
المادة مما يفتح المجال على كثير من الجرائم من بينها :
- جرائم الاعتداء
على النفس: جرائم الاعتداء على حياة الإنسان وسلامة جسمه كالضرب والجرح والقتل،
وجرائم الاعتداء على العرض كالاغتصاب وخطف القصر، وهتك العرض، والتحريض على الفسق وفساد الأخلاق، وجرائم الاعتداء على
الحريات مثل انتهاك حرمة منزل والتهديد والخطف.
- جرائم الاعتداء
على المال: وهي كثيرة ومتعددة كالسرقة والنصب والاحتيال وخيانة الأمانة وتخريب أملاك
الدولة والتحطيم العمدي لملك الغير.
2/ الشروط المتطلبة في فعل الدفاع:
إذا توافرت شروط
العدوان السابقة نشأ الحق في استخدام القوة لدرء هذا الاعتداء، ويستوي بعد ذلك
ممارسة هذا الحق ممن وقع ضده العدوان أو من شخص آخر غيره.
لكن وبالمقابل حتى
تكتمل شروط الدفاع الشرعي فيشترط المشرع شروط أخرى لفعل الدفاع، وهما أن يكون
لازما ومتناسبا.
أ/ شرط اللزوم:
بمعنى أن يكون فعل
الدفاع ضروريا لرد الاعتداء أو هو الوسيلة الوحيدة لتفادي الخطر، أما إذا كان
بإمكان المدافع رد الاعتداء بفعل لا يعد جريمة فليس له الالتجاء إلى أفعال مجرمة،
كأن يكون بإمكانه تجريد خصمه من السلاح دون تعريض نفسه للخطر وكان له فسحة من
الوقت لإبلاغ السلطات المختصة.
ولقد ثار التساؤل
بشأن الهرب إذا كان هو الوسيلة المتاحة لتفادي الاعتداء غير استخدام القوة فهل
يتعين على المعتدى عليه الفرار من وجه المعتدي لأن فعل الدفاع في هذا الفرض لا
يكون لازما؟
والرأي السائد عند
الفقه والقضاء المصري يرفض اعتبار الهرب وسيلة لرد الاعتداء لأن الهرب يعرض صاحبه
للسخرية والاستهزاء نظرا لما ينطوي على ذلك من مظاهر الضعف والجبن، والقانون لا
يفرض على الناس أن يكونا جبناء، أما في التشريع الجزائري فلم نعثر على قرار قضائي
يؤكد هذا الحل أو ينفيه.
ب/ شرط التناسب:
ويعني شرط التناسب
أن يلجأ المدافع إلى فعل يكفيه شر الخطر المحدق به، فإذا بالغ في رد الفعل اختل
شرط التناسب وأصبح عمله غير مشروع.ويفترض شرط التناسب أنه إذا كان المدافع قد نشأ
له الحق في استخدام القوة لصد الاعتداء، وكانت توجد أمامه أكثر من وسيلة يلجأ
إليها فإنه يختار أقلها إحداثا للضرر.
كما يكون التناسب
قائما إذا ثبت وأن الوسيلة التي استخدمها المدافع في ظروف استعمالها كانت أنسب
الوسائل لرد الاعتداء أو كانت هي الوسيلة الوحيدة التي وجدت في متناول
المدافع.ويجب أن لا يفهم وأن التناسب يقتضي أن يستخدم المدافع نفس الوسيلة التي
يستعملها المعتدي أو أن يكون هناك مساواة أو تشابه بين ضرر الاعتداء وضرر الدفاع
لأن مثل هذا التناسب غير متصور، فالمدافع لا يتكهن بالوسيلة المستعملة ولا بالضرر
المحدق به.
ثالثا: الحالات الممتازة للدفاع الشرعي
لقد نص المشرع على
الحالات الممتازة للدفاع الشرعي في نص المادة 40 من قانون العقوبات "يدخل
ضمن حالات الضرورة الحالة للدفاع المشروع
1- القتل أو الجرح
أو الضرب الذي يرتكب لدفع اعتداء على حياة الشخص أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق
الحواجز أو الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء
منها أثناء الليل.
2- القتل الذي
يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة".
والفرق الموجود
بين حالات الدفاع الشرعي العادي والدفاع الشرعي الممتاز، هو أنه في الحالة الثانية
المدافع غير مطالب بإثبات جميع شروط الدفاع الشرعي التي سبق ذكرها بل يكفي أن يثبت
أنه أمام حالة من الحالات الواردة في نص المادة 40 من قانون العقوبات.
ولقد أنشأت نص
المادة 40 قانون عقوبات قرينة قانونية مفادها أن من يدافع عن شخصه أو حرمة مسكنه
من أي اعتداء حدث ليلا فهو في حالة دفاع شرعي ممتاز، وكذلك فإن فعل الدفاع عن
النفس أو الغير هو دفاع شرعي ممتاز إذا كانت ضد مرتكبي السرقات والنهب بالقوة.
وتبعا لذلك وجود
هذه الحالات تجعل المدافع في مركز أقوى من موقف المدافع في نص المادة 39 من قانون
عقوبات الذي يجد نفسه مطالبا بإثبات شروط الدفاع الشرعي المتعلقة بالعدوان
والمتعلقة بالدفاع.
رابعا: الآثار المترتبة عن الدفاع الشرعي
- يعد الدفاع
الشرعي سبب من أسباب الإباحة، يمحو الصفة الجرمية عن الفعل، أي يخرج الفعل من
دائرة التجريم إلى دائرة الإباحة فينتفي بذلك الركن الشرعي للجريمة.
- إن من كان في
حالة دفاع شرعي لا تقوم مسؤوليته الجزائية ولا المسؤولية المدنية.
- وباعتبار الدفاع
الشرعي مسألة موضوعية، فإنه يستفيد منها كل من ساهم في إرتكاب الجريمة سواء كان
فاعلا أصليا أم شريك.
المرجع:
- عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 90 إلى ص 100.