محاضرة في المساهمة الجنائية (المساهمة الأصلية)
تقديـــم:
قد تكون الجريمة
ثمرة جهد شخص بمفرده، يفكر فيها ويصمم عليها وينفذها بدون مساعدة أحد، فهي مشروعه
الإجرامي وحده ويتوافر في حقه وحده ركنها المادي وركنها المعنوي، فيكون هو المسئول
الوحيد جزائيا عنها وهو الفاعل دون مساهمة أحد معه في ارتكابها.
وقد تكون الجريمة
ثمرة جهود أكثر من شخص يتعاونون فيما بينهم على تحقيقها، فيصدر عن كل واحد منهم
فعلا أو أفعالا تتجه إلى تحقيقها، فهي مشروعهم الإجرامي ويساهم كل واحد منهم بدوره
في سبيل قيام هذا المشروع، ويسأل جزائيا تبعا لذلك كل مساهم في تلك الجريمة، وهذا
ما يعرف بالمساهمة الجنائية.وتقتضي دراسة الجنائية البحث في تعريفها وتمييزها عن
المساهمة الضرورية ثم أركانها ثم التمييز بين المساهمة الأصلية والمساهمة التبعية.
1/ تعريف المساهمة الجنائية وتمييزها عن المساهمة الضرورية:
يعرف الفقه
المساهمة الجنائية بأنها " ارتكاب عدة أشخاص لجريمة واحدة كان يمكن لأي منهم
أن يرتكبها بمفرده " وهذا التعريف يحدد لنا عناصر المساهمة على النحو الذي لا
تقوم إلا بها، وهي تعدد الجناة ووحدة الجريمة، وهذا ما يميزها عن المساهمة
الضرورية.
وتفضيل ذلك أنه في
بعض الحالات يكون تعدد الجناة لازما لوقوع الجريمة قانونا بحيث لا يتصور وقوعها من
شخص واحد ومن قبيل ذلك جنحة الزنا وجنحة التجمهر وجناية تكوين جمعية أشرار ومخالفة
المشاجرة إذا لم يتجاوز العجز مدة 15 يوما، وفي أغلب الأحيان يكون تعدد الجناة غير
لازم بحيث يمكن أن يرتكب الجريمة شخص واحد أو يساهم في تحقيقها عدة أشخاص، ومن
قبيل ذلك جنحة السرقة وجناية القتل العمد وجنحة الضرب أو الجرح.
ويطلق الفقه على
المساهمة الأولى إسم المساهمة الضرورية وعلى الثانية إسم المساهمة العرضية، ويتحدد
نوع المساهمة دائما بالرجوع إلى نص التجريم، فإذا كان النص قد بين النشاط اللازم
لوجود الجريمة على نحو يستحيل أن يقوم به شخص بمفرده بل يجب أن ينضم إليه سواه كان
التعدد ضروريا، وخلاف ذلك فهو تعدد عرضي.
2/ أركان المساهمة الجنائية:
وكما أشرنا أعلاه
فالمساهمة الجنائية تفترض أن نكون بصدد جريمة واحدة اقترفها عدة جناة، أي لابد من
توافر عنصريها وهما وحدة الجريمة وتعدد الجناة، وعليه فلا مجال للحديث عن المساهمة
الجنائية في حالة تعدد الجرائم أو أن يكون
الجاني واحد فقط.
أ/ تعــدد الجنـــاة:
نقصد بذلك مساهمة
أكثر من شخص في ارتكاب الجريمة، فإذا كان الجاني واحدا فلا يتوافر أحد ركني
المساهمة الجنائية، ولا تثور بطبيعة الحال المشاكل التي توضع قواعد المساهمة
لحسمها، ذلك أن ارتكاب شخص واحد للجريمة يعني أن يطبق عليه نص القانون الخاص بهذه
الجريمة وأن توقع عليه العقوبة المقررة في هذا النص، كما لا تتحقق المساهمة
الجنائية إذا ارتكبت من طرف شخص واحد حتى ولو تعددت جرائمه، لأن هذا الشخص تتوافر
في حقه حالة " تعدد الجرائم " فقط.
ب/ وحــدة الجريمة:
تثير وحدة الجريمة
في المساهمة الجنائية صعوبات مردها إلى أن تعدد الجناة يفترض تعدد الأفعال التي
ارتكبوها، فكيف نتصور القول بوحدة الجريمة
على الرغم من تعدد هذه الأفعال؟ والجواب على هذا السؤال يقتضي تحديد معيار
من خلاله نتبين وحدة الجريمة مع تعدد الجناة ؛
فالجريمة لها
جانبان يتميزان في طبيعتهما وأن لكل منهما تأثيره على الآخر، جانب مادي يضم عناصر
الجريمة ذات الكيان المادي المحسوس وجانب معنوي يضم عناصر الجريمة ذات الطبيعة
النفسية، ولا تتحقق للجريمة وحدتها إلا إذا اجتمعت بين عناصرها وحدة مادية وجمعت
بينها كذلك وحدة معنوية، أي كان ركنها المادي محتفظا بوحدته وكان ركنها المعنوي
محتفظا كذلك بوحدته.
ب1 / الوحدة المادية للجريمة:
تفترض المساهمة
الجنائية أن مجموع الأفعال التي قام بها المساهمين قد أفضت إلى نتيجة إجرامية
واحدة، بمعنى آخر أن الوحدة المادية تقتضي أن يكون لكل واحد من المساهمين دور في
تحقيق النتيجة الجرمية مع ضرورة وجود علاقة سببية بين نشاط كل مساهم والنتيجة التي
اجتمع لأجلها المساهمين، ودون هذه الرابطة تنتفي الوحدة المادية للجريمة
ففي جريمة القتل
مثلا تتعدد أفعال المساهمين التي ينتج عنها تحقق الجريمة، وهي إزهاق روح المجني
عليه بحيث يتفق أحد المساهمين مع باقي الجناة لارتكابها فكان للأول دور المحرض على
القتل، والثاني يقوم بتقديم السلاح الذي تنفذ به الجريمة، ويذهب الثالث والرابع
إلى حيث يتواجد المجني عليه ومعهما السلاح، فيمسك أحدهما به لكي يشل مقاومته
ليتمكن الآخر بطعنة بالسلاح الذي أحظراه معهما، فمن خلال هذا المثال توجد رابطة
سببية بين كل هذه الأفعال والنتيجة التي تحققت.
ب2 / الوحدة المعنوية للجريمة:
تتمثل هذه الوحدة
في الرابطة الذهنية أو المعنوية التي تجمع بين المساهمين في الجريمة، بحيث يتفق
على ارتكاب الجريمة وتوزيع الأدوار فيما بينهم، وتتحقق الرابطة الذهنية بين
المساهمين إذا وجد اتفاق سابق بين هؤلاء المساهمين أو على الأقل تفاهم سابق بينهم
على ارتكابها ولو ببرهة وجيزة أو التفاهم على ذلك أثناء ارتكابها صراحة أو ضمنا،
المهم أن يكون مظهر تلك الرابطة هو إدراك كل مساهم أنه متضامن مع الآخر في هذا
العمل وأنه لا يستقل به لحسابه الخاص.
إلا أن الاتجاه
السائد في الفقه يرى بإمكانية تحقق المساهمة حتى في غياب الاتفاق السابق بين
المساهمين، بل يكفي فقط أن يعلم أحد المساهمين بنشاط المساهم أو المساهمين الآخرين
وتتجه إرادته إلى إقحام نشاطه الإجرامي في سلسلة العوامل التي تؤدي مجتمعة إلى
وقوع الجريمة، وإذا تحقق هذا القصد لدى كل الجناة توافرت المساهمة الجنائية.
وكمثال على ذلك
الشخص الذي يمسك بعدوه لكي يشل مقاومته حتى يتمكن شخص آخر من قتله يعتبر مساهما
معه في جريمة القتل حتى ولو لم يكن بينهما اتفاق سابق على القتل، المهم أنه كان
يعلم بأن الجاني كان يريد قتله فأمسكه، بمعنى أن نية الاشتراك أو قصد المساهمة
متوافر بينهما، أو قيام شخص بوضع كمية إضافية من السم في أكل الضحية بعدما علم أن
شخصا آخر قد وضع كمية أولى ولكنها غير كافية لإحداث جناية القتل بالسم.
أولا : المساهمة الأصلية
المساهمة الأصلية
في الجريمة هي القيام بدور رئيسي في ارتكابها، ولا نتصور جريمة بغير فعل أصلي يقوم
عليه بتنفيذها، وقد يرتكب هذا الفعل شخص واحد فتتحقق الجريمة ثمرة لنشاطه، ويكون
بذلك فاعلها الوحيد، وقد يتقاسم هذا الفعل عدة أشخاص فيعتبرون جميعا فاعلين
أصليين.
ويعني ذلك أيضا
أنه لا جريمة بغير فاعل أصلي أو مساهمة أصلية، وقد تقوم المساهمة الأصلية وحدها
وقد توجد إلى جانبها مساهمة تبعية، ولقد نص قانون العقوبات على المساهمة الأصلية
مجسدة في الفاعل الأصلي في المادتين 41 و 45 من قانون العقوبات.
فتنص المادة 41
"يعتبر فاعلا كل من ساهم مساهمة مباشرة في تنفيذ الجريمة أو حرض على إرتكاب
الفعل بالهبة أو الوعد أو التهديد أو إساءة استعمال السلطة أو الولاية أو التحايل
أو التدليس الإجرامي".
وتنص المادة 45
"من يحمل شخصا لا يخضع للعقوبة بسبب وضعه أو صفته الشخصية على ارتكاب
الجريمة يعاقب بالعقوبة المقررة لها".
ومن خلال هذه
النصوص يتضح تعدد المساهمة الأصلية في القانون الجزائري، فهي الفاعل المباشر
والمحرض على الجريمة والفاعل المعنوي، وهو ما سنأتي على تفصيله على النحو التالي:
1/ الفاعل المباشر:
حسب نص المادة 41
من قانون العقوبات يعتبر فاعلا كل من ساهم مساهمة مباشرة في تنفيذ الجريمة، أي كل
الأفعال التي تدخل في تكوين الركن المادي للجريمة، ولا يهم إن قام بها شخص واحد أو
عدة أشخاص، فإن باع أحد الأشخاص سكين للجاني وقام هذا الأخير بقتل المجني عليه،
يكون الثاني فاعل أصلي لوحده طالما قام بتنفيذ الركن المادي للجريمة لوحده، بينما
لو تقدم شخصان وقاما بطعن المجني عليه فكلاهما فاعل أصلي، باعتبارهما قد نفذا
الركن المادي للجريمة مع بعضهما البعض.ويكفي العودة إلى معايير الشروع في الجريمة
لتحديد المساهمة المباشرة في تنفيذ الجريمة، ومنه كلما دخل الفعل ضمن الأعمال
التنفيذية كانت مساهمته مباشرة وكان صاحبه فاعلا أصليا، وكلما كان الفعل لا يدخل
من ضمن الأعمال التنفيذية كانت المساهمة غير مباشرة إذا تحققت شروطها ويكون صاحبها
شريكا وليس فاعلا.
ولكن حسب أغلب
الفقه إن معيار الشروع لوحده غير كاف، وهو ما جعل بعضهم يلجأ إلى شرط متمم وهو
ظهور الجاني بفعله على مسرح الجريمة فيعاصر نشاطه الوقت الذي وقعت فيه.
ومنه حتى ولو لم
يقم الجاني بفعل يدخل في تنفيذ الركن المادي للجريمة ولكن عاصر نشاطه الوقت الذي
وقعت فيه وظهر على مسرح الجريمة كان فاعلا أصليا، وكمثال على ذلك لو اتفق أربعة
أشخاص على سرقة منزل بحيث يقوم الأول بمراقبة الطريق، والثاني يقوم بكسر الباب،
ليقوم الثالث بدخول المنزل وسرقة المحتويات، ويقوم الرابع بانتظارهم أمام المنزل
بسيارته ليهرب الجميع، فكل واحد من هؤلاء فاعلا أصليا في الجريمة.
2/ المحرض على الجريمة:
ما يميز التشريع
الجزائري عن باقي التشريعات لاسيما التشريع الفرنسي والمصري هو إعتبار المحرض
فاعلا أصليا وليس شريكا، وذلك منذ تعديله لقانون العقوبات بتاريخ 13/02/1982 تحت
رقم 82/04.
وهكذا تنص المادة
41 من قانون العقوبات في شطرها الثاني "يعتبر فاعلا ... كل من حرض على
ارتكاب الفعل بالهبة أو الوعد أو التهديد أو إساءة استعمال السلطة أو الولاية أو
التحايل أو التدليس الإجرامي".
ويعرف الفقه
التحريض بأنه "خلق فكرة الجريمة لدى شخص آخر والدفع به إلى التصميم على
ارتكابها" ويقتضي لقيام التحريض توافر ثلاثة شروط وهي:
أ / أن يتم التحريض بإحدى الوسائل المحددة قانونا بنص المادة 41 من قانون العقوبات
لقد اختار المشرع
الجزائري في نص المادة 41 من قانون العقوبات خمسة وسائل محددة على سبيل الحصر، وهي
لهبة والوعد وإساءة استعمال السلطة والولاية والتحايل والتدليس الإجرامي، و لا
يجوز الإجتهاد في إيجاد وسيلة أخرى ولو أدت إلى إقناع الشخص بالقيام بالجريمة،
ونحاول أن نوضح هذه الوسائل على النحو التالي:
- الهبة: وذلك بأن يمنح المحرض هدية إلى المحرض سواء
كانت مالا أو عقارا أو سلعة أو أي شيء آخر يمكن تقييمه بمال، ويشترط أن تقدم الهبة
قبل ارتكاب الجريمة كي تصلح للتحريض وليس بعد ارتكابها لأنها ستصبح مكافأة.
- الوعد: وذلك بأن يعد المحرض بإعطاء مكافأة عند
تنفيذ الجريمة، ويمكن أن يكون الوعد شيئا ذا قيمة مادية كما يمكن أن يكون مجرد
أداء خدمة.
- التهديد: أي الضغط على إرادة الغير لإقناعه بتنفيذ
الجريمة، وذلك إما بالقتل أو بأي أذى إذا لم يرتكب الجريمة، كما قد يكون التهديد معنويا
مثل نشر صورة أو خبر يسئ إلى سمعته.
- إساءة استعمال
السلطة أو الولاية: ويقصد بذلك أن يكون للمحرض سلطة قانونية على المحرض مثل
سلطة الرئيس على المرؤوس والخادم على المخدوم بحيث يستغل الرئيس هذه السلطة ويقنع
المرؤوس بارتكاب الجريمة، ونفس الشيء للخادم والمخدوم، كما يمكن أن تكون صورة
التأثير أساسها السلطة الولائية مثل سلطة الأب على ابنه فيكون الأول محرضا والثاني
منفذا.
- التحايل أو
التدليس الإجرامي: وقد يقع التحريض بالتحايل على الغير لإقناعه بتنفيذ
الجريمة، والتحايل هنا يفيد مباشرة المحرض لأعمال مادية تشجع الغير باتخاذ موقفه،
ويختلط مفهوم التحايل بالتدليس الإجرامي الذي يقوم على تعزيز الكذب بأفعال مادية
وبمظاهر خارجية تساهم على إقناع الغير بالإخضاع إلى رغبة المحرض، وعلى سبيل المثال
من يدعي كذبا أمام الابن بأن والده تعرض إلى الضرب من قبل شخص آخر.
ب/ أن يكون التحريض مباشرا
أي أن يبث فكرة
الجريمة في نفس المحرض صراحة، ومنه فلا يعد محرضا الشخص الذي استهدف إثارة البغض
والكراهية في الغير حتى وإن أفضى ذلك إلى ارتكاب الجريمة.
ج/أن يكون التحريض شخصيا
أي أن يكون موجها
إلى شخص بذاته وهو المراد إقناعه بارتكاب الجريمة، أما إذا كان التحريض عاما، أي
موجها إلى كافة الناس أو إلى جمهور بغير تحديد، فلا يعد تحريضا ولو استجاب له أحد
الأشخاص وارتكب الجريمة.
"لكن هذا لا
يمنع أن يحمل التحريض إلى جماعة غير محددة وصف جريمة مستقلة بذاتها".
3/ الفاعل المعنوي
تنص على الفاعل
المعنوي المادة 45 من قانون العقوبات "من يحمل شخصا لا يخضع للعقوبة بسبب
وضعه أو صفته الشخصية على ارتكاب الجريمة يعاقب بالعقوبات المقررة لها".
ويقصد بالفاعل
المعنوي "كل من دفع شخصا غير مسئولا جزائيا لارتكاب جريمة وذلك بالتأثير
الكامل على إرادته".
ويشترك المحرض مع
الفاعل المعنوي في أن كليهما ينفذ الجريمة بواسطة غيره، وكلاهما صاحب فكرة
الجريمة، لكنهما يختلفان في أن المحرض يلجأ إلى شخص مسئول جزائيا من أجل ارتكاب
الجريمة أما الفاعل المعنوي فيلجأ إلى شخص غير مسئول جزائيا وصفه القانون بأنه لا
يخضع للعقوبة كأن يكون صغيرا أو مجنونا أو مكرها، كما يمكن أن يكون الزوج أو
الأصول أو الفروع في جرائم السرقة وخيانة الأمانة.
وهكذا فإن الفاعل
المعنوي يسيطر سيطرة تامة على المنفذ تجعله مجرد وسيلة أو أداة يستعملها أينما
يشاء.
وتجدر الملاحظة أن
المشرع لم يحدد ما هي الوسائل التي يستعملها الفاعل المعنوي للتأثير على منفذ
الجريمة مثلما فعل مع المحرض، ومنه فقد يلجأ إلى وسيلة الإغراء أو لترغيب أو
الترهيب وغير ذلك.
المرجع:
- عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 130 إلى ص 140.