محاضرة في نطاق تطبيق النص الجنائي من حيث الزمان
تقديم:
قد سبق الحديث وأن
دراسة الركن الشرعي في جانبه الإيجابي يتمثل في خضوع الفعل لنص التجريم إلا أن هذا
الأمر لا يكفي، بل لا بد أن يكون هذا النص صالحا للتطبيق على الفعل المرتكب من حيث
الزمان والمكان
أما ن حيث تطبيق
النص الجنائي من حيث الزمان، فلا بد من القول وأن النصوص الجنائية ليست أبدية فهي
تخضع للتعديل والإلغاء من حين لآخر تبعا لإرادة المشرع وتقديره في مواجهة ظاهرة
الإجرام.وصلاحية النص الجنائي للتطبيق تتحدد في الفترة التي تلي لحظة نفاذه حتى
تاريخ إلغائه، ويعني ذلك أن لنص لا يسري على الوقائع التي سبقت، وهذا ما يعرف بـ
مبدأ عدم رجعية النص الجنائي، والذي يعد من أهم النتائج المترتبة على مبدأ شرعية
الجرائم والعقوبات، كما لا يسري على الوقائع اللاحقة على إلغائه.
وتكمن الحكمة من
عدم رجعية النص الجنائي إلى الماضي، كي لا يعاقب الفرد عن أفعال كانت مباحة وقت
إتيانها، أو الحكم عليه بعقوبات أشد من تلك لتي كانت مقررة في ذلك الوقت، والقول
بغير ذلك يعني محاسبة الأفراد عن أفعال أرتكبت في وقت لا توجد فيه تلك القاعدة
الجنائية المجرمة، وفي هذا إهدار لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.
فعدم رجعية
القواعد الجنائية إلى الماضي مقررة إذن لمصلحة المتهم، ولهذا يكون من المنطقي عدم
التمسك بعدم الرجعية، والأخذ بالرجعية – حيث تكون قواعد التجريم والعقاب أصلح
للمتهم، وهذا ما نصت عليه المادة الثانية من قانون العقوبات " ولا يسري قانون
العقوبات على الماضي إلا ما كان منه أقل شدة "وعليه فإذا كان المبدأ عدم رجعية
النص الشرعي فإن القاعدة الاستثنائية هي الرجعية، وهو ما نحاول دراسته في النقاط
التالية ؛
أولا: عدم رجعية النص التجريمي (المبدأ)
لا يسري النص
التجريمي على الوقائع التي سبقت وجوده، وهذا ما يعرف بمبدأ عدم رجعية النصوص
الجنائية.
فالقاعدة الجديدة للتجريم
والعقاب تسري بأثر فوري ومباشر على الوقائع اللاحقة لإصدارها ونفاذها، أما الوقائع
السابقة على ذلك فإنها تظل خاضعة للقانون القديم حتى ولو استمرت المحاكمة بشأنها
بعد صدور القانون الجديد، إذ العبرة بتحديد القانون الواجب التطبيق على فعل ما
إنما تكون بالوقت الذي أرتكب فيه الفعل لا بالوقت الذي يحاكم فيه من صدر عنه هذا
الفعل.
وقد أكد هذا
المعنى صراحة نص المادة الثانية من قانون العقوبات الجزائري "لا يسري قانون
العقوبات على الماضي...".
ويتضح من النص وأن
قواعد التجريم والعقاب تطبق على الجرائم التي ترتكب منذ لحظة نفاذها أي بأثر فوري
ومباشر وأن سلطنها لا يشمل الجرائم التي ارتكبت قبل تلك اللحظة، أي أنها لا تسري
بأثر رجعي على الماضي.
وأن تطبيق مبدأ
رجعية النص التجريمي تقتضي تحديد وقت العمل بالقانون الجديد من جهة، وتحديد لحظة
إرتكاب الجريمة من جهة أخرى.
1/ تحديد وقت
العمل بالقانون الجديد
الأصل أن القوانين
لا يعمل بها إلا من تاريخ العلم بها، وأن هذا العلم يفترض في كل مواطن بمجرد نشره
في الجريدة الرسمية وفوات الميعاد المحددمن هذا النشر، وتختص الدساتير عادة بتحديد
العمل بالقانون الجديد وهو ما نصت عليه المادة 60 من دستور سنة 1996، واليوم الذي
يحصل فيه النشر لا يدخل في المجال الزمني للقانون الجديد بل يبدأ هذا المجال من
أول اليوم التالي ويستمر العمل به حتى تاريخ إلغائه.
وإلغاء النص
التجريمي قد يكون صريحا وقد يكون ضمنيا، ويتمثل الإلغاء الصريح، في اشتمال التشريع
اللاحق على حكم يقرر إنهاء العمل بالتشريع السابق، أما الإلغاء الضمني، فيفترض
اشتمال التشريع اللاحق على أحكام تتناول نفس الموضوع وتتعارض معه أو ينظم من جديد
موضوع تناوله القانون القديم.
2/ تحديد لحظة ارتكاب الجريمة
إن لحظة ارتكاب
الجريمة تتحدد بوقت ارتكاب الفعل المكون لها وليس بوقت تحقيق النتيجة، فقد يكون
هناك فاصل زمني بين الفعل وحصول النتيجة،
فالعبرة في تحديد وقت ارتكاب الجريمة هو بلحظة وقوع السلوك الإجرامي.
وكمثال على ذلك قد
يعطي الجاني مادة سامة بقصد إزهاق روح المجني عليه أي قتله، فإن لحظة إعطاء المادة
السامة هي المعنية بتحديد تاريخ ارتكاب الجريمة وليس بتاريخ الوفاة التي قد تطول
عدة أيام.
ثانيا: رجعية النصوص التجريمية الأصلح للمتهم (القاعدة الاستثنائية)
كما تم أعلاه إن
مبدأ عدم رجعية قواعد التجريم والعقاب يبرره مصلحة المتهم وذلك بحمايته من
الاعتداء على حرياته وحقوقه الأساسية حتى لا يفاجأ بملاحقته عن أفعال كانت مباحة
وقت ارتكابها أو توقيع عقوبة عليه أشد من تلك التي كانت مقررة وقت ارتكابه للفعل
الإجرامي.
أما حين تقرر
قواعد التجريم والعقاب الجديدة مركزا أفضل للمتهم من المركز الذي تنص عليه القواعد
القديمة، فإن مصلحته تقتضي أن ينسحب تطبيق القانون الجديد إلى الماضي على الأفعال
اتي ارتكبها قبل نفاذه وسريانه، أي أن رجعية القواعد الجنائية الأصلح إلى الماضي
تجد تبريرا لها في تحقيق المصلحة الفردية والمصلحة الاجتماعية ككل.إلا أنه تجدر
الإشارة وأن قاعدة رجعية النص الجنائي الأصلح للمتهم تجد تطبيقها في القواعد
لموضوعية فحسب، أما القواعد الإجرائية فيطبق القانون بشأنها بأثر فوري ولو كان
أسوء للمتهم، إذ الأصل وأن الإجراء الذي يتم صحيحا في ظل قانون معمول به يبقى
صحيحا وخاضعا لأحكام هذا القانون.
كما تجدر الإشارة
كذلك وأن القوانين المؤقتة لا تسري عليها قاعدة رجعية القانون الأصلح للمتهم، فهي
تمثل استثناء على الاستثناء، وبعبارة أخرى فإن الجرائم التي ترتكب في ظل قانون
مؤقت مثل القوانين التي تصدر في حالة الحرب أو حالة الطوارئ تضل محكومة بهذا
القانون، ولا يستفيد الجاني من زوال فترة القانون المؤقت بصدور قانون جديد أصلح له
حتى ولو لم يكن صدر في الدعوى حكم نهائي وبات.
وتقتضي قاعدة
رجعية النصوص التجريمية الأصلح للمتهم أن يكون حقيقة القانون الجديد أفضل للمتهم،
وألا يكون قد صدر حكم نهائي وبات في الدعوى العمومية.
1/ أفضلية القانون الجديد للمتهم:
- إذا عرضت على
القاضي قضية جزائية قد لحق بها قانون جديد، فبأي القانونين يحكم؟
- هل يحكم بقانون
وقت ارتكاب الجريمة أم يحكم بالقانون الجديد الذي صدر قبل الحكم البات في القضية؟
إلا أنه على
القاضي أن يتقيد بما هو أصلح للمتهم طبقا لما استقرت عليه نص المادة الثانية من
قانون العقوبات، فإن كان القانون الجديد هو الأفضل فعلى القاضي تطبيقه دون أن يخير
المتهم في ذلك.
ويكون القانون
الجديد أصلح للمتهم إذا أنشأ له مركزا أو وضعا أفضل من القانون القديم، فإذا لم
يكن القانون الجديد أصلح للمتهم يستبعد تطبيقه ويطبق القانون القديم الذي كان
ساريا وقت ارتكاب الجريمة.
إلا أن المشرع
الجزائري لم يحدد المعيار الذي يعتمده من أجل تحديد القانون الأصلح للمتهم، وفي
غياب ذلك سوف نعتمد على ما استقر على وضعه الفقه والقضاء الفرنسي، من حيث جعله
لضوابط تتعلق بالتجريم وأخرى بالعقاب .
أ/ ضوابط التجريم:
يعد القانون
الجديد أصلح للمتهم في حالات التالية:
- إذا قرر إلغاء
التجريم كلية بحيث يصبح الفعل مباحا بعد أن كان مجرما.
- إذا عدل من
أركان الجريمة تعديلا من شأنه استفادة المتهم بالبراءة إذا أضيف هذا الركن.
- إذا غير القانون
الجديد من وصف الجريمة بحيث يصبح جنحة مثلا بعد أن كان جناية أو يصبح مخالفة بعد
أن كان جنحة.
- إذا أضاف المشرع
سبب من أسباب الإباحة أو مانعا من موانع المسؤولية أو مانعا من موانع العقاب أو
أضاف عذرا يعفي من العقاب كلية أو عذرا مخففا يخفض العقوبة.
ب/ ضوابط العقاب
ويكون القانون
الجديد أصلح من القانون القديم إذا حذفت العقوبة كلية أو عدلت تعديلا في صالح
المتهم ويكون التعديل في صالح المتهم إذا قرر للفعل تدبير من تدابير الأمن بدلا من
العقوبة أو إذا قرر عقوبة أخف من العقوبة المقررة في القانون القديم ولتحديد
العقوبة الأخف ينبغي مراعاة القواعد التالية:
- أن عقوبة
المخالف أخف وأصلح للمتهم من عقوبة الجنحة بصرف النظر عن نوع العقوبة وأثرها في
نفس المتهم وأن عقوبة الجنحة أخف من عقوبة الجناية بصرف النظر عن المدة.
- إذا كانت
العقوبتان مقررتان لنوع واحد من الجرائم (جنايات، جنح، مخالفات) فإن الأخف منهما
هو الأقل درجة في ترتيب العقوبات الذي وضعه القانون، وهي كالتالي الإعدام، السجن
المؤبد، السجن المؤقت، الحبس الذي يتجاوز شهرين إلى 05 سنوات ثم الغرامة أكثر من
20.000.00 دج ثم الحبس الأقل من شهرين ثم الغرامة من 20.000.00 دج فما أقل.
- إذا قرر القانون
الجديد عقوبة واحدة تكون أصلح للمتهم من القانون القديم الذي قرر عقوبتين.
- إذا قرر القانون
الجديد عقوبة واحدة تكون كذلك أصلح للمتهم إذا كان القانون القديم يقرر عقوبتين
على سبيل الجواز.
- إذا كان القانون
القديم يضيف إلى جانب العقوبة بعض العقوباتالتكميلية فإن القانون الجديد الذي
يحذفها يكون أصلح للمتهم.
- إذا اتحدت
العقوبة في القانونين من حيث النوع كالحبس مثلا فإن الأصلح بينهما هو الذي ينقص من
مدتها، وإذا هبط القانون الجديد للحد الأدنى أو الأقصى أو الحدين معا فهو بلا شك
القانون الأصلح.
ولكن الإشكال يثور
عندما يكون القانون الجديد قد هبط بالحد الأدنى وزاد في الحد الأقصى للعقوبة أو
العكس زاد في الحد الأدنى وهبط في الحد الأقصى للعقوبة، ودون الخوض في الآراء
الفقهية المتعددة، فالأرجح هو ضرورة المقارنة بين النصين، فإذا تبين للقاضي وأن
المتهم جدير بتخفيض العقوبة فإن القانون الذي يهبط بالحد الأدنى هو الأصلح للمتهم،
أما إذا تبين للقاضي وأن المتهم جدير بتغليظ العقوبة فالقانون الذي يهبط بالحد
الأقصى هو القانون الأصلح للمتهم.
2/ سريان القانون الجديد قبل صدور حكم نهائي وبات على المتهم
الحكم النهائي
البات هو الحكم الذي استنفذ جميع طرق الطعن العادية وغير العادية، ويستوي في ذلك
أن يكون الحكم قد صدر غير قابل للطعن فيه بطرق الطعن أو أن تكون مواعيد الطعن قد
انقضت أو أن تكون قد استنفذت فعلا.
ويشترط لتطبيق القانون
الجديد الأصلح للمتهم بأثر رجعي ألا يكون قد صدر حكم نهائي وبات في القضية، لأن
القول بغير ذلك سوف يؤدي إلى تعارض تام مع مبدأ قوة الأمر المقضي فيه، وتجدر
الإشارة وأن المشرع الجزائري لم يشر إلى هذا الشرط رغم ضرورته بخلاف بعض التشريعات
المقارنة مثل التشريع المصري واللبناني والسوري.
فصدور حكم نهائي
وبات يمنع سريان القانون الجديد ولو كان أصلحا للمتهم، لأنه أصبح عنوان الحقيقة
تنقضي به الدعوى العمومية ويتحدد به بصفة نهائية المركز القانوني للمتهم، وكل ذلك
بغية تحقيق الاستقرار القانوني للأحكام.
إلا أنه يستثنى من
شرط عدم صدور حكم نهائي على المتهم لتطبيق القانون الجديد الأصلح للمتهم حالة
واحدة، وهي حالة إلغاء تجريم فعل صدر على مرتكبه حكم نهائي وبات، وغالبية الفقه
يؤيد هذا الطرح على أساس أن الفعل بعد إلغاء تجريمه أصبح فعلا مباح، مما يعني أن
المشرع قد تراجع عن نظرته السابقة للفعل، ووجد أن مصلحة المتهم تقتضي عدم تجريمه،
وعليه فالإصرار على معاقبة شخص قرر القانون أن فعله أصبح غير مستحق العقاب معناه
التمسك بإدانة شخص في نظر القانون بريئا وهو أمر تأباه العدالة.
وإن هذه الحالة
كذلك لم يشر إليها المشرع الجزائري، وهو ما دعا بعض الفقه إلى إعطاء حل لتدارك هذه
الوضعية عن طريق إصدار العفو، إلا أن الحل الأمثل الذي نراه صحيحا هو النص صراحة
على رجوع القانون الجديد الأصلح للمتهم على الماضي حتى ولو صدر حكم نهائي وبات في
الموضوع إذا كان النص الجديد قد ألغى نص التجريم، وهو فعلا ما انتهجته كثيرا من
التشريعات المقارنة.
المرجع:
- عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 56 إلى ص 63.