محاضرة في الفقه الجنائي الإسلامي
"هذه المحاضرة تتضمن ملخصا لمحاضرة ألقاها المرحوم الفقيه الأستاذ الذكتور محمود نجيب حسني على طلبة كلية الحقوق بجامعة القاهرة"
تقديم:
للشريعة الإسلامية
طابع ديني لا شك في ذلك باعتبارها جوهر الدين الإسلامي ومن ثم كان تطبيقها في
المجتمع الإسلامي مطلوبا إلى الشارع في هذا المجتمع، ولكن للشريعة الإسلامية طابعا
آخر، فهي نظام تشريعي متكامل، ولها سندها من منطق سليم، ولها أسسها من قيم
اجتماعية، ولها أهدافها من مصالح للمجتمع تهدف إلى تحقيقها، ومن ثم كان لها طابع
حضاري، وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان سواء كان المجتمع إسلامي أو غير
إسلامي، وهو ما سوف نحاول تقديمه من خلال هذه المحاضرة بعد تقسيمها إلى قسمين،
القسم الأول ندرس فيه الجريمة وأركانها والقسم الثاني العقوبات وأنواعها.
أولا: الجريمة وأركانها
1/ الجريمة:
أ/ المصالح التي تحميها الشريعة الإسلامية:
إن الشريعة
الإسلامية لم تحظر على الناس أنواعا من السلوك للتضييق عليهم أو الاستبداد بهم
والتسلط عليهم، وإنما حظرت بعض الأفعال إبتغاء حماية مصالح اجتماعية تتأذى بهذه
الأفعال، أو بعبارة أخرى استهدفت صيانة مصالح المجتمع والأفراد التي تهدرها هذه
الأفعال.
وقد أصل الفقهاء
المصالح التي تحميها قواعد التجريم، فردوها إلى مصالح خمس : حفظ لدين، وحفظ النفس،
وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وتحديد المصالح محل الحماية على هذا النحو هو
عمل فقهي، ومن ثم كان من الجائز مراجعته والإضافة إليه إذا تبين أن ظروف المجتمع
الحديث تقتضي حماية مصالح أخرى.
ب/ الترجيح بين المصالح محل الحماية الجنائية:
وضع الفقهاء
القواعد التي تكفل الترجيح بين المصالح محل الحماية الجنائية إذا تنازعت، بحيث
يباح الفعل الذي يهدر مصلحة معينة، ولكونه يصون مصلحة أخرى أولى بالرعاية، كإباحة
قتل الجنين إنقاذا لحياة أو صحة الحامل، وعلى هذا النحو عرف فقهاء الشريعة
الإسلامية منذ وقت مبكر نظرية الترجيح بين المصالح المتنازعة ونظرية الإباحة التي
تستند إلى هذا الترجيح.
تعريف الجريمة:
رجح الفقه
الإسلامي التعريف التالي للجريمة "الجريمة هي محظورات شرعية زجر الله تعالى
عنها بحد أو قصاص أو تعزير" وعند التأمل في هذا التعريف نجد أن الفقهاء
جعلوا جوهر الجريمة أنها محظور شرعي أي فعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر به.
2/ أركان الجريمة:
الجريمة في
الشريعة لإسلامية مثلها مثل القانون الوضعي لها ثلاثة أركان، الركن الشرعي، والركن
المادي، والركن المعنوي.
أ/ الركن الشرعي:
ونقصد بذلك النص
الذي يجرم الفعل، ونحاول أن نتطرق في هذا الركن إلى النقاط التالية:
أ1/ مصادر التجريم والعقاب:
إن أهم مصادر
الأحكام الشرعية هي القرآن والسنة والإجماع والقياس، ولا يثور الشك أو الخلاف في
أن التجريم يكون مصدره القرآن الكريم والسنة النبوية أو الإجماع،ولكن يثور الخلاف
في شأن مصدر القياس في مجال التجريم والعقاب.
أ2/ القياس في مجال التجريم والعقاب:
إذا كنا بصدد
جرائم الحدود والقصاص فلا يجوز القياس، والمراد بجرائم الحدود مجموعة الجرائم التي
نص عليها القرآن أو السنة، وحدد لكل منها عقوبة مقدرة، وقوام هذه الجرائم أفعال
اعتبرها الشارع ذات خطورة بالغة على كيان المجتمع، فتولى بنفسه تجريمها وتحديد
عقوبتها، أما جرائم لقصاص فهي جرائم الاعتداء العمدي على الحياة أو سلامة الجسم.
وعلى هذا النحو
فإن الخلاف يقتصر على القياس في شأن جرائم التعزير، ويراد بها جرائم لم يرد في
شأنها حكم في القرآن أو لسنة، وإنما تحديدها وبيان عقوبتها لولي الأمر، أي السلطة
لعامة في المجتمع الإسلامي.
ويتصور أن تنتهج
هذه السلطة إحدى خطتين، وكلتاهما جائزتان.
- الخطة الأولى: أن تفوض القاضي لكي يستظهر من ظروف المجتمع
الأفعال الضارة أو الخطوة عليه والجديرة بالتجريم، ويحدد لها عقوبتها، وهو يحدد
الأفعال قياسا على جرائم الحدود و القصاص، أي يجعل ضابط في تحديدها أنه تهدر ذات
المصالح التي تهدرها جرائم الحدود والقصاص، ولكن في صورة أقل جسامة، أو استنباطا
من نصوص القرآن أو السنة، ويؤدي ذلك إلى جواز القياس في هذه الخطة.
-أما الخطة
الثانية: فتفترض أن يحدد الشارع الوضعي في المجتمع الإسلامي جرائم التعزير في ضوء
ظروف مجتمعه، ويعين لكل جريمة عقوبتها، ويلتزم القاضي بهذا الحصر التشريعي، ومؤدى
ذلك حظر القياس في مجال الجرائم التعزيرية.
واتبعت الخطة
الأولى في العصور المبكرة للدولة الإسلامية، ولكن تعقد الحياة وخشية استبداد
السلطات العامة وتوجس الاختلاف بين القضاة يجعل من الأوفق إتباع الخطة الثانية في
عصرنا الحالي.
أ3/ سريان الأحكام الجنائية الشرعية من حيث الزمان:
أقرت الشريعة
الإسلامية في وضوح مبدأ عدم رجعية الأحكام الجنائية الشرعية وسند هذا المبدأ على
سبيل المثال لا الحصر قول الله تعالى : "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا".
أ4/ سريان الأحكام الجنائية الشرعية من حيث المكان:
إن نقطة البداية
في هذا الموضوع هي عالمية الشريعة الإسلامية فهي واجبة التطبيق في جميع بقاع
الأرض، وعلى جميع الناس، فقد أنزلت إليهم كافة، ولكن الفقهاء اعترفوا بأن هذا
المبدأ نظري، ومن ثم يجب أن يطبق في الحدود التي تسمح بها السيادة التي تمارسها
الدولة الإسلامية على إقليمها وعلى رعاياها.
ويقتضي ذلك
التفرقة بين الجرائم التي ترتكب داخل الإقليم وخارجه، فإذا ارتكبت الجريمة في
الإقليم الخاضع لسيادة الدولة الإسلامية سرت عليها القواعد الشرعية دون التفرقة
بين جرائم المسلمين وغير المسلمين من رعايا الدولة الإسلامية بل إن هذه القواعد –
حسب الرأي الراجح – تسري على الجرائم التي يرتكبها من ليسوا من رعايا الدولة ولكن
يقيمون عادة في إقليمها وهؤلاء يطلق عليهم المستأمنين، ويمكن القول بأن الشريعة
الإسلامية تبنت في ضوء الاعتبارات العلمية مبدأ إقليمية القاعدة الجنائية.
أما إذا ارتكبت
الجريمة خارج الإقليم الخاضع لسيادة الدولة الإسلامية، وكان مرتكبها من رعاياها
مسلما أو غير مسلم، سرت عليه الأحكام الشرعية، ولكن إذا كان مرتكبها ليس من رعايا
الدولة الإسلامية ولو كان مقيما عادة في الإقليم الإسلامي ثم غادره إلى خارجه حيث
ارتكبت الجريمة فلا تسري عليه الأحكام الشرعية، وتبنت الشريعة الإسلامية في هذه
الحالة مبدأ شخصية القاعدة الجنائية.
أ5/ سريان الأحكام الجنائية الشرعية على الأشخاص:
انطلق الفقه
الإسلامي من مبدأ المساواة المطلقة بين الناس جميعا في الخضوع للأحكام الجنائية
الشرعية، فلا تفرقة بينهم حسب أجناسهم أو أديانهم أو مراكزهم الاجتماعية، وهذه
المساواة هي تطبيقا لقول الله تعالى : "إن أكرمكم عند الله أتقاكم "
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " الناس سواسية كأسنان المشط الواحد، لا فضل
لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
والنتيجة الهامة
التي استخلصها الفقهاء من هذا المبدأ أنه لا حصانة لرئيس الدولة الإسلامية نفسه
إذا ارتكب فعلا يستوجب القصاص، ولا حصانة له – حسب الرأي الراجح – إذا ارتكب فعلا
يستوجب الحدود والتعزير.
وإذا لم يكن لرئيس
الدولة الإسلامية حصانة في تطبيق الأحكام الجنائية الإسلامية، فإنه لا حصانة كذلك
لرؤساء الدول الأجنبية إذا وفدوا إلى الإقليم الإسلامي زوارا رسميين أو غير
رسميين، ولا حصانة كذلك لرجال السلك السياسي أو القنصلي الذين يعملون في إقليم
الدولة الإسلامية.ونستطيع بذلك القول بأن المساواة المطلقة بين الناس جميعا في
الخضوع للقاعدة الجنائية الشرعية هي أصل راسخ من أصول الفقه الجنائي الإسلامي.
ب/ الماديات الإجرامية:
أقر الفقه
الإسلامي المبدأ الذي سلمت به فيما بعد التشريعات الوضعية الحديثة وهو "لا
جريمة بغير ماديات تبرز بها إلى العالم الخارجي "وسند هذا المبدأ قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم :"من هم بحسنة فلم يفعلها كتب له حسنة، ومن هم
بسيئة فلم يفعلها لم تكتب له شئ"، وماديات الجريمة تتجسد في ارتكاب فعل أو
حصول ترك منهي عنه.
ولا يثير الفعل أي
إشكالات فقهية، أما الترك أو مخالفة أمر شرعيا فهو معصية، وكل معصية جريمة إذا
أمكن إثباتها قضاء، ويعني ذلك أن كل امتناع عن القيام بواجب فرضه الشارع وكان
ممكنا إقامة الدليل عليه قضاء هو جريمة تعزيرية، وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم "من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد
فليعد به على من لا زاد له".
ج/ المعنويات الإجرامية:
تقيم الشريعة
الإسلامية المسؤولية الجنائية استنادا إلى نصوص صريحة على أصلين ثابتين هما
التمييز وحرية الاختيار، أما اعتبار التمييز أساسا للمسؤولية، فسنده قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : "رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم
حتى يصحو وعن المجنون حي يفيق "وهذا الحديث يقرر امتناع المسؤولية في
الحالات السابقة لتخلف التمييز، وبصفة خاصة إنتفاء مسؤولية الصبي والمجنون.
واعتبار حرية
الاختيار شرطا ثانيا للمسؤولية، سنده قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"رفع
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ج1/ حصر المسؤولية الجنائية في الإنسان:
إن استناد
المسؤولية الجنائية على التمييز وحرية الاختيار يفترض حصرها في الإنسان، إذ هو
الذي يتصور توافرهما لديه، وعلى هذا النحو فإن الشريعة الإسلامية ترفض أن يسأل غير
الإنسان جنائيا مثل الحيوان والجماد.
ج2/ مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية:
ثمة مبدأ أساسي
يحكم نظرية المسؤولية هو مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية، وهذا المبدأ سنده قوله
تعالى :" ولا تزر وازرة وزر أخرى " وقوله تعالي : "من عمل صلحا
فلنفسه ومن أساء فعليها " وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لا يؤخذ
الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه".
ج3/ نظرية امتناع المسؤولية الجنائية:
استخلص الفقهاء في
وضوح نظرية متكاملة لامتناع المسؤولية الجنائية، فتكلموا في امتناع مسؤولية الصبي
غير المميز، والمجنون، والسكران عن غلط أو إكراه، والمكره، ومن كان في حالة ضرورة.
ويستنبط من أقوال
الفقهاء أن موانع المسؤولية لم تذكر على سبيل الحصر، فإستنادها إلى انتفاء التمييز
أو حرية الاختيار أو انتفائها معا، يقتضي اعتبار المسؤولية منتفية.
ج4/ مبدأ لا مسؤولية بغير نية إجرامية:
إذا واجهنا
المعنويات الإجرامية وجدنا أن الشريعة الإسلامية تقرر مبدأ أساسيا مؤداه أنه لا
مسؤولية بغير نية إجرامية، وسند هذا المبدأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى "وهذا الحديث يفسر أن
العمل وحده لا يكشف عن الجدارة بالمسؤولية، ولا يكشف عن مقدار ما يستحقه الإنسان
من مسؤولية، ونستطيع بناء على ذلك أن نقرر أن مبدأ" لا مسؤولية ولا عقوبة
بغير خطيئة " كان مقررا منذ مجيء الإسلام .
ج5/ مبدأ تدرج المسؤولية ( العمد والخطأ):
تقرر الشريعة
الإسلامية للمسؤولية الجنائية درجات، ويعني ذلك أنها تبنت مبدأ تدرج وتفريد
المسؤولية، وتفرق الشريعة بين مسؤولية أساسها العمد أي القصد ومسؤولية أساسها
الخطأ.
وقد ورد في شأن
الخطأ قول الله تعالى :"وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت
قلوبكم" وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
"ولا يعني هذان النصان أن المسؤولية ترتفع عن المخطئ وإنما القصد من ذلك أنها
تكون أخف درجة من مسؤولية المتعمد.
ثانيا: العقوبة وأنواعها
لا تعرف الشريعة
الإسلامية نظاما واحدا للعقوبة، وإنما تقرر أنظمة متعددة، كل نظام له فلسفته
وأصوله وأحكامه التفصيلية التي يخضع لها، وكل نظام يضم مجموعة من العقوبات.
وأنظمة العقوبات
في الشريعة الإسلامية أربعة، عقوبات الحدود وعقوبات القصاص وعقوبات الدية وعقوبات
التعزير.
وقبل أن نشير إلى
خصائص كل نظام من نظم العقوبات في الشريعة الإسلامية نعرض لأصلين تخضع لهما
العقوبات الشرعية كافة.
1/ مبادئ أساسية في النظام العقابي الإسلامي:
- المبدأ الأول: إن العقوبات الشرعية وإن بدا في بعضها شدة
وصرامة،فهي بعيدة كل البعد أن تكون تعذيبا للمجرم أو تنكيلا به، فتميزت الشريعة
الإسلامية في جميع أحكامها بطابع الرحمة بالناس جميعا، ولكنها الرحمة الحازمة،
الرحمة التي لا تتصف بالضعف، الرحمة حماية للمصلحة الحقيقة للمجرم والمجتمع، لا
مجرد التخفيف عنه والترفق به، فهي تبتغي الخير الحقيقي الآجل، ولا تتوقف عند الخير
العارض العاجل.
- المبدأ الثاني: إن العقوبات الشرعية هي عقوبات هادفة، أي
لها أغراضها التي تستمد منها علتها ومبرر شرعيتها، وقد قال الفقهاء في ذلك
العقوبات موانع قبل الفعل زواجر بعده أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل،
وإيقاعها بعده يمنع العودة إليه، وهذا القول يجعل غرض العقوبة الردع العام أولا ثم
الردع الخاص.
2/ أنواع العقوبات:
أ/ عقوبات الحدود:
الحد عقوبة مقدرة
بنص شرعي على وجه ثابت، لا يجوز للقاضي أو ولي الأمر التصرف فيه، أي أنه إذا ثبت
ارتكاب الجريمة المستوجبة للحد التزم القاضي أن ينطق بها، مالم يتوافر لمصلحة
الجاني سبب شرعي مانع من عقابه، وليس للقاضي حين يستوجب الحد أن يخفف منه أو يوقف
تنفيذه أو أن يعفو عنه، وجرائم الحدود هي الزنا، القذف، شرب الخمر، السرقة،
الحرابة، الردة، البغي.
ب/ عقوبات القصاص:
القصاص عقوبة
مقدرة كذلك بنص شرعي على وجه ثابت، ويعني القصاص إنزال أذى بالجاني يماثل الأذى
الذي أنزله بالمجني عليه.ومجال القصاص هو جرائم القتل العمدي والإيذاء البدني
العمدي، ويجوز عفو المجنى عليه عن الجاني في أي مرحلة من مراحل الدعوى، إلا أنه
إذا عفا المجني عليه عن الجاني وسقط القصاص، لا يعني ذلك أن يفر الجاني من العقاب
، وإنما يجوز أن يوقع ولي الأمر عليه عقوبة تعزيرية.
وإذا كان الأصل أن
ينفذ القصاص المجني عليه، فإنما يفعل ذلك تحت إشراف ولي الأمر، وله أن يمنعه من
تنفيذه ويتولاه بنفسه إذا خشي حيفه.
ج/ عقوبة الدية:
الدية عقوبة
مالية، وتتمثل في ما يؤديه الجاني أو عائلته إلى المجني عليه أو أوليائه، والدية
تجمع بين خصائص الغرامة والتعويض، و المجال الأساسي للدية هو جرائم القتل والإيذاء
غير العمدية، ولكن للدية مجالا ثانيا : هو جرائم القتل والإيذاء البدني العمدية
إذا امتنع شرعا توقيع القصاص، كما لو عفا المجني عليه عن الجاني أو كان الجاني غير
أهل للمسؤولية، أو استحالت المماثلة بين أذى الجريمة والقصاص، أو كان يخشي أن
تترتب عن المماثلة تلف نفس الجاني، ويجوز للمجني عليه العفو عن الدية فتسقط بعفوه
وتذهب حصيلة الدية عن المجني عليه، ويجوز لولي الأمر إذا كانت الجريمة عمدية وسقط
القصاص عنها وحلت الدية مكانها أن يضيف إليها عقوبة تعزيرية.
د/ عقوبات التعزير:
التعزير عقوبة
يقررها ولي الأمر أو القاضي من أجل معصية لم يرد في شأنها حد مقرر، وأخص ما يميز
التعزير على هذا النحو أنه ليس مقررا بنص شرعي، وإنما يقرره القاضي إذا خوله ولي
الأمر ذلك، أو يقرره ولي الأمر بنفسه في نصوص وضعية تصدر عنه، والعلة في تقرير
عقوبات التعزير إلى جانب عقوبات الحدود والقصاص والدية أن " النصوص تتناهى
ولكن مصالح العباد لا تتناهى " فمهما فصلت النصوص الأفعال التي تعد جرائم فإن
التطور الذي يطرأ على المجتمع يكشف عن أفعال لم تجرمها هذه النصوص، ولو كان بيان
الجرائم في النصوص لشرعية على سبيل الحصر لاستحال
العقاب على هذه الأفعال على الرغم من أضرارها بالمجتمع. ويتمتع القاضي في
مجال التعزير بأوسع السلطات، فيجوز أن توقع هذه العقوبة بين حد أدنى وحد أقصى
يتحرك القاضي بينهما، ويجوز تقرير أسباب تشديد أو تخفيف لها، ويجوز أن يخول للقاضي
سلطة إيقاف تنفيذها.
خاتمة:
ويخلص صاحب
الموضوع في خاتمة جميلة أن الشريعة الإسلامية – في مجالها الجنائي وسائر مجالاتها –
لا تستمد قيمتها العلمية من مقارنتها بالنظم القانونية المعاصرة، بحيث يقال أن ما
اتفقت فيه معها كان مظهر تقدم، وما خالفتها فيه كان دليل تخلف، فذلك نهج غير علمي
يفترض أن النظم المعاصرة هي مقياس التقدم والتخلف، ويفترض أنها المثل الأعلى للنظم
القانونية، وذلك غير صحيح، وإنما تقدر فيه الشريعة الإسلامية بما استندت إليه من
منطق، وما تبنته من قيم، وما استهدفت تحقيقه من مصالح، وإن الدراسة الموضوعية لها،
واستظهار نتائج تطبيقها حيث أتيح لها التطبيق يثبت أنه قد توافرت لها جميع العناصر
الإيجابية للتقييم.
المرجع:
- عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 25 إلى ص 37.