محاضرة في تعديل الدستور
تعديل الدستور:
القواعد
الدستورية هي في حقيقتها انعكاس للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في
المجتمع السياسي، تؤثر وتتأثر بها، وبما أن هذه الأوضاع في تطور وتغير مستمر، بات
لزاماً على القواعد الدستورية مواكبة التطورات المختلفة التي ترافق المجتمع
السياسي وذلك بإجراء التعديلات الضرورية والتي تفرض سنة التطور.
وفكرة
تعديل الدستور نشأت في الواقع، مع ظهور الدساتير واستقرت باستقرارها.
وتعديل
الدستور يكون على نوعين، فإذا اتبعت الإجراءات المنصوص عليها في صلب الدستور
والخاصة بتعديل أحكامه يكون التعديل رسمياً، أما إذا لم يتم التعديل وفق قواعد
الدستور نفسه فيكون التعديل عرفياً.
وكلامنا
على تعديل الدستور سينصرف على التعديل الرسمي فقط، ذلك لأننا سبق وتكلمنا على
التعديل العرفي وذلك بمناسبة الكلام على العرف المعدل. والتعديل الرسمي للدستور
يثير عدة أمور وهي:-
معرفة
السلطة المختصة بالتعديل، والقيود التي تفرض على سلطة التعديل، واخيراً اجراءت
التعديلات.
1- السلطة المختصة بالتعديل:
يميز
الفقهاء بين سلطتين هما: السلطة التأسيسية الأصلية، والسلطة التأسيسية المنشأة
(المشتقة).
السلطة
الأولى تناط بها مهمة وضع دستور لدولة جديدة أو وضع دستور جديد للدولة بدلاً من
دستورها القديم. وهذه السلطة هي التي تضع القواعد التي يتم بموجبها تكوين وتثبيت
عمل السلطات المنشأة أو المؤسسة التي يتم بموجبها تكوين وتثبيت عمل المنشأة أو
المؤسسة، كالسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. والسلطة التأسيسية الأصلية، وهي
في سبيل تحقيق هذه المهمة لا تتلقى اختصاصاتها من أي دستور قائم، فهي حرة في اختيار
الأيدلوجية أو الفلسفة السياسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة. وغني عن
البيان أن السلطة التأسيسية الأصلية هذه قد تكون فرداً واحداً وقد يكون جمعية
منتخبة من قبل الشعب أو قد تكون الشعب نفسه يمارسها بشكل مباشر.
أما
السلطة التأسيسية المنشأة (المشتقة) فهي سلطة معينة من قبل الدستور نفسه، وهي التي
تتكفل بإجراء التعديلات على دستور ساري المفعول. ولهذه تعتبر السلطة التأسيسية
المنشأة هيئة في الدولة (أي سلطة مؤسسة)، وعلى هذا الأساس تكون سلطة مقيدة بنصوص
الدستور من حيث تكوينها ومن حيث عملها.
لقد
ثار نقاش طويل بين الفقهاء بصدد الإجابة عن تساؤل مهم حول مدى صلاحية السلطة
التأسيسية في التعديل مفاده: هل تستطيع السلطة التأسيسية الأصلية (واضعة الدستور)
التدخل في أي وقت تشاء، من أجل تعديل الدستور، مهملة بذلك السلطة المختصة بالتعديل
والمنصوص عليها في صلب الدستور؟.
لقد
أيد فكرة تدخل السلطة التأسيسية الأصلية في تعديل الدستور، فقهاء القانون الطبيعي
منهم الفقيه (Vattl)، وذهبوا إلى ضرورة الموافقة الإجماعية للأمة على التعديل ذلك لأن
الدستور هو التعبير عن فكرة العقد الاجتماعي التي قام عليها المجتمع السياسي. وبما
أن هذا العقد لم يتم إبرامه إلا بإجماع الأفراد فأن أي تعديل يطرأ عليه لا يتم إلا
بذات الطريقة أي الموافقة الإجماعية للأفراد.
غير
أن هذا الرأي يؤدي إلى استحالة الإجماع في هذا الخصوص، الأمر الذي جعل الفقيه
(فاتيل) يتراجع عن رأيه، وذهب إلى الاكتفاء برأي أغلبية أفراد الجماعة على التعديل
مع اعتراف بحق الأقلية في المعارضة. أما الفقيه الفرنسي (Sieyes) فذهب إلى أن
تعديل الدستور هو حق منوط بالأمة ذاتها باعتبارها صاحبة السيادة: وهي تستطيع إن
شاءت، أن تنيب عنها ممثليها في أجراء التعديل أو أن تقوم هي نفسها بهذه المهمة
والاكتفاء في التعديل بتوافر الأغلبية.
غير
أن هذه الآراء الفقهية لم يكتب لها النجاح، فساد الاعتقاد في فقه القانون الدستوري
بإسناد مهمة تعديل الدستور للسلطة التي أناط بها الدستور هذه المهمة وبالطريقة
التي يحددها بشرط أن تراعي إجراءات التعديل المنصوص عليها في صلب الدستور.
وسلطة
التعديل هذه، كهيئة من هيئات الدولة، تكون من الناحية الدستورية في نفس المركز
تتمتع به بقية هيئات الدولة ولكن نظراً لأهمية سلطة التعديل من الناحية السياسية
فالسلطة التأسيسية الأصلية، تحاول عند
وضعها للدستور تمنح سلطة التعديل هذه إلى الهيئة التي تحرص على تفضيلها سياسياً.
فتارة
تناط سلطة التعديل بالهيئة التنفيذية أو بهيئة تخضع لأشرافها (كما كان عليه الحال
في ظل الإمبراطورية في فرنسا)، وأحيانا تناط سلطة التعديل بالبرلمان أو بهيئة
متفرعة عنه كما كان عليه الحال في ظل دستور (1875) الفرنسي وكما هو الحال في ظل
الدستور السوفيتي لعام (1977) (م174) واخيراً قد تعطي سلطة التعديل للشعب ذاته ،
الذي قد يمارسها بواسطة هيئة منتخبة من قبله كما هو الحال في أغلبية دساتير
الولايات المتحدة الأمريكية. أو يمارسها الشعب مباشرة عن طريق الاستفتاء الدستوري.
كما هو الحال في ظل الدستور الفرنسي لعام (1958) (ف2، م89).
2- القيود التي ترد على سلطة التعديل ومدى قيمتها القانونية:
سبق
أن قلنا بأن هناك اختلافاً فقهياً حول الحظر المطلق أو الجمود المطلق الكلي الدائم
للدستور من حيث مدى مشروعيته.
بيد
أن صعوبة أو تعقيد إجراءات الدستور الجامد واختلافها عن الإجراءات تعديل القانون
العادي شيء والقيود التي يفرضها المشرع الدستوري على سلطة التعديل شيء آخر. ففي الحالة الأولى تكون أمام
جمود نسبي للدستور، أما في الحالة الثانية فنكون أمام منع نسبي لتعديل الدستور
ويأخذ المنع صورتين هما، الحضر الموضوعي والحظر الزمني.
أ- الحظر الموضوعي :
وهو
المنع الذي يرد على نصوص معينة في الدستور تعالج وتجسد أحكاماً ومبادئ معينة،
يعتقد المشرع بضرورة حمايتها وذلك عن طريق حظر تعديلها، أما بصورة دائمة أو
مؤقتة. وعلى هذا الأساس فالحظر الموضوعي
يأخذ شكلين، فهو أما أن يكون حظراً دائماً أو محذرا مؤقتاً.
ومن
أمثلة الدساتير التي تحظر تعديل بعض الأحكام الواردة فيها بشكل دائم دساتير فرنسا
للأعوام (1875) (المادة الثانية من القانون الدستوري المضاف للدستور والصادر في
14/8/1884) و (1946/م950) و(1958/ف5 من المادة 89)، والتي نصت جميعها على عدم جواز
اقتراح تعديل شكل الحكم الجمهوري. وقد جاء بحظر مماثل كل من الدستور الإيطالي لعام
(1947/م139) والدستور التونسي لعام (1959/م72). أما الدستور الجزائري لعام (1976)
فقد نصت المادة (195) منه على إن أي مشروع لتعديل الدستور لا يمكن أن يمس الصفة
الجمهورية للحكم ودين الدولة والاختيار الاشتراكي والحريات الأساسية للأنسان
والمواطن ومبدأ التصويت عن طريق الاقتراع العام المباشر والسري ولا ان يمس مشروع
التعديل كذلك بسلامة التراب الوطني.
ونصت
الفقرة /ج من المادة (104) من دستور البحرين لعام (1973) على عدم جواز اقتراح
تعديل مبدأ الحكم الوراثي وكذلك الحرية والمساواة كما لا يجوز اقتراح تعديل المادة
الثانية من الدستور التي تنص على أن دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر
رئيس للتشريع، ولغتها الرسمية هي اللغة العربية. ومن هذا القبيل نصت المادة (175)
من الدستور الكويتي لعام (1962) على عدم جواز اقتراح تعديل الأحكام الخاصة بالنظام
الأميري للكويت وبمبادئ الحرية والمساواة المنصوص عليها في الدستور.
أما
الحظر الموظوعي المؤقت فيعني عدم جواز المساس ببعض نصوص الدستور خلال فترة زمنية
بسبب وجود ظروف معينة، فإذا زالت تلك الظروف ارتفع الحظر. ومن أمثلة النص على عدم
جواز تعديل النصوص الدستورية، المتعلقة بحقوق الملك ووراثة العرش أثناء الوصايا في
النظم الملكية، كما كان عليها الحال في ظل الدستور.المصري لعام (1923/م158) وفي ظل
القانون الأساسي العراقي لعام (1925/ف1 من المادة/22/0 وقد جاء الدستور الأردني
النافذ والصادر في عام 1925 بحكم مماثل في هذا الصدد/ ف2 من المادة/126)
ومن
الأمثلة الأخرى للحظر الموضوعي المؤقت ما جاءت به المادة (176) من الدستور الكويتي
والتي نصت على عدم جواز اقتراح تعديل صلاحيات الأمير المبنية في الدستور خلال فترة
النيابة عنه.
ولقد
تضمن الدستور الفرنسي لعام (1958) حظراً موضوعياً مؤقتاً مفاده عدم جواز تطبيق
المادة (89) منه (لأي سبب كان) وانتخاب رئيس جديد (انظر الفقرة/11 من المادة /7 من
دستور 1958 الفرنسي).
ب- الحظر الزمني :
يهدف
هذا الحر إلى حماية أحكام الدستور من التعديل خلال فترة من الزمن، وهذه الفترة قد
تكون محددة أو غير محددة ولكنها مؤقتة في جميع الأحوال. من أمثلة هذا الحظر ما جاء
به الدستور الفرنسي لعام (1791) الذي منع إجراء أي تعديل على نصوصه لمدة أربع
سنوات تبدأ من تاريخ نفاذه (انظر المادة الثالثة من الباب السابع بدلالة المادة
الثانية: الفصل الأول من الباب الثالث من هذا الدستور). وكذلك الحظر الزمني الذي
فرضته المادة (119) من القانون الأساسي العراقي لعام (1925) لمدة خمس سنوات تبدأ
من تاريخ نفاذه (عدا الأمور الفرعية من الدستور والتي أجازت الماد/118 تعديلها
خلال سنة واحدة فقط من تاريخ نفاذ الدستور).
كما
تضمن الدستور الكويتي لعام (1962) حظراً زمنياً. لمدة خمس سنوات تبدأ من تاريخ
العمل به (م/174). ونصت المادة (151) من الدستور السوري لعام (1973) على عدم جواز
تعديله قبل انقضاء ثمانية عشرا شهراً على تاريخ نفاذه. وقد يفرض الحظر الزمني بسبب
ظروف استثنائية يمر بها البلد كالاحتلال الأجنبي، ومثال ذلك ما نص عليه الدستور
الفرنسي لعام (1946) من عدم جواز تعديله في حالة احتلال قوات أجنبية لأرض الوطن أو
جزء منه.
أما
ما يتعلق بالقيمة القانونية للخطر الموضوعي والحظر الزمني، فهناك اختلاف فقهي حول قيمة
النصوص التي تفرض الحظر. فمن الفقهاء من ذهب إلى تجريد تلك النصوص من كل قيمة
قانونية، ذلك لأن السلطة التأسيسية الحالية لا تمنع بأية صفة في إمكانية تحديد
(تقييد) السلطة التأسيسية المستقبلية ولا يمكن والحالة هذه تبرير الجمود الدستوري
(الحظر الموضوعي والحظر الزمني) من الناحية القانونية، لأنه يتنافى مع القانون
ويتنافى كذلك مع طبيعة الأشياء، وجميع التبريرات التي قيل بصدد الجمود، وخصوصاً
فيما يتعلق بالخطر الموضوعي، وهي تبريرات سياسية الغرض منها الحفاظ على نظام سياسي
معين أو حماية فكرة أو مكسب سياسي.
ولكن
الواقع السياسي للمجتمعات لسياسية يؤكد بأن الجمود لا يتعارض دائماً مع القانون
وطبيعة الأشياء. نعم أنه يمكن أن يكون كذلك في ظل ظروف معينة ولغايات محددة. ولكنه
يمكن أن يكون أحيانا وسيلة مهمة وفعالة. للحفاظ على كل هو متقدم وسليم من المبادئ
والقيم والأفكار التي إذا ما أزيلت بالتعديل أو غيره نجم ارتداد إلى كل ما سيئ
ومتخلف، ويكفي أن نذكر كيف أن تعديلاً لإزالة القيود الدستورية المفروضة إلى
ممارسة الحكام للسلطة يمكن أن يكون حقاً متعارضاً وفكرة القانونية والدستورية
والحرية وحقوق الإنسان. ولهذا نجد أن الفقيه الفرنسي (جورج بيرو) يقول أن الحظر
الزمني بسبب الظروف الاستثنائية، كالاحتلال الأجنبي لا شائبة فيه، ذلك تفادياً من
تكرار ما حدث بفرنسا في 10/7/1940، ابان حكم المارشال (بيتان)، بعد الاحتلال
الألماني لها.
لأن
الاحتلال الأجنبي يشل في الواقع ممارسة السيادة الوطنية ويجعل من ممارسته السلطة
التأسيسية أمراً مستحيلاً وبالتالي فأن أي تعديل على الدستور في مثل هذه الظروف،
يكون معيباً.
وهذا
السبب هو الذي حدا بالمشرع الدستوري الفرنسي، بعد الحرب العالمية الثانية، أن يفرض
حظراً زمنياً مفاده عدم جواز تعديل الدستور في حالة احتلال، قوات أجنبية لأرض
الوطن أو جزء منه. (المادة/94 من دستور عام 1946).
3- إجراءات تعديل الدستور :
من
المعروف إن إجراءات تعديل الدستور الجامد تختلف عن إجراءات تعديل القانون العادي،
بيد أن هذه إجراءات تختلف من دستور لاخر. ويمكن تقسيم هذه الإجراءات إلى ثلاثة
مراحل أساسية هي: مرحلة اقتراح التعديل ومرحلة الموافقة على التعديل ومرحلة إقرار
التعديل بصيغته النهائية.
- المرحلة الأولى : مرحلة اقتراح التعديل :
اختلفت
الدساتير في الجهة التي تمنح حق ممارسة اقتراح التعديل وذلك تباعاً لاختلاف
الاتجاه السياسي الذي يتبناه الدستور. فقد يمنح الدستور هذا الحق للسلطة التنفيذية
وحدها للسلطة التشريعية وحدها، وقد يمنح الدستور هذا الحق للسلطتين معاً أو للسلطة
التشريعية والشعب. ففي ظل الدساتير التي ترمي إلى تحقيق السيطرة السياسية للسلطة
التنفيذية وتقويتها على حساب السلطة التشريعية، نجد أن حق اقتراح التعديل يقتصر
على الحكومة أو على رئيس الدولة فقط، ومن الدساتير القديمة التي أخذت بهذا الحل،
الدستور الفرنسي لعام (1852) (في نابليون الثالث)، الذي نص على أن الاقتراحات
المقدمة من قبل مجلس الشيوخ لتعديل الدستور لا يؤخذ بها إذا تبنتها الحكومة
(المادة 31 من الباب الرابع) ومن الدساتير الحديثة التي سلكت هذا الاتجاه، الدستور
الياباني لعام (1946/م72) والدستور الأردني لعام (1952/ف1من المادة/126)، وكذلك
الدستور الجزائري لعام (1976)، إذ نصت لمادة (191) منه على أن لرئيس الجمهورية حق
المبادرة باقتراح تعديل الدستور.
- المرحلة الثانية : مرحلة الموافقة على التعديل :
تعطي
غالبية الدساتير للبرلمان سلطة الفصل فيما إذا كانت هناك حاجة ملحة لأجراء التعديل
من عدمها، ذلك لأن البرلمان يعتبر أكثر هيئات الدولة صلاحية للبت في ضرورة إجراء
التعديل المقترح. وقد أخذت بهذا الاتجاه عدة دساتير منها الدستور السوفيتي النافذ،
إذ نصت المادة (174) منه على ذلك بقولها: يعدل دستور الاتحاد السوفيتي بقرار من
السوفيت الأعلى في الاتحاد السوفيتي تتخذ أكثرية لا تقل عن ثلثي عدد النواب
الإجمالي في كل من مجلسيه.
وقد
أخذ بهذا الحال القانون الأساسي العراقي لعام (1925) إذ نصت المادة (119) منه على
أن كل تعديل يجب أن يوافق عليه كل من مجلسي النواب والأعيان بأكثرية مؤلفة من ثلثي
أعضاء كلا المجلسين المذكورين.