الشريعة الإسلامية والقانون الروماني
ويتكون من فرعين:
الفرع الأول: فكرة
تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني
الفرع الثاني: دحض
هذه الفكرة
الفرع الأول: فكرة تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني
أثيرت مسألة تأثر
الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني باعتبار احتكاك النظامين في الأقاليم الشرقية
(مثل الشام ومصر) للإمبراطورية الرومانية ما دام المسلمون قد فتحوا هذه الأقاليم
واستتبت لهم الأمور فيها، وفي هذا الصدد يقول أحد المستشرقين ويتعلق الأمر
بالإنجليزي شيلدون آموس Scheldon amos
: "القانون المحمدي ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربي"، ومما استندوا إليه
لإثبات دعواهم ما يلي:
1- انتقلت قواعد القانون الروماني إلى الشريعة
الإسلامية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عارفا بهذا
القانون.
2- استقى الفقهاء
المسلمون وخاصة الإمام الشافعي والإمام الأوزاعي أحكام القانون الروماني إلى الفقه
الإسلامي بالاحتكاك بالمدارس المنتشرة في الإمبراطورية الرومانية الشرقية ولاسيما
المعهد الروماني ببيروت، كما استفادوا من الكتب القانونية الرومانية الموجودة
بمكتبة الإسكندرية.
3- ترجمة الكتاب
السوري الروماني الذي يعتبر تجميعا للقانون الروماني إلى اللغة السريانية وما ترتب
عن ذلك من انتقال قواعد القانون الروماني إلى الشريعة الإسلامية.
4- بعد الفتح
الإسلامي انتشر الفقهاء المسلمون في البلاد المفتوحة مما ساعدهم على الاطلاع على القانون
الروماني عن طريق عارفيه وأضحوا يطبقونه على رعايا هذه الأقاليم الذين ألفوه من
قبل رعاية لمصالحهم.
5- تسربت بعض الأحكام
ونظم الجاهلية والتلمود المتأصلة في القانون الروماني إلى الشريعة الإسلامية
لاعتبارين اثنين، يتمثل الاعتبار الأول في كون الشريعة الإسلامية قد أقرت بعض نظم
العرب في الجاهلية، أما الاعتبار الثاني فيكمن في استقاء الفقهاء المسلمين بعض
أحكام التلمود إلى الفقه الإسلامي.
6- إن التشابه
الموجود بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني لدليل على تأثرها به ما دامت هي
اللاحقة له.
الفرع الثاني: دحض هذه الفكرة
إن الحجج السابقة لا
يقوم أي دليل لإثباتها، ويمكن الرد عليها بدحضها واحدة تلو الأخرى كما يأتي:
1- إن النبي صلى الله
عليه وسلم نشأ في بيئة عربية أصيلة ولم يتسن له الاطلاع على القانون الروماني
لسببين: أولهما – أنه كان ملازما لمكة ولم يخرج منها إلا مرتين إلى بلاد الشام وما
مكث بها إلا قليلا، أما ثانيهما – فهو أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعرف
القراءة ولا الكتابة كما يخبرنا بذلك القرآن الكريم، فيقول تعالى: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن
كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)، (الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ).
2- أما فضل المدارس
الرومانية على الفقه الإسلامي فمجرد وهم، لأن هذه المدارس كلها قد أغلقت بموجب
دستور جستنيان المؤرخ في 16 ديسمبر 533م أي قبل الفتح الإسلامي بكثير، وقد استثنيت
من الغلق ثلاث مدارس وهي مدارس روما والقسطنطينية وبيروت بالنسبة لروما لم يفتحها
المسلمون، أما فتح القسطنطينية سنة 1493 فكان متأخرا كثيرا وفي هذه الفترة قد
تكونت المذاهب الفقهية بزمان طويل، وفيما يخص معهد بيروت فقد قضى عليه على إثر
زلزال ضرب مدينة بيروت كلها سنة 551م.
وبصدد الكتب
القانونية الموجودة في مكتبة الإسكندرية، نستغرب لأمر المستشرقين لأنهم يزعمون أن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب لعمرو بن العاص والي مصر يأمره بحرق تلك الكتب،
لأنه إن كانت توافق سنة الله ورسوله، فكتاب الله وسنة رسوله يغنيان عنها، وإن كانت
تخالفهما فحرقها يعتبر تقربا إلى الله، لكن حجتهم هذه المقامة لضرب المسلمين،
تنقلب عليهم لأنهم يعترفون بأنفسهم أن المسلمين ليسوا بحاجة للقانون الروماني.
ولو فرضنا جدلا بوجود
تلك الكتب، فإنه لن يعقل أن يطلع عليها المسلمون، لأنهم عند فتح مصر لم يكونوا
يعرفون اللاتينية ولم تترجم إلى العربية، من جهة أخرى فمن المشكوك فيه أن تكون في
تلك المكتبة كتب في القانون الروماني، لأن هذا القانون لم يكن مطبقا على الأجانب،
بل كان مقتصرا على الرومان.ومما يثبت كذلك أن فقهاء الإسلام لا علاقة لهم بالقانون
الروماني هو أن جانبا منهم ينتمون لمدرسة أهل الحديث ومنهم الإمام الأوزاعي رحمه
الله الذي اعتبره المستشرقون ممن تأثروا بالقانون الروماني، فلو كان ذلك صحيحا
لأمكن أن يكون من أصحاب مدرسة أهل الرأي.
3- أما عن ترجمة
الكتاب السوري الروماني إلى اللغة السريانية كما يذهب إلى ذلك المستشرق الإيطالي
كاروزي CARUSI،
فحجة لا يمكن أن يعول عليها، لأن المستشرق الإيطالي نالينو NALLINO يقول إن هذا الكتاب لم يترجم إلا في أواخر القرن
الثامن الميلادي وفي هذا الوقت قد تكونت الشريعة الإسلامية، إذ ظهرت مذاهب أبي
حنيفة ومالك والشافعي، وحين تمت هذه الترجمة لم يكن العرب عارفين باللغة السريانية
ولم يترجم الكتاب المذكور إلى العربية إلا في سنة 1100م، صحيح أن العهد العباسي قد
شهد حركة واسعة في الترجمة، لكن في مجال
الفلسفة اليونانية والآداب الفارسية ولم يثبت أنهم ترجموا كتابا واحدا في القانون
الروماني رغم تدوينه في مدونات رسمية من قبل جستنيان، ولم تترجم مدونة جستنيان إلى
العربية إلا منذ بضع سنين من قبل الأستاذ عبد العزيز فهمي رحمه الله، أما الكتاب
السوري الروماني فليس تجميعا لقواعد القانون الروماني، بل للأعراف المعمول بها
عهدئذ في بلاد الشام، كما أن ترجمته إلى السريانية كانت جزئية إذ ترجمت منه ثلاثة
فصول فقط.
4- وفيما يخص انتشار الفقهاء المسلمين في الأقاليم
الرومانية وتأثرهم بالقانون الروماني فهو زعم باطل لأنه كما أسلفنا اهتم المسلمون
بترجمة ما ينفعهم من العلوم فقط كالفلسفة اليونانية والآداب الفارسية ولم يثبت
تاريخيا أن ترجم العرب القانون الروماني، لأنهم علموا أن كتاب الله وسنة رسوله
يغنيانهم عن هذا القانون خاصة وأنهم يرددون قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ
عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ
كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، فكيف يشغف الفقهاء الثقاة أمثال الأوزاعي
والشافعي بقانون يقوم على التمييز العنصري في حين أن كتاب الله حافل بآيات في
المساواة وكرامة بني الإنسان وإعطاء كل ذي حق حقه، يقول تعالى: (وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم
مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلً).
بناء على ذلك لا يجرؤ فقهاء المسلمين أو قضاتهم على تطبيق القانون الروماني
على العلائق القانونية ويهجرون قول الله في أكثر من آية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً).
يمكن للفقهاء والمفتين والقضاة إعمال الأعراف السليمة على العلاقات القانونية
بين الأفراد مما ألفوه قبل الفتح الإسلامي شريطة ألا يتعارض ذلك مع الأصول العامة
للشريعة الإسلامية، وهو ما يوجد له سند في القرآن الكريم عملا بقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وما هذا إلا دليل على عظمة الشريعة وصلاحيتها
لكل زمان ومكان، لأن من أسسها دفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم كما يؤكده قوله
تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ)، وهكذا يكون هؤلاء الفقهاء قد اهتدوا إلى حكم
الشريعة الإسلامية وليس إلى ما يمليه القانون الروماني المألوف، لأن كما أشرنا من
قبل فإن إقرار واقعة قوم معينين لا يعني تطبيق شريعة هؤلاء القوم، بل تطبيق
الشريعة الإسلامية فحسب، فالصيام كتب على من قبلنا وكذلك القصاص، لكن عندما نصوم
نحن المسلمين أو نطبق القصاص، نكون قد طبقنا الإسلام وليس شريعة عيسى أو موسى
عليهما الصلاة والسلام.
5- كذلك تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني عن طريق بعض نظم الجاهلية
المتأصلة في هذا القانون لا يقوى أمام الحقائق الثابتة، فيرى المستشرق الإيطالي
نالينو NALLINO
أنه لا يوجد دليل على انتقال شيء من القانون الروماني إلى العرب، حقا لقد كانت
علاقة العرب بالرومان ضعيفة جدا، لأن التجار العرب عندما كانوا يتجهون إلى أقاليم
الإمبراطورية (بلاد الشام) لم تكن لهم الحرية المطلقة في التنقل بل عين لهم
الرومان أماكن محددة لا يمكنهم تجاوزها ويتعلق الأمر على وجه الخصوص بأسواق العقبة
وغزة وبصرى، أضف إلى ذلك أن الأمية كانت متفشية في الأوساط العربية مما لا يسمح
بالاطلاع على القانون الروماني مكتوبا.
- أما بالنسبة لتأصل كتاب التلمود اليهودي في القانون
الروماني، فهو مما لا يخطر على بال، لأن شراح القانون الروماني بعد القرن الثالث
الميلادي كانوا يؤصلون لبعض نظمة الأصل اليهودي، كما لم يستق الفقهاء المسلمون
القواعد من التلمود، لأن الشريعة اليهودية تختلف اختلافا جوهريا عن الشريعة
الإسلامية وللتدليل على ذلك نسوق الأمثلة التالية:
- عقد الزواج عند اليهود يستجيب لأشكال وطقوس خاصة،
إذ يجب النطق بعبارات خاصة، وكتابة العقد باللغة العبرية، وإقامة صلاة دينية، ولا
ينعقد العقد في أيام الأعياد والسبوت، أما في الشريعة الإسلامية فلا أثر لشيء من
ذلك في عقد الزواج ويكتفي بالتراضي بين الزوجين ووجود شاهدين.
- تعدد الزوجات عند اليهود غير محدد، بينما في الفقه
الإسلامي محدد بأربع.
- ليس للمرأة في الشريعة اليهودية التصرف في مالها،
بينما في الشريعة الإسلامية لها كل الحرية فيما اكتسبته.
- الطلاق عند اليهود يكون باتباع أشكال خاصة مثل كتابته باللغة العبرية وعدم إيقاعه في أيام
الأعياد والسبوت، بينما في الشريعة الإسلامية غير معلق على شرط معين.
- الوصية في التلمود لا تجوز لأجنبي إلا عند عدم وجود
ابن ذكر، بينما في الشريعة الإسلامية تجوز في حدود الثلث ولا أثر لإرادة الورثة في
ذلك.
- تنتقل التركة في الشريعة اليهودية مثقلة بالديون،
بينما في الشريعة الإسلامية لا تركة إلا بعد سداد الديون.
- الرضاع ليس سببا في منع الزواج في التلمود، بينما
يحرم الزواج بسبب الرضاع في الشريعة الإسلامية.
6- صحيح أنه يوجد تشابه في بعض النظم بين الشريعة
الإسلامية والقانون الروماني لكن هذا لا يعني أن الفقهاء المسلمين قد تأثروا
بمدونة جستنيان، لأن الفكر الإنساني يتشابه عندما يصل إلى درجة معينة من النضج،
وهو ما يقره المستشرقون أنفسهم عندما يلتقون مع رجال القانون في أن مبادئ القانون
الطبيعي تلهم العقل البشري مهما اختلف الزمان والمكان، وعلى هذا الأساس تشابهت في
المبادئ العامة كل من قانون حمورابي في بابل (القرن 19 ق. م)، وقانون سولون في
أثينا (القرن 6 ق.م)، وقانون الألواح الاثني عشر في روما (سنة 450 ق.م)، وقوانين
مانو في الهند، كل هذه القوانين كانت مقطوعة الصلة فيما بينها ولم يقل أحد بتأثير
أحدها على الآخر، إذا رغم الابتعاد الزماني والمكاني اتجهت الفطرة الإنسانية إلى
سن قواعد متشابهة مما يتصل بالعدالة والإنصاف، وهل يجرؤ أحد أن يقول إن فقهاء
الإسلام عاجزين عن الإتيان بمثل ما أتى به غيرهم من علم ومبادئ إن المستشرقين
أنفسهم يقرون بأن الفقهاء المسلمين اختلفوا في طريقة استنباط الأحكام عن فقهاء
الرومان، لأن الأولين وضعو ما يسمى بعلم أصول الفقه.
أكثر من ذلك فإن هؤلاء المستشرقين ليسوا أهلا للفصل
في أمور قانونية، لأنهم عديمو الصلة بهذا العلم بما أنهم مختصون في التاريخ أو
الأدب أو الفلسفة ما عدا الأستاذ لامبيرLAMBERT ناظر مدرسة الحقوق قديما بمصر، لكنه لا يعتبر
مستشرقا حقا، لأنه لم يكن عارفا باللغة العربية.كفانا إذا من الادعاءات المزيفة
لهؤلاء المغرضين الذين ما يريدون إلا التشكيك في شريعة الإسلام دون علم ولا حجة
ومثل ما يزعمون (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ
مَا لَهَا مِن قَرَارٍ).
المرجع:
- د. أعمر يحياوي، الخصائص العامة للشريعة الإسلامية، نموذج من الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم، دار هومة، الجزائر، 2009، من ص29 إلى ص 38.