الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم –الطلاق في القرآن واتفاقية إلغاء كل أشكال التمييز تجاهه النساء
إن إعجاز القرآن الكريم لا يرجع إلى ما
تضمنه من بيان وفصاحة فحسب، بل مرده إلى كونه خالدا يخاطب البشرية عبر الزمان
والمكان باعتباره ينطوي على أحكام فيها هدى وإصلاح للفرد والجماعة مما لم يصل إليه
أي قانون وضعي كما أثبتنا ذلك عندما ميزنا بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي.
إضافة إلى ما سبق يكفينا ذكر مثال واحد
لبيان سمو التشريع الرباني على ما شرعه الإنسان، فبالرجوع إلى اتفاقية إلغاء كل
أشكال التمييز تجاه النساء الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 18
ديسمبر 1979، نقرأ في المادة 16/1/ج أن الدول تلتزم بضرورة ضمان المساواة بين
الرجل والمرأة بإعطائهما الحقوق نفسها عند انحلال الزواج،إذا كان واضعو هذا النص
مكتفين بالاهتمام بتحقيق مساواة شكلية وجامدة وغير مجدية، فإن الشارع الحكيم
–الله- حريص على إدامة العلاقة الزوجية، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ
لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم
مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)،
ومن أجل إدامة المودة والرحمة بين الزوجين وضع الله تعالى مجموعة من الأحكام
للحيلولة دون وقوع الطلاق، ومن ذلك:
أ- لبعث الاستقرار والتلاحم بين أفراد
الأسرة شرع الله الحلال والحرام، فزواج المسلم بالمشركة أو المسلمة أو الزواج بزان
أو زانية مما لا يديم العلاقة الزوجية لذلك حرمهما الله على المؤمنين، قال تعالى:
(وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ
خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ
حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى
الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، (الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ
ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
ب- بعد تكوين الأسرة على أساس من
الحلال الطيب، يمكن أن تظهر بعض الخلافات لأن الإنسان خطاء بطبعه، وفي هذه الحالة
يأمر الله الأزواج معاملة أزواجهم بالحسنى، قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، حتى ولو بدا البغض من الزوج، فإن
الله يستعطفه بأسلوب رائع، ولم يجعل هذا العارض النفسي سببا في الطلاق، بل يرغبه
في زوجته ويعده بخير كثير.
جـ- لكن قد يشكل الأمر على الزوجين
ويحدث الشقاق بينهما، فبين الله لهما سبيل النجاة قائلا: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ
بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن
يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيمًا خَبِيرًا)، (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ
إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
فعن الآية الأولى يقول الإمامان
الجليلان المحلي والسيوطي عن الحكمين أنهما "يجتهدان ويأمران الظالم بالرجوع
أو يفرقان إن رأياه" أما الآية الثانية ففيها استنكار لما جبل عليه الإنسان
من البخل على صاحبه، فحث الزوجين على إدامة الصحبة بينهما، وأمر الزوج أن يحسن معاشرة
زوجته ويتقي الله فيها ليجازى عن ذلك.
د- إن لم يتمكن من الإصلاح بين الزوجين
شرع الله الطلاق، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا
اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا
أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا)، رغم حدوث الطلاق فإن الله جل وعلا لم يوصد باب
المراجعة بين الزوجين شريطة أن يكون في حدود المرتين كما جاء في قوله تعالى:
(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)،
على أن يكون ذلك أي الرجعة قبل انقضاء عدة الطلاق الأول أو الثاني، قال تعالى:
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).
هـ- كفل الله جل وعلا أثناء العدة حق
الزوجة في السكن والنفقة في قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن
وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ
أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)،
(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ)، ذلك لأن الشارع الحكيم في عدة الطلاق الأول
أو الثاني يحبب للزوجين مواصلة الحياة الزوجية ويحثهم في فترة التربص هذه على
مراجعة نفسيهما ومحاسبتهما وهو ما يتأتى بإحسان بعضهما إلى البعض، وهو ما يقصده من
قوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا).
بمقارنة المادة 16/1/جـ من اتفاقية
إلغاء كل أشكال التمييز تجاه النساء مع ما ذكر من آيات القرآن الكريم، نلاحظ عدم
اكتراث واضعي هذه الاتفاقية بما يقوي الروابط الزوجية ويديم نعمة الزواج ذلك لأنهم
يعتبرون الأحكام الإلهية من قبيل الحريات الشخصية وتناسوا العواقب الوخيمة التي
تنجر عن إطلاق العنان للأهواء والغرائز، لذلك تدخل جل وعلا لبيان الحلال والحرام
وأمر بالإحسان قبل وبعد الطلاق بل حث على الاجتهاد من قبل الحكمين لتوقي الفرقة
بين الزوجين، ووجه الإعجاز في هذه الناحية هو أن القرآن تدخل قبل وقوع الطلاق عسى
أن تستمر العشرة الزوجية وألا تنثلم أركان الأسرة.
لم يهتم القرآن الكريم بالوقاية من
الطلاق فحسب بل سوى بين الزوجين حتى في مسألة إيقاع الطلاق، فالرجل يطلق زوجته
بالإرادة المنفردة وفقا للأحكام المنصوص عليها في آيات الطلاق الواردة في سورة
البقرة وسورة الطلاق، وللزوجة مثل ذلك في إطار الخلع الثابت بقوله تعالى: (فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ).غير أن الأستاذة Lucie PRUVOST تعارض ذلك
قائلة: " يعتبر طلاق الخلع رمز اللامساواة بين الزوجين، إذا كان الزوج يستفيد
من "امتياز" الطلاق، فإن المرأة تقتصر على وسيلة "الافتداء"
لحل رابطة غير مطاقة".
أما نحن فنرد هذا الرأي لأن النتيجة
التي تترتب عن الطلاق بالإرادة المنفردة والخلع واحدة وهو الخلاص من رابطة زوجية
غير مرغوب فيها مع التعويض في كلتا الحالتين ولا يوجد أي خلاف بين الوسيلتين في
الجوهر، لكن الأستاذة الفاضلة تصر على ضرورة استعمال كلمة الطلاق الذي تعتبره
امتيازا للزوج.
ولئن كان القرآن الكريم يقيم للمساواة
وزنا إلا أن هذه المساواة قد تتعارض مع حقوق الغير في بعض الحالات مما جعل الله
سبحانه وتعالى يسند الحضانة للأم ويفضلها على الرجل لأداء هذه الأمانة.
قال تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
بناء على ما تقدم يتضح أن القانون
الدولي لحقوق الإنسان قاصر في مسألة معالجة مشكل الطلاق ويؤيده بعض الفقه الغربي
الذي يرغب حتى عن استعمال المصطلحات المتداولة في الفقه الإسلامي رغم أداء معنى
واحد – الطلاق والخلع، فهل يكن هؤلاء عداوة للحضارة الإسلامية؟!
مهما يكن فإن القرآن يقدم الحلول التي
تسعد بها البشرية جمعاء ولن يكون أرحم بالإنسان إلا الله، وعليه وجب الاهتداء
بهديه بعدما بين لنا آياته، قال تعالى: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا
النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ
الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
المرجع:
- د. أعمر يحياوي، الخصائص العامة للشريعة الإسلامية، نموذج من الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم، دار هومة، الجزائر، 2009، من ص 77 إلى ص 83.