مفهوم القانون الإداري
إن
التعامل مع القانون الإداري يظهره لأول وهلة وكأنه ذلك الفرع من فروع القانون
العام الذي يحكم وينظم الإدارة العامة، إلا أن فهم هذه الصيغة التقريبية أو
الأولية، يحتاج إلى ضبط دقيق للمفاهيم التي تتطلب في البداية محاولة وضع تعريف
للإدارة العامة (المطلب الأول)، وتنتهي بتحليل العلاقة القائمة بينها وبين القانون
(المطلب الثاني).
المطلب الأول: ماهية الإدارة العامة
يجمع
أغلب فقهاء القانون الإداري على أن كلمة إدارة (Administration) تدل في التعبير
الشائع على معنيين مختلفين، أحدهما موضوعي أو مادي، والثاني عضوي.
فوفقا
للمعنى المادي، يقصد بالإدارة النشاط (L’activité). فإدارة شيء
معناها القيام بتسييره. لذلك يقال مثلا: "إنها إدارة حكيمة للمؤسسة"،
ويقصد بذلك التسيير الحسن لشؤونها.
ووفقا
للمعنى العضوي يقصد بالإدارة تلك المنظمة، أو الهيئة، أو العضو الذي يمارس النشاط.
لذلك يقال مثلا: "دخل فلان إلى إدارة الضرائب ". ويقصد بذلك المنظمة
وليس النشاط.
وكلمة
إدارة بمعنييها السابقين (المادي والعضوي) قد تدل على إدارة خاصة (مشروع خاص) أو
إدارة عامة (مشروع عام). إلا أن الشائع في لغة القانون هو أنه عندما تستعمل كلمة
إدارة لوحدها فإن ذلك يفيد معنى الإدارة العامة باعتبارها مجموعة من الهيئات التي
تقوم بالسهر على تحقيق وتنفيذ الأعباء العامة.
وعلى
هذا يجب التمييز بين الإدارة العامة (النشاط الإداري) والإدارة الخاصة (النشاط
الفردي)، (الفرع الأول). ثم بين الإدارة العامة
ومختلف النشاطات العامة الأخرى في الدولة، والمتمثلة في التشريع، والقضاء
(الفرع الثاني).
الفرع الأول:الفرق بين الإدارة العامة ونشاط الخواص
تجدر
الإشارة بداية إلى أن كل مجهود بشري يسعى إلى تحقيق هدف معين، مستخدما في ذلك جملة
من الوسائل، وهنا يكمن الفرق بين الإدارة العامة ونشاط الخواص، ذلك أن هدف الإدارة
هو تحقيق المصلحة العامة (أولا)، كما أنه ولبلوغ ذلك تستعمل امتيازات السلطة
العامة (ثانيا).
أولا: إن هدف الإدارة العامة هو المصلحة العامة
إن
نشاط الخواص نابع عن تصرف الأفراد بغرض تحقيق مصالحهم الخاصة، أي البحث عن الربح
والنجاح في تأمين احتياجاتهم الذاتية، في حين تهدف الإدارة العامة إلى تحقيق
المصلحة العامة، أي أنها لا تسعى إلى تحقيق المصالح المادية الخاصة، التي يتميز
بها نشاط الخواص. لذلك يبقى تأمين الصالح العام هو الهدف الأساسي للإدارة. بينما
يسعى النشاط الفردي إلى تحقيق المصلحة الخاصة (الربح) بالدرجة الأولى.
ثانيا: إن وسيلة الإدارة العامة هي السلطة العامة
إن
اختلاف الأهداف يؤدي إلى اختلاف الوسائل المستعملة، وعليه فإن العلاقة بين الخواص
أساسها المساواة القانونية، أي تساوي الإرادات. فلا تعلو إرادة خاصة على إرادة
خاصة أخرى، ولا يجوز لأي إرادة خاصة أن ترغم إرادة خاصة أخرى على قبول أو إتباع إجراءات
رغما عنها، لذلك فإن الذي ينظم العلاقة بين الخواص هو العقد، أي توافق الإرادات،
طبقا لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين. بينما تسعى الإدارة إلى تحقيق المصلحة العامة،
ولن يتأتى ذلك إذا كانت الإدارة على قدم المساواة مع الأفراد. فإذا رأت الإدارة أن
هناك عدم توافق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، جاز لها أن تتدخل لتأمين
المصلحة العامة عن طريق استعمالها لوسائل السلطة العامة أي امتيازات السلطة العامة.
غير
أن استعمال الإدارة لهذه الامتيازات ليس ضروريا في كل الحالات، إذ بإمكان الإدارة
أن تلجأ إلى التعاقد مع الخواص، إذا ما تلاقت إرادتها مع إرادة الخواص. ومع ذلك
فإن التصرف المنفرد من جانب الإدارة هو الصفة المميزة والغالبة لنشاط الإدارة.
الفرع الثاني: الفرق بين الإدارة العامة وباقي النشاطات العامة في الدولة
إن
توضيح الفرق بين الإدارة العامة ومختلف النشاطات العامة الأخرى في الدولة، أو بين
الإدارة ومختلف الهيئات العامة الأخرى في الدولة، يتطلب تحليل المعنيين المختلفين
لكلمة إدارة، أي من الناحية المادية التي تفيد النشاط (أولا)، ثم من الناحية
العضوية التي تفيد معنى الهيئات العامة التي تقوم بذلك النشاط (ثانيا)، ذلك أن
العادة عندما تستعمل كلمة إدارة عامة في القانون الإداري، فإن ذلك ينصرف إلى
السلطة. ولكن معنى الإدارة قد ينصرف إلى العمل التشريعي، أو إلى العمل القضائي.
فما هو الفرق بين العمل الإداري والعمل التشريعي؟ وما هو الفرق بين العمل الإداري
والعمل القضائي؟
أولا: الفرق من الناحية المادية
للوقوف
على الفرق بين الإدارة العامة وباقي الهيئات العامة الأخرى في الدولة وفقا للمعنى
المادي، يجب التمييز بين العمل الإداري والعملي التشريعي (1) ، ثم بين العمل
الإداري والعمل القضائي (2).
1) تمييز العمل الإداري عن العمل التشريعي
إن
القيام بعملية التشريع معناها القيام بوضع قواعد عامة ومجردة من أجل تنظيم مجموعة
من النشاطات العامة أو الخاصة. إن مهمة المشرع تنتهي بعد وضع القاعدة القانونية،
أي عندما تكون القاعدة التي وضعها في غاية الإتقان من الناحية القانونية. أما
الإدارة، فإنها تتكفل بعملية التسيير، ذلك أن القيام بهذه العملية (Administrer) تعني إتمام مجموعة من الأعمال- بمرور الزمن- التي تتطلب إتباع
هدف معين. ومن هنا يمكن القول بأن العمل الإداري يبدأ بعد وضع القاعدة القانونية،
كما أن عمل الإدارة هو عمل مستمر وملموس. وهاتان الصفتان في العمل الإداري هما
اللتان تميزانه عن العمل التشريعي.
2) تمييز العمل الإداري عن العمل القضائي
إن مهمة
القضاء تتمثل في الفصل في المنازعات المعروضة عليه. والقاضي لا يفصل في المنازعات
إلا بناء على طلب، كما أن مهمته تنتهي عندما ينطق بالحكم، ويبين القاعدة واجبة
التطبيق على النزاع، والنتائج التي تترتب على ذلك.
أما
الإدارة، وٕإن كانت هي الأخرى خاضعة للقانون عند القيام بأعمالها، فإنها مع ذلك
تتدخل أو تتصرف من تلقاء نفسها دون اشتراط قيام نزاع. ومن ناحية أخرى فإن القانون
بالنسبة للإدارة عبارة عن حد وليس هدف، ذلك أنها عندما تتصرف في إطار القانون
وحدوده، فإنها لا تهدف إلى احترام القانون - كما يفعل القاضي - وٕإنما من أجل
إشباع الحاجيات العامة للمواطنين.
ثانيا: الفرق من الناحية العضوية
قد
يكون لبعض الهيئات العامة داخل الدولة نصيب في الوظيفة الإدارية، ومع ذلك فإن
مشاركتها في تلك الوظيفة تختلف باختلاف الأنظمة السياسية. والخاصية الأساسية التي
يمكن ملاحظتها في هذا المجال تتمثل في التمييز بين هيئات التحضير والتنفيذ صاحبة
العمل الإداري البحت، والمتكونة عادة من اختصاصيين في هذا الميدان، وبين هيئات
الإدارة العليا والمراقبة، والتي يجمع أعضائها بين الوظيفة الإدارية، ووظائف أخرى
عامة. إن اختصاص هؤلاء الأشخاص ونظامهم يحدده الدستور، كما أن تلك الاختصاصات
تختلف باختلاف الدساتير.
فالشيء
الملاحظ في جميع الأنظمة الدستورية، أنه يوجد على رأس الإدارة هيئات ذات طابع
دستوري وأصل سياسي. إن هذه الهيئات هي التي تتنوع بتنوع الطابع الدستوري والأصل
السياسي. فمثلا في نظام حكومة الجمعية، الذي يتنكر لمبدأ الفصل بين السلطات، تكون
الهيئات الإدارية خاضعة للجمعية (البرلمان) التي تمارس – هي بنفسها- وظيفة الإدارة
العليا (La
direction supreme). فالسلطة التنفيذية في
هذا النظام لا تعتبر شيئا مستقلا ومتميزا عن السلطة التشريعية، لذلك فإن المهيمن
الحقيقي في هذا النظام وصاحب الكفة الراجحة هو البرلمان، وهو الذي يتولى اختيار من
يقومون بأعمال السلطة التنفيذية.
أما
في الأنظمة السياسية التي تعتمد على مبدأ الفصل المرن بين السلطات، فإن السلطة
التنفيذية، ممثلة في الحكومة هي التي تكون على رأس الإدارة. ومع ذلك فإن البرلمان
يلعب دوار هاما في الوظيفة الإدارية، لأن عمله التشريعي يمتد ليشمل القوانين ذات
الطبيعة الإدارية، والتي تبين هياكل الإدارة وأهدافها ووسائلها. كما أن للبرلمان
دور فيما يتعلق بالموافقة على الميزانية مما يجعله في موقف المؤثر على النشاط الإداري.
أما
بالنسبة للقاضي، فإنه يتدخل بصفة غير مباشرة في الإدارة، وذلك عن طريق الفصل في
النزاعات التي تعرض عليه، والتي تكون الإدارة طرفا فيها.
وبالإضافة
إلى كل هذا، واستنادا على المعيار العضوي دائما، يمكن القول بأن العمل الإداري
متصل كأصل بالإدارة العامة، إلا أنه وكاستثناء - في حال إعمال المعيار الموضوعي أو
المادي - يمكن للسلطتين التشريعية
والقضائية أن تقوما بأعمال إدارية إذا تعلق الأمر بحسن سير مرفقيهما، لأنه وبالرغم
من تميزهما عن السلطة التنفيذية، إلا أنهما من الناحية الهيكلية يحتاجان إلى تنظيم
وتسيير عمل الموظفين التابعين لهما.
من
خلال كل ما سبق، يمكن القول بأن الإدارة العامة تظهر باعتبارها نشاط (المعيار
المادي) تقوم به الهيئات العامة (المعيار العضوي)، مستعملة إذا تطلب منها الأمر
وسائل وامتيازات السلطة العامة، وذلك بهدف تلبية حاجات ذات نفع عام.
المطلب الثاني: علاقة الإدارة بالقانون
تجدر
الإشارة في البداية إلى أن هناك خلاف بين الدول حول التصور العام للقانون الإداري،
ذلك أنها تختلف حول تحديد السبل الكفيلة لحمل الإدارة – باعتبارها سلطة عامة - على
احترام القانون، وبالتالي فرض الرقابة القضائية على أعمالها.
فبالرغم
من خضوع النشاط الإداري للقانون ولرقابة القضاء في معظم الدول، إلا أن الإشكال
المطروح يتعلق بنوع القاعدة القانونية المطبقة على هذا النشاط، فهل تخضع الإدارة
العامة لنفس القواعد القانونية المطبقة على الأفراد؟ أم أنها تخضع لقواعد خاصة
بها؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى هل تخضع الإدارة العامة لنفس الجهة القضائية
الفاصلة في منازعات الأفراد؟ أم أن لها قضاء مختص للنظر في المنازعات التي تكون
طرفا فيها؟
إن
لهذين التساؤلين إجابتين مختلفتين: فإما أن تخضع الإدارة لنفس القانون ،ولنفس
القاضي الذي يخضع له الأفراد في علاقاتهم المختلفة، أي للشريعة العامة (Le droit commun)، وللنظام الموحد للمحاكم
القضائية. أو أن تخضع الإدارة لقانون متميز عن القانون الذي يخضع له الأفراد،
وبالتالي لمحاكم خاصة تختص فقط بالمنازعات التي تكون الإدارة العامة طرفا فيها.
والحقيقة
أن هذين الحلين هما الغالبين، كما أنهما يجدان تطبيقات في النظم الإدراية الغربية،
والمعروفين تحت تسمية النظام الأنجلوساكسوني (الفرع الأول)، والنظام الفرنسي
(الفرع ثاني).
الفرع الأول: النظام الأنجلوسكسوني
يقال
أن الدول الأنجلوساكسونية ليس لها قانون إداري. فهل معنى ذلك أن الإدارة هناك لا
تخضع للقانون؟ إن الإجابة على هذا السؤال هي النفي طبعا. فخوفا من طغيان الإدارة
وتعسفها في تهديد حقوق وحريات الأفراد، لم يقبل الأنجلوساكونيين فكرة وجود قواعد
قانونية متميزة عن قواعد القانون الخاص لتطبيقها على الإدارة، وٕإنما اعتبروا أنه
وتحقيقا للحرية الفردية التي ينادي بها الفكر الليبرالي ،لا بد أن يخضع الأعوان
العموميون لنفس القانون الذي يخضع له كل المواطنين، وهنا فقط – حسب أريهم - يسود " مبدأ سيادة القانون فوق الجميع
بدون استثناء أو تمييز".
وٕإذا
كان المبدأ الذي سار عليه القضاء الإنجليزي هو عدم مسؤولية الإدارة عن أخطاء
موظفيها، وما تسببه هذه الأخطاء من أضرار للغير، فإن ذلك لم يكن إلا انعكاسا لمبدأ
دستوري مفاده "أن الملك لا يخطئ" المنبثق عن القاعدة الدستورية المعروفة
في النظام البرلماني الإنجليزي، والتي مؤداها أن "الملك يسود ولا يحكم"
ولذلك فلا يمكن أن يخطئ. ومن ثم فلا يجوز أن تتقرر مسؤولية الدولة عن أعمال
موظفيها، إلا إذا ارتكب هؤلاء الموظفين أخطاء أضرت بالغير.
وتأسيسا
على ما سبق لم يأخذ الأنجلوساكسونيين بنظام القضاء المزدوج الذي تأخذ به فرنسا، بل
أخذوا بنظام القضاء الموحد الذي يقضي بتخصيص جهة القضاء العادي للفصل في جميع
المنازعات الإدارية وغير الإدارية.
وتبعا
لذلك يتضح بأن الدول الأنجلوساكسونية أخذت بالمفهوم الواسع للقانون الإداري والذي
"... يشمل جميع القواعد التي تطبق على الإدارة دون النظر إلى اعتبارها قواعد
مدنية أم قواعد استثنائية...". ومن ثم فإن القانون الإداري في النظام
الأنجلوساكسوني عبارة عن "... قانون الإدارة الذي يبين تنظيم وسلطات وواجبات
الهيئات الإدارية...".
وعليه،
فإن النظام الأنجلوساكسوني أو ما يعرف كذلك بالنظام القانوني الموحد، يعني خضوع
كافة العلاقات والروابط القانونية في الدولة لأحكام وقواعد قانونية واحدة كأصل
عام، والذي قد ترد عليه بعض الاستثناءات تتعلق بمسائل تخص السلطة الإدارية في
الدولة، فتحكمها قواعد أو مبادئ مختلفة، ولكن دون أن تمس هذه الاستثناءات بالأصل
العام وهو خضوع تلك السلطة الإدارية لذات القوانين التي يخضع لها الأفراد في
الدولة.
الفرع الثاني: النظام الفرنسي
على
عكس الدول الأنجلوساكسونية التي أخذت بالمفهوم الواسع للقانون الإداري، أخذت فرنسا
والدول السائرة في فلكها بالمفهوم الفني الضيق لهذا القانون، والذي
مفاده أن القانون الإداري عبارة عن "... مجموعة القواعد القانونية المتميزة والاستثنائية
والمختلفة عن قواعد القانون الخاص المتعلقة بتنظيم الإدارة العامة وتحكم نشاطها
وما يترتب عنه من منازعات...".
وعلى
هذا، فإن النظام الفرنسي على نقيض النظام الأول، حيث أنه يرتكز على وجود قانون خاص
بالإدارة متميز عن القانون الخاص، وعلى
قضاء خاص بالإدارة متميز عن القضاء العادي وهو القضاء الإداري، وهنا تكمن أصالة
النظام الفرنسي L’originalité)).
ففرنسا
تعرف حقيقة قانونا إداريا متميزا ومستقلا عن القانون المدني، كما تعرف فرنسا من جهة
أخرى ازدواجية القضاء، وذلك نتيجة لوجود جهة قضائية خاصة بالفصل في المنازعات
الإدارية، والمستقلة عن الجهات القضائية العادية.
فالمبدأ
في فرنسا هو أن الإدارة تخضع لقواعد خاصة تختلف تماما عن القانون الخاص أو القانون
المدني، وهذا هو المقصود عند التحدث عن استقلالية القانون الإداري وأصالة قواعده،
وطابعه المخالف للقانون الخاص، إن هذا المبدأ له مظهران مختلفان أحدهما سلبي،
يتمثل في عدم تطبيق قواعد القانون الخاص، وبالأخص قواعد القانون المدني على
الأعمال الإدارية (القانون المدني لا يعد الشريعة العامة بالنسبة للقانون الإداري)،
والآخر إيجابي يتمثل في أصالة القواعد التي تخضع لها الإدارة (أي أن قواعد القانون
الإداري قواعد أصلية).
إن
هذين المظهرين تجسدا في قضية بلانكو [1](BLANCO) التي فصلت فيها محكمة التنازع الفرنسية
بتاريخ 8 فيفري 1873، والتي كانت البداية لتكريس مبدأ استقلالية القانون الإداري
من حيث القضاء المختص، ومن حيث القواعد المطبقة على المسؤولية المدنية للإدارة.
هذا
وتجدر الإشارة إلى أن القانون الإداري بالمفهوم الضيق الذي أخذ به النظام الفرنسي
لم يصل إلى هذه الاستقلالية إلا بعد تطور تاريخي. فلقد كان القانون المدني حتى
نهاية القرن XIXème هو المرجع الأول للروابط القانونية التي تنشأ بين الإدارة والأفراد في
كل ما يصدر عنها بوصفها صاحبة السيادة، ذلك أن الإدارة لم تكن تسأل عن أعمالها
التي قامت بها باعتبارها صاحبة السلطة، ولكن تسأل إذا ما تجردت عن تلك الصفة.
ولكن
بعد الثورة الفرنسية (1789)، ونتيجة للظروف الاجتماعية الخاصة بفرنسا، فسر رجال
الثورة الفرنسية مبدأ الفصل بين السلطات تفسيرا جديدا (الفصل الجامد المطلق)،
والذي لم يكن مطبقا في الدول التي كانت تأخذ به آنذاك، وهي بريطانيا والولايات
المتحدة الأمريكية. فبعد نجاح الثورة الفرنسية، قرر رجال الثورة أن استقلال السلطة
القضائية يستلزم أن تستقل الإدارة بالفصل في منازعاتها، لذلك وضعوا النص الأساسي
الصادر في 16-24 أوت 1790، الذي منع السلطة القضائية من الفصل في المنازعات التي
تكون الإدارة طرفا فيها.
وعلى
العموم يمكن القول بأن نشأة القضاء الإداري في فرنسا بمفهومه الضيق ارتبطت بالمراحل
التالية:
أولا: مرحلة الإدارة القاضية (l’administration-juge)
إذا
كان رجال الثورة قد استبعدوا اختصاص القاضي العادي بالفصل في المنازعات الإدارية،
فإنهم مع ذلك لم ينشئوا القضاء الإداري، بل عهدوا بمهمة الفصل في المنازعات
الإدارية للإدارة، ومقتضى ذلك أن تفصل الإدارة بنفسها في المنازعات التي تكون طرفا
فيها، فتصبح هي الخصم والحكم في نفس الوقت. إن هذه المرحلة هي المسماة بنظرية
الوزير القاضي (la
théorie du ministre juge) أو الإدارة
القاضية
ثانيا: مرحلة القضاء المحجوز أو المقيد (la justice retenue)
عندما
أصبح نابليون القنصل الأول للجمهورية وضع أساس مجلس الدولة الفرنسي ومعه المحاكم
الإدارية (مجالس الإقليم)، و في هذه الفترة أنشأ مجلس الدولة كهيئة استشارية أي أن
الوزير قبل أن يفصل في النزاع يستشير مجلس الدولة، ولكن لما
كان الوزير يثق في المجلس فإنه كان يأخذ في الغالب الأعم برأي المجلس، على الرغم
من أن رأيه من الناحية القانونية غير ملزم.
ثالثا: مرحلة القضاء المفوض (la justice déléguée)
عقب
قيام الجمهورية الثالثة (1872-1940)، أقر المشرع ما جرى عليه العمل، وبالتالي أصبح
مجلس الدولة يتمتع باختصاصات قضائية (قضاء إداري)، وهنا تم إنشاء محكمة التنازع،
كجهة مختصة بالفصل في إشكالات الاختصاص بين القضاء العادي والقضاء الإداري.
رابعا: مرحلة القضاء المطلق (la justice absolue)
رغم
تحول مجلس الدولة إلى هيئة قضائية إلا أنه ظل متمسكا بنظرية الوزير القاضي، وذلك
حتى أواخر القرن XIXème. فالفقه والقضاء اعتبروا أن التجديدات التي جاءت بها القنصلية في
السنة الثامنة من الثورة، لم يقصد بها إلغاء نظام الإدارة القاضية، وٕإنما مجرد
إنشاء هيئات أخرى بجوار الإدارة العامة لتختص بالنظر في المنازعات التي أعطتها
إياها النصوص، لهذا بقيت الإدارة هي الجهة القضائية ذات الاختصاص العام في
المنازعات الإدارية. أما المحاكم فلا تختص بالفصل في المنازعات إلا إذا وجد نص
يقضي بذلك صراحة. وظل الأمر هكذا إلى غاية 13 ديسمبر 1889 حين عدل مجلس الدولة
الفرنسي عن هذا التفسير، وقضى نهائيا على نظرية الوزير القاضي بمناسبة قراره
المبدئي الشهير في قضية (CADOT) إذ قبل الدعوى المرفوعة من طرف السيد "كادو" مباشرة دون مروره
بالوزير.
ومن خلال ما سبق يمكن تعريف القانون الإداري على
أنه "مجموعة من القواعد القانونية المتميزة عن قواعد القانون الخاص والتي
تنظم النشاط الإداري للأشخاص المعنوية العامة".
ومع
ذلك تجدر الإشارة إلى أن هذا التعريف نسبي، وذلك نظرا لأن نشاط الإدارة يخضع – كما
توضيحه سابقا- لمزيج من قواعد القانون العام والخاص.
فتخضع
الإدارة تارة للقانون الخاص عندما تظهر بمظهر الأفراد العاديين، كما تخضع في حالات
أخرى لقواعد استثنائية متميزة عن قواعد القانون الخاص في حالة استعمالها لامتيازات
السلطة العامة. ولذلك هناك من الفقه من يرى بضرورة تكييف التعريف السابق عن طريق
عدم تخصيصه فقط بالقواعد القانونية المتميزة عن القانون الخاص، بل بكل القواعد
القانونية التي تنظم النشاط الإداري، أيا كانت تلك القواعد، وبدون أي تمييز بينها،
سواء كانت من قواعد القانون الخاص، أم كانت من القواعد المتميزة عن القانون الخاص
والحقيقة
أنه إذا ما تم التسليم بوجهة النظر هذه، فسوف يكون من الضروري عزل بعض القواعد
القانونية من مجال القانون الإداري، طالما أنها متواجدة في التعامل بين الخواص،
ولذلك يكون من غير المستساغ تسميتها بالقواعد الإدارية.
وعلى
هذا الأساس يبقى التعريف الأول على حاله، بشرط التنبيه من الآن على أن تلك القواعد
القانونية المتميزة عن قواعد القانون الخاص، لا تحكم لوحدها كل النشاط الإداري، بل
هناك قواعد أخرى تحكم جزء من النشاط الإداري، وهي من قواعد القانون الخاص.
المرجع
- د. بلماحي زين العابدين، المدخل للقانون الإداري ونظرية التنظيم الإداري، جامعة أبي بكر بلقايد تلمسان، الجزائر، السنة الجامعية: 2015-2016، ص14 إلى ص29.
[1] تتلخص وقائع القضية
بأن بنت السيد بلانكو أصابتها عربة تابعة لمصنع التبغ فألحقت بها أضرارا
بليغة. فقام والدها برفع دعوى أمام القضاء
العادي مطالبا بالتعويض، إلا أن ممثل الدولة دفع بعدم اختصاص القضاء العادي. فأحيل
النزاع أمام محكمة التنازع ولقد قررت هذه الأخيرة أن هذا النوع من النزاع لا يمكن
أن يكون من اختصاص القضاء العادي. لمزيد من التفاصيل وللإطلاع على تعليقات الفقهاء
حول قرار بلانكو أنظر:
Marceau LONG
et al., Les grands arrêts de la jurisprudence administrative, 17ème éd.,
Dalloz, Paris, 2009, p.p. 1-7.
« … Cons. Que la responsabilité,
qui peut incomber à l’Etat pour les dommages causés aux particuliers par le
fait des personnes qu’il emploie dans le service public, ne peu être régie par
les principes qui sont établis dans le Code civil, pour les rapports de
particulier à particulier ; Que cette
responsabilité
n’est ni générale, ni absolue ; qu’elle a ses règles spéciales qui varient
suivant les besoin du service et la nécessité de concilier les droits de l’Etat
avec les droits privés ; Que, dès lors, aux termes des lois ci-dessus visées,
l’autorité administrative est seul compétente pour en
connaître ; …
» cf., T.C., 8 fév. 1873, BLANCO, précité.