مداخلة بعنوان: البدائل المستحدثة للدعوى العمومية كعلاج لأزمة العدالة الجنائية – الوساطة والأمر الجزائيين نموذجا – بقلم د. بن بادة عبد الحليم أ. بوحادة محمد سعد
الملتقى
الدولي الموسوم بـ: السياسة العقابية المعاصرة في القانون المقارن والشريعة
الإسلامية، المنعقد يومي: 05 و 06 مارس 2019، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
والعلوم الإسلامية، جامعة أحمد دراية – أدرار –
الموسم
الجامعي: 2018- 2019
البدائل
المستحدثة للدعوى العمومية كعلاج لأزمة العدالة الجنائية
– الوساطة
والأمر الجزائيين نموذجا –
من إعداد:
- الدكتور: بن بادة عبد الحليم - جامعة غرداية
- طالب دكتوراه: بوحادة محمد سعد - جامعة غرداية
مـلخـص
بعد بروز مظاهر الأزمة التي تعيشها العدالة الجنائيّة
المرتكزة في الأساس على الردع في مواجهة الظاهرة الإجراميّة، وأمام النتائج
الخطيرة التي نتجت عن تلك الأزمة والتي كان من بينها التزايد المستمر للقضايا
الجزائيّة وبالأخص البسيطة منها، حيث أصبح جهاز القضاء عاجزاً عن القيام بدوره في
تحقيق العدالة الجنائيّة المتوخّاة منه.
فتأجيل القضايا المستمر وظاهرة الحبس قصير المدّة وفشل
السجن في دوره الإصلاحي والتأهيلي وكذا سياسة الإغراق في الشكليات الإجرائيّة،
كلّها أسباب أفقدت أجهزة العدالة الجنائيّة فعاليّتها بشكل ظهر جلياً من خلال
البطء في الإجراءات والإخلال بمبدأ المساواة والحد من قدرة الجهاز القضائي على
مُواجهة الجريمة والتسبب في إدانة الأبرياء.
أمام استفحال أزمة العدالة الجنائيّة باتت الضرورة ملحّة
للبحث عن وسائل علاجيّة لتلك الأزمة، ولعلّ من بين أدوات التقليل من حدّة الأزمة؛
هي اللجوء إلى ما أصطلح عليها بالعدالة الجنائيّة الرضائيّة أو التصالحيّة ومن
أبرز صُورها هي البدائل المستحدثة للدعوى العموميّة، التي تحول دون تكديس القضايا
أمام جهاز العدالة من خلال السعي إلى حل النزاعات بطرق رضائيّة تصالحيّة بسيطة وسريعة
في الإجراءات.
الكلمات المفتاحية: عدالة
جنائيّة، وساطة جزائيّة، أمر جزائي، بدائل مستحدثة، عدالة تصالحيّة.
Abstract:
After the
emergence of many aspects of the crisis experienced by criminal justice which
is based on deterrence of the criminal phenomenon, and in front of the serious
consequences that resulted from it, including the growing number of criminal
cases, especially the minor ones, where the judiciary has been unable to play
its role in achieving the required criminal justice.
The delay of
ongoing cases, short-term imprisonment and prison failure in reform and
rehabilitation as well as the policy of dumping in procedural formalities;
these are are all reasons why the criminal justice system has been ineffective,
notably through slow procedures, breaches of the principle of equality, and the
disability of the judiciary to confront crime and even worst than that,
condemning innocent people.
In front of
the intensification of the criminal justice crisis, there is an urgent need to
find remedies for this crisis. And maybe one of the tools to reduce the crisis
is to resort to what is called Restorative criminal justice (using new
alternatives to public claim, which will be able to prevent the accumulation of
cases in front of the justice system and is aimed primarily at resolving
disputes in the simplest and quickest conciliatory ways possible.
KeyWords: Criminal
justice, criminal mediation, penal order, new alternatives, restorative justice.
مقدمة
تَعرف العدالة الجنائيّة اليوم أزمة متعدّدة الأبعاد
ومُختلفة الأسباب، ولعلّ المُطالع لأبرز مسبّبات تلك الأزمة يتّضح له جلياً
إشكاليّة التضخّم في كم الجرائم المنصوص عليها أو ما أُطلق عليه مصطلح التضخّم
التجريمي والعقابي، الأمر الذي انعكس سلباً على العدالة الجنائيّة وأدخلها في أزمة
خانقة عصفت بها وجعلتها بحاجة ماسّة لمن يُسعفها.
فالإفراط في استخدام السلاح العقابي قد خلق ضغطاً رهيباً
على أروقة المحاكم بشكل جعلها عاجزة عن الإحاطة بمختلف القضايا المعروضة أمامها،
ممّا ترتّب عنه المساس بحقوق المتخاصمين والمتمثّلة أساساً في سرعة الإجراءات والفصل
السريع في القضايا المعروضة، فمن غير المعقول أن يبقى الضحيّة لأشهر أو سنوات وهو
ينتظر من جهاز العدالة أن يُنصفه ويُعيد له حقّه المنتهك، أو أن لا يأخذ نزاعه
كامل الحق في النظر والتفحّص من طرف سلك العدالة، بحجّة التضخّم الكبير في القضايا
المعروضة أمامه والتي لا يكفي الزمن للفصل فيها كلّها بإتباع الطرق والإجراءات
العادية.
حيث لم تعد العدالة الجنائيّة قادرة على تحقيق عدالة
سريعة وفعّالة نتيجة الارتفاع المطّرد للقضايا البسيطة المطروحة أمام جهاز العدالة
للفصل فيها، ممّا ترتّب عنه مضار مثل استنفاذ جُهد القضاة ووقتهم وزيادة المصاريف
وتأخير الفصل في القضايا، وبالتالي الوصول لتقرير عُقوبات غير مُلائمة إن لم نقل
عنها بأنّها جائرة ومُضرّة بالخصوم، لتمتدّ أزمة العدالة الجنائيّة كذلك إلى غاية
تنفيذ العقوبات بالمؤسّسات العقابيّة؛ التي صارت اليوم تعيش وضعاً رهيباً بسبب الاكتظاظ،
خاصّة إذا ما علمنا وجود المئات من المساجين الذين كان من الممكن تفادي إدخالهم
للمؤسّسة العقابية لو تمّ حل قضاياهم عن طريق العدالة الجنائيّة التصالحيّة.
هذه الأزمة الخانقة التي تمرّ بها العدالة الجنائيّة قد
أهابت بمختلف المتصدّين لمهام التشريع في الدول؛ إلى البحث والتفكير جدّياً في
إيجاد بدائل مُستحدثة يتمّ بموجبها التخفيف من حدّة التضخّم التشريعي وبالتالي
التخفيف من العبء الملقى على عاتق القضاة، والذي تسبّب فيه الكم الهائل من القضايا
التي كان بالإمكان حلّها بعيداً عن أروقة العدالة وعدم تحريك الدعوى العموميّة
فيها من الأساس.
من أجل ذلك قد سلكت مُختلف التشريعات المقارنة اليوم
مسلك الأخذ بنظم إجرائيّة بديلة واستثنائية عن الطريقة الإجرائيّة المتبعة في
المحاكمة من أجل التخفيف من مظاهر أزمة العدالة الجنائيّة، وذلك من خلال إتباع
إجراءات مُبسّطة لإنهاء الدعوى العموميّة بغير الحكم القضائي، وتقرير عقوبة
رضائيّة سريعة وبإجراءات مُوجزة ومُبسطة.
لهذا جاءت هذه المداخلة من أجل البحث عن أبرز الوسائل
المعتمدة من طرف المشرّع الجزائري أثناء تصدّيه لأزمة العدالة الجنائيّة، وهو ما
لمسناه بالفعل من خلال اعتماده على إجراءات مُستحدثة وبديلة عن الدعوى العموميّة
جاء بها الأمر رقم 15-02 المعدّل والمتمّم لقانون الإجراءات الجزائيّة، الذي مثّل
في الجزائر تحوّلاً من المشرّع الجزائري نحو اعتماد العدالة الرضائيّة أو
التصالحيّة كبديل للعدالة الجنائيّة التقليديّة في المخالفات وبعض الجنح البسيطة.
لمناقشة كل ذلك لا يسعنا إلاّ أن نطرح التساؤل التالي: فيما
تتمثّل الإجراءات المستحدثة للدعوى العموميّة في التشريع الجزائري ؟.
ومن أجل الإجابة على الإشكاليّة المطروحة رأينا دراسة
الموضوع وفق الخطة التالية:
المبحث الأول: نظام الوساطة الجزائيّة
المطلب الأوّل: مفهوم نظام الوساطة
الجزائيّة
المطلب الثاني: الطبيعة القانونية لنظام
الوساطة الجزائيّة
المبحث الثاني: نظام الأمر الجزائي
المطلب الأوّل: مفهوم نظام الأمر الجزائي
المطلب الثاني: الطبيعة القانونيّة لنظام
الأمر الجزائي
المبحث الأول: نظام الوساطة الجزائيّة
بهدف مُعالجة مُختلف أنماط السلوك الإجرامي وأمام تزايد
عدد القضايا وتعقيدات الفصل فيها، أضحت السياسة الجنائيّة المعاصرة تعتمد على
آليّة الوساطة كنموذج جديد للعدالة الجنائيّة؛ تُدعّم بها سياستها في مكافحة
الإجرام وتتيح في مقابل ذلك الفرصة أمام المتخاصمين لحل نزاعاتهم وديّاً.
المشرّع الجزائري كرّس الوساطة الجزائيّة بموجب الأمر
رقم 15-02 المعدّل والمتمّم لقانون
الإجراءات الجزائيّة الجزائري، حيث تمّ بموجب المادة 08 من الأمر رقم 15-02 إتمام
الباب الأوّل من الكتاب الأول من الأمر رقم 66-155 ، بإضافة فصل ثانِ مكرّر تحت
عنوان " في الوساطة "، يتضمّن 10 مواد جديدة ابتداءاً من المادّة 37
مكرّر إلى المادة 37 مكرّر 09.
إنّ الوساطة تقوم على فكرة واحدة في جميع المواد، إلاّ
أنّ نظامها القانوني يتأثّر بالمجال الذي تُطبّق فيه، فالوساطة في المادّة
الجزائيّة هي نظام مُستقل في حدّ ذاته وله مفهوم خاص به يختلف عن باقي أنواع
الوساطة في المواد الأخرى، ويعود ذلك إلى المجال الذي تنظّمه والهدف المرجو من
تكريسها له، فضلاً عن اختلاف الشخص المسند له مهمّة التوسّط بين الضحيّة ومُرتكب
الجريمة.
المطلب الأوّل: مفهوم نظام الوساطة الجزائيّة
بحثاً عن المرونة في حل المسائل الجزائيّة، أقرّ المشرّع
الجزائري منهجاً جديداً في قانون الإجراءات الجزائيّة شكّل به خارطة طريق في
الانتقال من النمط العقابي الردعي إلى النمط التصالحي الرضائي.
المشرّع الجزائري اعتمد نظام الوساطة في سنة 2015 وذلك
من خلال تعديله لقانون الإجراءات الجزائيّة بالإضافة كذلك إلى القانون رقم 15-12
المتعلّق بحماية الطفل ، حيث خصّص له الفصل الثالث من الباب الثالث تحت عنوان
"في الوساطة".
الفرع الأول: تعريف الوساطة الجزائيّة
تشهد السياسة الجنائيّة المعاصرة تطوّرات لافتة نتيجة
الاهتمام بالمجني عليه، والأخذ بسياسة الحد من العقاب التقليدي باللجوء إلى تكريس
مفهوم جديد للعدالة الجنائيّة التفاوضيّة عن طريق إعمال بدائل المتابعة الجزائيّة،
حيث أصبحت الوساطة الجزائيّة بما تقوم عليه من تعويض المجني عليه وتأهيل الجاني
ببعض التدابير الأخرى من أهم بدائل الدعوى الجزائيّة في التشريعات المقارنة.
رغم المكانة التي تحتلّها الوساطة الجزائيّة باعتبارها
أهم بديل من بدائل الدعوى الجزائيّة في التشريع الجزائري، فإنّ المشرّع لم يتصدّى
لمهمّة تعريفها في قانون الإجراءات الجزائيّة، وإنّما نصّ فقط على مضمون الوساطة
في المادة 37 مكرّر من قانون الإجراءات الجزائيّة والتي جاء فيها: "يجوز
لوكيل الجمهورية قبل أي مُتابعة جزائيّة أن يقوم بمبادرة منه أو بناء على طلب
الضحيّة أو المشتكى منه، إجراء وساطة عندما يكون من شأنها وضح حد للإخلال الناتج
عن الجريمة أو جبر الضرر المترّتب عليها".
إلاّ أنّ المشرّع الجزائري عند اعتماده لنظام الوساطة
الجزائيّة لحل النزاعات الناشئة عن الجرائم المرتكبة من قبل الأطفال الجانحين
بطريقة وديّة تفاوضيّة، قد عرّفها في المادة 02 من القانون رقم 15-12 المتعلّق
بحماية الطفل والتي جاء فيها بأنّ الوساطة الجزائيّة "آليّة قانونيّة تهدف
إلى إبرام اتفاق بين الطفل الجانح وممثّله الشرعي من جهة وبين الضحيّة أو ذوي
حُقوقها من جهة أخرى، وتهدف إلى إنهاء المتابعات وجبر الضرر الذي تعرّضت له
الضحيّة ووضع حد لآثار الجريمة والمساهمة في إعادة إدماج الطفل".
إذاً فالوساطة الجزائيّة تُعتبر نمطاً من الإجراءات
الجزائيّة المستحدثة يقوم على الرضائيّة من أجل إنهاء المنازعات في المواد
الجنائيّة، يجوز للنيابة العامّة مُمثّلة في وكيل الجمهوريّة أن تلجأ إليه للتصرّف
في الدعوى الجزائيّة، فهي خيار يقوم على
التوفيق بين الخصوم وإعطائهم دوراً أكبر في إنهاء الخصومة بما يحقّق نوعاً من
الرضا المتبادل، مُسايرة للتطوّر الذي يعرفه مفهوم العدالة من منظور عقابي زجري،
إلى عدالة تصالحيّة إصلاحيّة تعويضيّة تسعى إلى الاهتمام بأطراف الجريمة وتتّجه
نحو تفعيل مُشاركة الأفراد في إدارة نظام العدالة الجنائيّة.
فالوساطة تتّفق مع وجود نظام الإجراءات الجزائيّة الذي
يسعى بدوره لتحقيق العدالة الاجتماعيّة وباعتبارها كذلك تُساهم في تقليص الكم
الهائل والمستمر في أعداد القضايا الزجريّة البسيطة على المحاكم الجزائيّة بما
يُساهم في تخفيف العبء عن مؤسّسة القضاء.
كما يمكن تعريف الوساطة الجزائيّة باعتبارها أداة لحل
المنازعات ذات الطبيعة الجزائيّة، محورها التفاوض بين الضحيّة والمشتكى منه؛ على
الآثار المترتّبة على وقوع الجريمة تحت رعاية عضو النيابة العامّة.
كما كانت هناك عدّة محاولات فقهيّة للوقوف على حقيقة
نظام الوساطة وتعريفه نذكر منها التعريف الذي يقول: "أنّ الوساطة
الجزائيّة من الأساليب غير التقليديّة في وأد الخصومات التي تنجم عن جرائم قليلة
الخطر وتضمن تعويضاً فعّالاً عن الأضرار التي خلّفتها الجريمة، وبها يمكن تجنّب
العقوبة السالبة للحريّة قصيرة المدّة ".
الفرع الثاني: دوافع تبنّي نظام الوساطة
الجزائيّة
لا مجال للتشكيك بأنّ موقف المشرّع الجزائري بنهجه طريق
الوساطة الجزائيّة يستند بالأساس إلى دوافع ومبرّرات يمكن إجمالها فيما يلي:
حسب المذكّرة الإيضاحيّة التي صدرت عن وزارة العدل بخصوص
التعديلات التي طالت قانون الإجراءات الجزائيّة بناء على الأمر رقم 15-02، فإنّ
هذه التعديلات تهدف إلى " تفعيل دور النيابة العامّة في مختلف مراحل
الإجراءات، إلى جانب وضع آليّات جديدة تضمن رد فعل جزائي مُلائم ومُتناسب مع
القضايا قليلة الخطورة "، على رأسها نظام الوساطة الذي يُعتبر حسب ما ورد
في المذكّرة الإيضاحيّة " آليّة بديلة للمتابعة الجزائيّة في مادة
المخالفات وبعض الجنح البسيطة التي لا تمسّ بالنظام العام والتي حّددها مشروع
الأمر على سبيل الحصر، يُلجأ إليها تلقائيّاً من طرف وكيل الجمهوريّة أو بناءا على
طلب الضحيّة، وستكون للنيابة العامّة إمكانيّة المبادرة بهذا الإجراء كلّما رأت
أنّ من شأنها وضع حد نهائي للإخلال الناتج عن الجريمة وضمان جبر الأضرار الحاصلة
للضحيّة ".
كما تُعتبر من بين أهم دوافع ومبرّرات الأخذ بنظام
الوساطة الجزائيّة هو رغبة المشرّع في العمل على تحديث وتطوير ترسانته القانونيّة
والسعي لإصلاح منظومته الجزائيّة، والتطلّع إلى التقليل من العقوبات السالبة
للحريّة كحل للقضاء على مشكل اكتظاظ
السجون.
كذلك من مبرّرات الأخذ بنظام الوساطة الجزائيّة هو
مُجابهة وتقليل الكم الهائل وغير المبرّر من القضايا الجزائيّة البسيطة المعروضة
في أروقة المحاكم والحد من أوامر الحفظ، حيث قام المشرّع الجزائري بتقنين نظام
الوساطة الجزائيّة كعلاج لظاهرة الزيادة الهائلة والمستمرّة في أعداد القضايا التي
تنظرها المحاكم، فالتفعيل الجيّد والمدروس لنظام الوساطة الجزائيّة سيؤدّي حتماً
إلى تحقيق أهداف اعتماد المشرّع لهذا النمط الإجرائي من أجل ربح الوقت والإسراع في
إنهاء القضايا، خاصّة منها ما يرتبط بالجرائم التي يستطيع فيها الفرد التنازل عن حقّه،
وإنهاء النزاعات القائمة في بعض الجرائم بعيداً عن المحاكم واقتصار دور القضاء على
النظر في القضايا الخطيرة، ممّا يخفّف العبء على المحاكم والسجون وخزينة
الدّولة.
كما تُساهم الوساطة الجزائيّة باعتبارها أحد الوسائل
التي تهدف إلى تقوية مجالات الصلح بين الضحيّة والمشتكى منه، بالإضافة إلى تحقيقها البحث عن جوهر النزاع بين
الأطراف والعمل على مُعالجته بوضع الحلول المناسبة له.
الفرع الثالث: خصائص الوساطة الجزائيّة
تتميّز الوساطة الجزائيّة ببعض الخصائص التي تميّزها عن
غيرها من بدائل الدعوى العموميّة وتجعلها بديلاً حقيقيّاً عنها، في وقت أصبح
المتضرّر من الجريمة يهتمّ في المقام الأوّل بتعويض ما أصابه من الجريمة وتراجع
اهتمامه بحبس الجاني أو توقيع العقاب عليه بعد ظهور الأنظمة البديلة للعقوبة.
أوّلاً: الطبيعة الاختياريّة للوساطة الجزائيّة
من خلال قراءة أوّليّة لنص المادة 37 مكرّر في فقرتها
الأولى من قانون الإجراءات الجزائيّة،
يتبيّن لنا أنّ وكيل الجمهوريّة يملك سلطة تقديريّة في مدى جدوى اللجوء إلى
أسلوب الوساطة الجزائيّة، وبالتالي فإنّ اللجوء إلى الوساطة الجزائيّة إجراء جوازي،
فطالما أنّ النيابة العامّة تملك حق تحريك الدعوى العموميّة ومُباشرتها، فإنّ
اللجوء إلى الوساطة إجراء اختياري جوازي تلجأ إليه بمبادرة منها أو بناء على طلب
مُرتكب الأفعال الإجراميّة أو الضحيّة، لأنّ النيابة العامّة بيدها تحريك الدعوى
العموميّة أو حفظها أو طلب فتح التحقيق حولها، كما يُمكن لوكيل الجمهوريّة رفض طلب
الوساطة رغم طلب أحد الطرفين أو كليهما إذا قدّر بأنّ الوقائع خطيرة أو اختار
تحريك الدعوى العموميّة.
ثانياً: الطبيعة الوقتيّة للوساطة الجزائيّة
يُقصد بهذه الخاصيّة أنّه يشترط لصحّة العمل بالوساطة
الجزائيّة أن يتمّ تقريرها من طرف وكيل الجمهوريّة قبل أي مُتابعة جزائيّة، بناءاً
على ما نصّت عليه المادة 37 مكرّر من قانون الإجراءات الجزائيّة التي جاء فيها: "
يجوز لوكيل الجمهورية قبل أي مُتابعة جزائيّة... ".
الأمر الذي يعني أنّ إجراء الوساطة الجزائيّة مُعلّق على
شرط ذو طبيعة زمنيّة يوجب استخدامه خلال مرحلة البحث والاستدلال، ولا أدلّ على ذلك
عنوان الباب الأوّل من الكتاب الأوّل المعنون بـ " في البحث والتحرّي عن
الجرائم ".
ثالثاً: الوساطة إجراء رضائي
من خلال نص المادة 37 مكرّر الفقرة 01 يتبيّن لنا أنّ
تقنين المشرّع الجزائري لنظام الوساطة معناه أنّ وكيل الجمهورية يمنح لطرفي النزاع
( الضحية والمشتكى منه ) الفرصة وبرعايته الشخصيّة؛ على استبعاد القواعد
القانونيّة القابلة للتطبيق بطبيعتها، وترك المجال لإرادتهما من أجل الاتفاق وبكل
حريّة على ما من شأنه أن يضع حداً للإخلال الذي خلّفته الأفعال التي تكتسي طابعاً
مُجرّماً وما قد يتطلّبه الأمر من تعويض وجبر الضرر، أو كما أفصح عنه قانون حماية
الطفل في المادة الثانية منه، وأطلق عليه المساهمة في إعادة إدماج الجانح.
فالرضائيّة في مجال الدعوى الجزائيّة هي المبدأ الذي
بمقتضاه يتّفق كل من قُضاة الأمور الجنائيّة والأطراف الخاصّة (الضحيّة والمشتكى
منه)، على استبعاد القواعد القانونيّة القابلة للتطبيق بطبيعتها.
أي يمكن القول من خلال كل ذلك أنّه يجوز لكلا الطرفين
التوقّف عن الاستمرار فيها، فإذا كان يحقّ للأطراف عدم الموافقة على الوساطة منذ
البداية؛ فلهما من باب أولى التوقّف عن مُواصلة عمليّة الوساطة.
رابعاً: الوساطة الجزائيّة نموذج بديل للدعوى العموميّة
الوساطة الجزائيّة آليّة تسمح برد السلطة للأطراف لتسيير
النزاع القائم بينهما وتمنحهم مجالاً واسعاً للالتقاء، كما أنّ الشفويّة والمناظرة
تمكّنهم من التعبير المباشر عن أحاسيسهم وتبادل أسباب النزاع، من خلال اللقاء
المباشر فقط يتمكّن الأطراف من إيجاد طُرق جبر الضرر، بسبب ما توفّره من تفاعل
يمكّن من إعادة النزاع إلى إطاره وتحليل أسبابه العميقة بعيداً عن الأحكام
الشكليّة للإجراءات القضائيّة وتفعيل حركيّة الحلول البديلة المستقاة من
العدالة.
إذاً فإنّ الوساطة الجزائيّة قد مثّلت بديلاً للدعوى
العموميّة من حيث أنّها قدّمت الإمكانيّات والوسائل للهيئات القضائيّة لتمكينها من
الرد السريع والفعّال على الجرائم البسيطة والمساهمة في تنظيم حياة أفراد المجتمع،
وهو ما يؤدّي إلى رد الثّقة للمواطن تجاه المؤسّسة القانونيّة.
إذاً فالوساطة الجزائيّة هي طريقة خاصّة لاستبعاد
الإجراءات الجزائيّة أو بالأحرى بديل عن الدعوى العموميّة، فهي وسيلة لفض النزاعات الجزائيّة تهدف إلى رفع
الضرر عن المجني عليه بتعويضه تعويضاً عادلاً ومُناسباً مع الأخذ بعين الاعتبار
إعادة تأهيل الجاني.
خامساً: الوساطة الجزائيّة آليّة لنشر العدالة التفاوضيّة
في حال نجاح الوساطة فسوف تؤدّي بطبيعة الحال إلى
التصالح وتنمية روح التسامح بين المشتكى منه والضحيّة باعتبارهما عناصر في
المجتمع، من خلال الاتفاق على جبر الضرر وإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل ارتكاب
الوقائع المجرّمة دون الحاجة إلى مُتابعة جزائيّة قد تؤدّي إلى تذكية روح الانتقام
وتمديد أمد الكراهيّة، فالوساطة الجزائيّة تهدف إلى تحقيق بُعد إنساني في
الإجراءات الجزائيّة عن طريق اعتماد حلول أكثر مُرونة وفعاليّة مع السرعة في مُواجهة
القضايا الأقل خطورة.
المطلب الثاني: الطبيعة القانونية لنظام الوساطة الجزائيّة
الوساطة الجزائيّة سُلطة خوّلها القانون للنيابة العامّة
قبل تقدير مُلائمة تحريك الدعوى العموميّة، بموجبها يعرض وكيل الجمهوريّة على
الأطراف إمكانيّة اللجوء إليها.
حيث يُعتبر من بين شروط تطبيق الوساطة الجزائيّة هو ضمان
أن تؤدّي إلى جبر الضرر ووضع حد للإخلال الذي نتج عن ارتكاب الجريمة، أو تؤدّي إلى
إصلاح وتأهيل المتّهم، وأن تكون إجراءات الوساطة الجزائيّة سابقة على تحريك الدعوى
العموميّة حتى يتسنّى لوكيل الجمهوريّة استعمال سُلطته في تقدير مُلائمة تحريك
الدعوى العموميّة.
بالإضافة إلى وجوب اعتراف الجاني بالجرم المنسوب إليه،
فإنّه لا يمكن بأيّة حال من الأحوال اعتبار مُوافقة الضحيّة على الوساطة الجزائيّة
لا تمنع الضحيّة من الرجوع على المتهم بدعوى مدنيّة، علاوة على أنّه يمكن لهذا الأخير
العدول عن مُوافقته فتأخذ الإجراءات صُورتها العاديّة.
الفرع الأول: شروط الوساطة الجزائيّة
يُعتبر نظام الوساطة الجزائيّة من أهم الحلول المعوّل
عليها للتخفيف من أزمة العدالة الجزائيّة، كونه نظام إجرائي يترتّب عليه أثار
موضوعيّة، إذ يسمح من خلال الرضائيّة بإقحام الإرادة الخاصّة للأفراد؛ ليس فقط في
تحديد مصير الدعوى العموميّة بل التأثير في مصير العقوبات والتدابير اللاّزمة
لإزالة أثار الجريمة بالتعويض، مع الحفاظ قدر المستطاع على مصالح المتّهم وإعادة
تأهيله بلمسة أكثر لطف، بدلاً من أن يكون تحت وطأة العدالة الجزائيّة المفروضة
التي تعني احتكار الدعوى العموميّة من طرف النيابة العامّة واحتكار الدّولة لسلطة
العقاب.
ونظراً لأهميّة نظام الوساطة الجزائيّة فقد أحاطها
المشرّع الجزائري بجملة من الشروط الكفيلة بضمان صحّتها الإجرائيّة والموضوعيّة
وإنتاجها للآثار المرجوّة من اللجوء إليها.
أوّلاً: شروط متعلّقة بأطراف الوساطة الجزائيّة
تتميّز الوساطة الجزائيّة بأنّها ذات علاقة ثلاثيّة
الأطراف، تضمّ الوسيط والذي هو وكيل الجمهورية ( أوّلاً )، والضحيّة ( ثانياً )،
والمشتكى منه ( ثالثاً ).
01- وكيل الجمهورية: يحتل وكيل
الجمهورية في ظل نظام الوساطة الجزائيّة دوراً محورياً بناء على نص المادة 37
مكرّر من قانون الإجراءات الجزائيّة، بما يُوحي أنّ وكيل الجمهوريّة يتمتّع
بالسلطة التقديريّة في قبول أو رفض الوساطة الجزائيّة ولو اتفق الأطراف على جميع
مُقتضياتها ونتائجها، فوجود وكيل الجمهورية كطرف في نظام الوساطة يحفظ لذلك النظام
الصبغة الجزائيّة، ولأنّ الضرر الناتج هو نتيجة فعل مُجرّم قانوناً ووكيل
الجمهوريّة يمثّل النيابة العامّة التي أوكَل لها المجتمع سلطة تحريك ومُباشرة
الدعوى العموميّة، فعلى عاتق النيابة العامّة يقع إثبات الجريمة.
لهذا فإنّه يُشترط لتطبيق نظام الوساطة الجزائيّة وجود
دعوى عموميّة في حوزة النيابة العامّة، وهو ما يتطلّب ضرورة توافر مُفترضات
تحريكها والتي تتمثّل في وقوع الجريمة ونسبتها إلى شخص معيّن، أي أن يكون هناك
سلوك مجرّم قانوناً وأن يتمّ نسبته إليه وأن يكون هناك ضرر لحق بالضحيّة.
02- الضحيّة: هو أحد أطراف
العمليّة التصالحيّة إذ بسببه تُحرّك آليّة الوساطة الجزائيّة وتُفعّل الإجراءات
الخاصّة بها، فلا يُتصوّر وجود عمليّة وساطة دون وجود ضحيّة الفعل الإجرامي.
فالضحيّة هو الشخص الذي أهْدَرت الجريمة إحدى مصالحه
المحميّة بمقتضى قانون العقوبات.
لهذا اشترط المشرّع مُوافقة الضحيّة على إجراء الوساطة
الجزائيّة، حيث أنّ موافقته تُعتبر أحد أبرز مظاهر التطوّر في السياسة الجنائيّة
المعاصرة التي تُعطي للضحيّة دوراً بارزاً بالمساهمة في الإجراءات الجزائيّة، وأنّ
الوساطة الجزائيّة تسمح لإعطائه الترضية المعنوية باعتراف المشتكى منه بالمعاناة
التي تسبّب له فيها والاعتذار منه، وهو الأمر الذي يحول دون شعور الضحيّة بالغضب
والرغبة في الانتقام.
03- المشتكى منه: الواقع أنّ
مُصطلح المشتكى منه الذي يُشير إلى مُرتكب الجريمة في مرحلة ما قبل تحريك الدعوى
العموميّة، هو الذي رآه المشرّع الجزائري يتّفق مع مجال تطبيق الوساطة الجزائيّة.
ويُقصد بالمشتكى منه هو الشخص مُرتكب الجريمة سواء كان
فاعلاً أصليّاً أو شريكاً، فنظام الوساطة
الجزائيّة له فائدة مُضافة للمشتكى منه وذلك من خلال تحديد مستقبله، بدل ترك مصيره
مجهولاً وحكراً على النيابة العامّة التي يمكنها إتّباع الإجراءات العاديّة.
حيث يُشترط في المشتكى منه أن يتمتّع بالأهليّة
الجزائيّة أي أن يبلغ من العمر 18 سنة كاملة، إلاّ أنّه وفي حالة عدم توافر هذا
الشرط فإنّه لا يمنع من اللجوء إلى ما يسمّى بوساطة الأحداث الجانحين وفق ما
تقرّره أحكام المادّة 111 من القانون رقم 15-12 المتعلّق بحماية الطفل.
كما يُشترط في المشتكى منه إقراره بارتكاب الجريمة كلّها
أو بعضها، فهو بذلك تصرّف إرادي ينسب به إلى نفسه ارتكاب وقائع معيّنة مُجرّمة،
المشرّع الجزائري أغفل النص صراحة على شرط الإقرار؛ إلاّ أنّه شرطٌ مُفترض للسير
في إجراءات الوساطة، وهو لصيق بشرط الرضا من أجل السماح للشخص المشتبه فيه من
الاستفادة من تدابير تفضيليّة نظير اعترافه بالوقائع.
كذلك يُشترط رضا المشتكى منه لإجراء الوساطة الجزائيّة
باعتبارها من النظم الرضائيّة البديلة،
فرضا المشتكى منه في الحقيقة يلعب دوراً كبيراً في التقليص من المناقشة
والمرافعة حول إذنابه وتطبيق العقوبة، وبالتالي فإنّ اختيار إجراءات من طبيعة أخرى
يُضفي عليها الطابع العقدي للإجراءات، كما
يستجيب لمتطلّبات الشرعيّة في انتقاء المعاملة العقابيّة المناسبة.
ثانياً: شروط متعلّقة بالجريمة
يشترط المشرّع الجزائري في المادة 37 مكرّر 02 من قانون
الإجراءات الجزائيّة، قبل عرض الوساطة على الضحيّة والمشتكى منه، أن يكون الفعل
الذي يُنسب لهذا الأخير مُخالفة أو إحدى الجنح المذكورة حصراً في الفقرة الأولى من
المادّة 37 مكرر 02.
أمّا بالنسبة للطفل الحدث فإنّه يجوز إجراء الوساطة في
كل الجنح والمخالفات طبقاً لنص المادة 110 من القانون رقم 15-12 المتعلّق بحماية
الطفل، بغض النظر عن نوع الجريمة وطبيعتها
وخُطورتها لتشمل حتى الجرائم المقرّرة في القوانين الخاصّة باستثناء الجنايات التي
لا يجوز فيها الوساطة.
نُشير إلى أنّ الجرائم المذكورة في الفقرة الأولى من المادة
37 مكرر 02، تُعتبر من أكثر الجرائم انتشاراً وأكثر القضايا المطروحة أمام الجهات
القضائيّة من حيث الإحصائيّات، وبالتالي فقد تتسبّب في تعطيل السير العادي لمرفق
القضاء ومنع الفصل في القضايا ضمن الآجال المعقولة وبصفة فعّالة، وأنّ تلك الجرائم
في العادة ما تُقترف في إطار روابط مُشتركة بين الخصوم تستوجب إعادة الحال إلى ما
كان عليه مثل الجرائم التي تُرتكب في إطار الأسرة أو بين الجيران أو الزملاء في
العمل.
ثالثاً: شروط متعلّقة بأهداف الوساطة الجزائيّة
شُرع نظام الوساطة لتحقيق أهداف معيّنة، وهي المنصوص
عليها في المادة 37 مكرّر من قانون الإجراءات الجزائيّة والتي تتمثّل فيما يلي:
01- وضع حد للإخلال الناتج عن الجريمة: إنّ وضع حد
للإخلال الناتج عن الجريمة أو ما يسمّى كذلك بإنهاء الاضطراب الناشئ عن الجريمة،
مُرتبط بنوع الجريمة التي يُمكن أن تكون محلاً للوساطة الجزائيّة.
فكلّما كانت الجريمة بسيطة كلّما كان وضع حدٍ للإخلال
الناتج عن الجريمة سَهلاً وممكناً، في حين إذا تعلّق الأمر بجريمة خطيرة وتمس
بقواعد النظام العام بشكل جسيم، فإنّ وضع حدٍ للإخلال الناتج عنها لا يكون إلاّ
بتطبيق العقوبة التي تهدف في الأصل إلى إنهاء الاضطراب الاجتماعي وإعادة الاستقرار
للمجتمع.
02- جبر الضرر المترتّب عن الجريمة: يُشترط
لتطبيق الوساطة الجزائيّة إمكانيّة إصلاح ما لحق بالضحيّة من ضرر أصابه جرّاء
الفعل الذي أتاه المشتكى منه، فرد الاعتبار وجبر الضرر الواقع على الضحيّة من
الأهداف الأساسيّة للوساطة الجزائيّة، سواء كان بإعادة الحال إلى ما كانت عليه أو
بتعويض مالي أو عيني أو صورة من صور جبر الضرر بشرط ألاّ يخالف القانون.
03- المساهمة في إعادة إدماج مُرتكب
الجريمة: لم ينص المشرّع الجزائري على هذا الشرط ضمن أحكام
المادّة 37 مكرّر من قانون الإجراءات الجزائيّة خلافاً للمشرّع الفرنسي الذي أقرّه
صراحة في المادة 41-01 من قانون العقوبات الفرنسي، والمقصود بإعادة إدماج مُرتكب
الجريمة، هو إعادة تأهيل المشتكى منه وإصلاحه من جديد وهذه الأفكار نادت بها حركة
الدفاع الاجتماعي الجديد، ويتمّ ذلك من خلال لجوء النيابة العامّة إلى تحديد ما
إذا كان من الملائم اللجوء إلى الوساطة أو ما يسمّى بالتفريد الإجرائي؛ ليس فقط
بفحص الجريمة بل بفحص شخصيّة المتّهم والبحث في وضعه المالي والعائلي والاجتماعي،
ومدى مُساهمته في الحياة العامّة والأعمال التطوّعيّة وحياته الأسريّة، ومدى نجاحه
في العمل والدراسة، وطالما اتّضح للنيابة
العامّة إمكانيّة تأهيل المتّهم وإصلاحه لاسيما أنّ الوساطة تقود إلى تحقيق غاية
مُثلى ومُهمّة في سبيل تأهيل الجاني، وهي أنّها تُجنّبه احتمال إدانته بعقوبة
سالبة للحريّة قصيرة المدّة وما ينجرّ عن ذلك من أثار مُدمّرة على حياته العائليّة
والاجتماعيّة والمهنيّة.
الفرع الثاني: إجراءات الوساطة وأثارها
تمرّ الوساطة بعدّة مراحل تبدأ باتفاق الأطراف على
اللجوء إليها ثُمّ إجراء المفاوضات بشأن تسوية النزاع، وأخيراً تنفيذ محضر الاتفاق
المُبرم، لتترتّب عنها في النهاية أثار قانونيّة ذكرها المشرّع في نصوص قانونيّة
مُتفرّقة من قانون الإجراءات الجزائيّة.
أوّلاً: إجراءات الوساطة الجزائيّة
تتمثّل مراحل إجراء الوساطة في عدّة خُطوات تبدأ بإحالة
الخصومة على الوساطة وتنتهي بالتفاوض والاتفاق.
01- مرحلة إحالة الخصومة على الوساطة: هذه المرحلة
يختص بها وكيل الجمهورية باعتباره الجهة صاحبة الرأي في إحالة القضيّة سواء
بمبادرة منه أو بناء على طلب أحد الأطراف أو محاميهما، على أن يقوم بهذا الإجراء
قبل أي مُتابعة جزائيّة.
02- الاتصال بالضحيّة والمشتكى منه: يجب على وكيل
الجمهوريّة أن يتّصل بالضحيّة والمشتكى منه بُغية إخبارهم بأنّ نزاعهم سيُحلّ
وديّاً عن طريق الوساطة، وينبغي لوكيل الجمهوريّة أن يحدّد لكل طرف من أطراف
النزاع موعداً لمقابلته على حدى قبل لقائهما معاً، والغاية من هذا اللقاء المنفرد
يَكْمن في تمكينه من معرفة وجهة نظر الطرفين في موضوع النزاع وتحديد طلباتهم، وفي
هذه المرحلة يستطيع من خلال لقائه بالضحيّة لشرح شكواه أن يمتص غضبه بما يساعد على
التخفيف من حدّة المقابلة عند لقائه واجتماعه بالمشتكى منه.
03- شرح قواعد الوساطة: يقوم وكيل
الجمهورية في اتصاله الأوّلي مع طرفي الخصومة بشرح قواعد الوساطة وطبيعة عمله
كوسيط وأنّه ليس قاضياً يتولّى الفصل في النزاع، وإنّما دوره مُحدّد في إطار تحقيق
أهداف الوساطة الإنسانيّة.
04- مرحلة التفاوض والاتفاق: في هذه
المرحلة يبدأ التفاوض بين الضحيّة والمشتكى منه بحضور مُحاميهما وتحت إشراف وكيل
الجمهوريّة الذي لا يتدخّل في موضوع وشروط الاتفاق إلاّ إذا ما وقع تعارض مع
القانون، وتنتهي الوساطة إمّا إلى اتفاق يُعرض على التنفيذ في أجل محدّد أو
بالفشل.
تتمثّل أهميّة إبرام اتفاق الوساطة في أنّه يتمّ فيه
تحديد التزامات كل طرف اتجاه الطرف الأخر تحديداً نافياً للجهالة، الأمر الذي
يؤدّي إلى توخّي النزاع مستقبلاً عند تنفيذ محضر الاتفاق.
أمّا عن مضمون الاتفاق فيجب أن يتمثّل على الخصوص
في:
- إعادة الحال إلى ما كانت عليه.
- تعويض مالي أو عيني عن الضرر.
- كل اتفاق غير مُخالف للنظام العام لقواعد محدّدة
للسلوك أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل.
في الأخير يُفرّغ اتفاق الوساطة في محضر يتضمّن هويّة
وعنوان الأطراف، وعرضاً مُوجزاً عن الأفعال المرتكبة وتاريخ ومكان وقوعها، فضلاً
عن بيان مضمون الاتفاق وآجال تنفيذه على أن يكون المحضر مُوقّع من طرف وكيل
الجمهورية وأمين الضبط بالإضافة إلى الأطراف، وتسلّم نُسخة إلى كل طرف عند استيفاء
شروط تدوين المحضر، يُعَدُّ هذا الأخير سنداً تنفيذيّاً يمكن بمقتضاه طلب التنفيذ.
كما أسلفنا فإنّه في حال توصّل الضحيّة والمشتكى منه لحل النّزاع وديّاً
برعاية وإشراف النيابة العامّة، يتعيّن أن يدوّن اتفاق الوساطة الجزائيّة في محضر
يتضمّن البيانات التالية:
- كل البيانات المتعلّقة بأطراف النزاع.
- عرض موجز للأفعال بتاريخ ومكان ارتكابها.
- مُحتوى الاتفاق الناشئ عن إجراء الوساطة.
- تحديد مدّة تنفيذ هذا الاتفاق.
على أن يتمّ توقيع هذا المحضر من طرف وكيل الجمهورية
وأمين الضبط والأطراف المعنيّة وتُسلّم نسخة منه إلى طرفي النزاع.
كما يركّز وكيل الجمهورية في المحضر على موافقة الضحيّة
والمشتكى منه على المشاركة في عمليّة الوساطة، ولا تتم تلك الموافقة إلاّ كتابيّاً
من طرفهما من أجل الاستمرار في إجراء الوساطة الجزائيّة.
ثانياً: أثار الوساطة
يترتّب عن اللجوء إلى أسلوب الوساطة الجزائيّة أثار عدّة
تختلف حسب مآلها، وهي لا تخرج عن نوعين من الآثار، واحدة تترتّب على نجاح تنفيذها
والثانية تترتّب على فشل أدائها.
01- آثار مُترتّبة على نجاح إجراء الوساطة
في حالة قبول
الوساطة وبغرض عُبور الأطراف إلى التسوية الوديّة للنزاع، يُحدّد أجل لتنفيذ ذلك
الاتفاق، حيث أنّه خلال هذا الأجل يتمّ تعليق تقادم الدعوى العموميّة وإسقاط
إجراءات المتابعة الجزائيّة حال القيام بتنفيذه.
فالمادة 37 مكرّر 07 من قانون الإجراءات الجزائيّة؛
أقرّت صراحة بضرورة وقف سريان تقادم الدعوى العموميّة خلال أجل تنفيذ اتفاق
الوساطة، وهذا رغبة من المشرّع في الحفاظ على مصالح الضحيّة من جهة ومنع المشتكى
منه من المماطلة في تنفيذ اتفاق الوساطة والاستفادة من مزايا التقادم من جهة أخرى.
ففي حالة قيام المشتكى منه بتنفيذ الالتزامات الواقعة
عليه بموجب اتفاق الوساطة وخلال الأجل المحدّد لذلك يترتّب عليه انقضاء الدعوى
العموميّة في مواجهته، وما يترتّب على ذلك أيضاً من عدم جواز الادعاء المباشر على
ذات الواقعة وعدم الاعتداد بالواقعة كسابقة في العود وعدم جواز تسجيلها في صحيفة
السوابق العدليّة للمشتكى منه.
02- الآثار المترتّبة على فشل إجراء الوساطة
لا يجوز بأي حال من الأحوال الطعن في اتفاق الوساطة
الجزائيّة، وفي حالة فشل الاتفاق أو عدم تنفيذ الأطراف لالتزامات الاتفاق يتم
تدخّل وكيل الجمهوريّة من خلال البدء في الدعوى العموميّة من جديد، حيث يقوم وكيل
الجمهورية بتحرير محضر عدم الاتفاق في حالة الفشل، ويستردّ وكيل الجمهورية سُلطته
في تحريك الدعوى العموميّة، ويرجع فشل الوساطة إلى عدّة أسباب منها تعثّر التفاوض
وتقاعس المشتكى منه في تنفيذ التزاماته وتعنّت الضحيّة في التفاوض، ففشل الوساطة الجزائيّة يُعتبر سبباً لاستعادة
حق الدّولة في العقاب، حيث أنّ فشل تكريس
أهداف آلية الوساطة الجزائيّة لا يُلغي إمكانية السير في إجراءات تحريك الدعوى
العموميّة.
كما أقرّ المشرّع الجزائري في نص المادة 37 مكرّر 09،
بتعريض الشخص الممتنع عمداً عن تنفيذ ما ورد في محضر اتفاق الوساطة خلال الأجل
المعيّن لذلك؛ للعقوبات المحدّدة في المادة 147 في فقرتها الثانية من قانون
العقوبات الجزائري، التي أقرّت بمتابعة ومُعاقبة كل شخص امتنع عمداً عن تنفيذ
اتفاق الوساطة؛ بجريمة التقليل من شأن الأحكام القضائيّة، وبالتالي فالجزاء
المقرّر حسب نص المادة 144 من قانون العقوبات الجزائري المحال إليها بمقتضى المادة
147 سالفة الذكر، هو عقوبة الحبس من شهرين
إلى سنتين وبغرامة من 20.000 دج إلى 100.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، مع
عدم المساس بجوازيّة أمر القاضي بنشر الحكم وتعليقه بالشروط المحدّدة وذلك على
نفقة المحكوم عليه، ودون أن تتجاوز تلك المصاريف الحد الأقصى للغرامة المذكورة
أعلاه.
المبحث الثاني: نظام الأمر الجزائي
تبنّى المشرّع الجزائري في تعديله لقانون الإجراءات
الجزائيّة بموجب الأمر رقم 15-02، نظام الأمر الجزائي كبديل من بدائل الدعوى
العموميّة بعد الوساطة الجزائيّة، حيث كان الغرض من اعتماده تخفيف العبء عن القضاء
والإسهام في التقليل من كم القضايا المعروضة عليه، كما يهدف إلى تبسيط الإجراءات
واختصارها والتقليل من الجهد والنفقات سواء أكان ذلك بالنسبة للخصوم أو جهاز
العدالة الجنائيّة.
المطلب الأوّل: مفهوم نظام الأمر الجزائي
يُعدّ الأمر الجزائي صورة من صور الإدانة بغير مُرافعة،
كما يعتبره البعض الأخر من الوسائل البديلة للمتابعة الجزائيّة، والذي اُستحدث في
الأنظمة التشريعيّة استجابة لنداءات الفقه الجنائي المعاصر والتي تقضي بضرورة
تبسيط إجراءات التقاضي واختصارها وتخفيف العبء على القاضي والمتقاضي.
الفرع الأول: تعريف الأمر الجزائي
لقد أخذ المشرّع الجزائري بنظام الأمر الجزائي وذلك بعد
أن قام بتبنّيه بموجب القانون رقم 78-01،
المتضمّن تعديل قانون الإجراءات الجزائيّة في المادة 392 مكرّر منه، إذ جاء
في الفقرة الأولى منها: "يبثّ القاضي في ظرف عشرة أيّام ابتداءاً من
تاريخ رفع الدعوى دون مُرافعة مُسبقة بإصدار أمر جزائي يتضمّن الحكم بغرامة لا
يمكن أن تكون في أي حال من الأحوال أقلّ من ضعف الحد الأدنى المقرّر للمخالفة"، يُلاحظ على نص المادة 392 مكرّر أنّ أحكام الأمر الجزائي تقتصر على
المخالفة فقط دون الجنح، إلاّ أنّ المشرّع وسّع من نطاق الأخذ به بموجب الأمر رقم
15-02 المتضمّن تعديل قانون الإجراءات الجزائيّة ليشمل الجنح، وذلك بموجب المادة
333 والمادة 380 مكرّر منه، كما أشار المشرّع الجزائري إلى إجراءات إصداره دون أن
يضع له تعريفاً تاركاً ذلك للفقه.
اختلف الفقه في تعريف الأمر الجزائي، حيث ذهب البعض منه
إلى تعريفه بأنّه " أمر قضائي بتوقيع العقوبة المقرّرة قانوناً للجريمة دون
اتخاذ الإجراءات العاديّة للدعوى الجنائيّة من تحقيق ومُحاكمة، ومن ثمّة تنقضي به
سُلطة الدّولة في العقاب إذا قبل المتّهم وإلاّ تتّبع الإجراءات العاديّة ".
كما عُرّف كذلك بأنّه "أمر قضائي يفصل في موضوع
الدعوى الجنائيّة دون أن تسبقه إجراءات مُحاكمة جرت وفقاً للقواعد العامّة وترهن
قوّته بعدم الاعتراض عليه خلال الميعاد الذي يحدّده القانون".
كما عُرّف بأنّه "عرض بالصلح يصدر من القاضي أو
النيابة العامّة وللمتهم أن يقبله وفي هذه الحالة تنقضي الدعوى الجنائيّة وله أن
يعترض ومن تمّ تنعقد الخصومة الجنائيّة وتتمّ المحاكمة وفقاً للإجراءات العاديّة".
على العموم يمكن القول أنّ نظام الأمر الجزائي هو من
الأنظمة الإجرائيّة التي تقتضي التبسيط والاختصار في الإجراءات وتحقيق العدالة في
أقصر وقت ممكن في القضايا البسيطة قليلة الأهميّة التي لا تستلزم طبيعتها اللجوء
إلى إجراءات طويلة مُفصّلة، لذلك لا يستلزم في إصداره توفّر شروط مُعقّدة صعبة،
وإنّما شروط بسيطة سهلة تكاد غالبيّة التشريعات التي أخذت بنظام الأمر الجزائي
تتفق عليها.
الفرع الثاني: خصائص الأمر الجزائي
يمكن من خلال التعريفات السابقة للأمر الجزائي، استظهار
بعض الصفات التي تميّز هذا الطريق الإيجازي للفصل في الخصومة، فهو يتميّز بأنّه
مسألة جوازيّة، كما يتميّز بأنّه إجراء مُوجز، ويتميّز باقتصاره على الجرائم
البسيطة.
أوّلاً: الأمر الجزائي إجراء جوازي
من الخصائص
التي يتميّز بها نظام الأمر الجزائي أنّه نظام جوازي يمكن للجهة القضائيّة إعماله
أو تركه، وهذا ما يظهر جلياً من خلال نص المادة 380 مكرّر 02 من قانون الإجراءات
الجزائيّة التي تنص على أنّه "إذا قرّر وكيل الجمهورية إتباع إجراءات
الأمر الجزائي يُحيل ملف المتابعة مُرفقاً بطلباته إلى محكمة الجنح، يفصل القاضي
دون مُرافعة مُسبقة بأمر جوازي يقضي بالبراءة أو بعقوبة الغرامة، وإذا رأى القاضي
أنّ الشروط المنصوص عليها قانوناً للأمر الجزائي غير مُتوفّرة فإنّه يعيد ملف
المتابعة للنيابة العامّة لاتخاذ ما تراه مناسباً وفقاً للقانون"، من
خلال ذلك يمكن القول أنّ النيابة العامّة لها أن تُحيل الملف لمحكمة الجنح،
ويُخوّل للقاضي إصدار الأمر الجزائي كما يجوز للقاضي أن يرفض طلب النيابة العامّة
ولا يُصدر الأمر الجزائي لعدم توفّر شُروطه.
كما أنّ الأمر الجزائي إجراء جوازي بالنسبة للخصوم، حيث
أنّ للمتهم حق القبول به أو الاعتراض عليه وهو الوضع الذي سلكته أغلب التشريعات
حين أعطت للخصوم الحق في قبوله أو الاعتراض عليه.
وبالتالي فلا النيابة العامّة مُلزمة باللجوء إليه ولا
القاضي مُلزم بقبول طلب النيابة العامّة، حيث له رفض إصداره حتى ولو توفّرت
شروطه.
ثانياً: الأمر الجزائي من الإجراءات الموجزة
يتميّز الأمر الجزائي بالإيجاز والتبسيط فهدفه اختصار
الجهد والوقت والنفقات بالشكل الذي يؤدّي إلى الفصل في الدعوى وتحقيق العدالة
الرضائيّة، فهو يصدر بعد الاطلاع على الأوراق ودون حضور المتّهم أو مناقشته أو
سماع دفاعه، وهو ما نصّت عليه المادة 380
مكرّر 02 الفقرة الثانية من قانون الإجراءات الجزائيّة التي جاء فيها: "يفصل
القاضي دون مُرافعة مُسبقة بأمر جزائي يقضي بالبراءة أو بعقوبة الغرامة".
ثالثاً: الأمر الجزائي محلّه الجرائم البسيطة
يُعتبر الأمر الجزائي إحدى صور العقوبة الرضائيّة، فهو
خروج على القواعد العامّة للمحاكمة، ومن تمّ راعت التشريعات التي أخذت بهذا
النظام؛ تحديد مجال تطبيقه وحصره في أضيق نطاق سواء فيما يتعلّق بالجريمة التي
يجوز فيها إصدار الأمر الجزائي أو فيما يتعلّق بالعقوبة التي يجوز توقيعها بهذا
الطريق.
يقتصر تطبيق الأمر الجزائي على الجرائم قليلة الأهميّة
أو ما يُعرف بالجرائم البسيطة، وهي المخالفات والجنح البسيطة التي لا تتعدّى عقوبة
الحبس المقرّرة لها سنتين، كونها جرائم في الغالب لا تبيّن عن خطورة إجراميّة لدى
الجاني، بل في الغالب لا يُتطلّب فيها القصد الجنائي، كما أنّها جرائم تتميّز
بأنّها لا تشكّل خطورة كبيرة على المجتمع.
الفرع الثالث: مبرّرات الأخذ بنظام الأمر الجزائي
كما ورد في عرض الأسباب للأمر رقم 15-02 المعدّل
والمتمّم لقانون الإجراءات الجزائيّة، فقد جاء نظام الأمر الجزائي ضمن آليّات
جديدة تضمن رد فعل جزائي مُلائم وتتناسب مع القضايا المختلفة، وأنّ هذا النظام
يستهدف مُعالجة الجنح البسيطة في إطار تجسيد إحدى التوصيات التي قدّمتها اللجنة
الوطنيّة لإصلاح العدالة.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ نظام الأمر الجزائي يكفل سرعة
الفصل في الدعاوى الجزائيّة الناشئة عن الجرائم ذات الخطورة البسيطة كثيرة العدد،
ويعمل على تبسيط إجراءاتها ممّا يؤدّي إلى توفير الوقت والجهد والاقتصاد في مصاريف
القضايا، فهو يخفّف العبء على المحاكم الجزائيّة لكي تتفرّغ لنظر القضايا الهامّة
وبالنتيجة تحقيق سرعة الفصل في القضايا.
كما يرى البعض أنّ تبرير الأخذ بنظام الأمر الجزائي يكمن
أساساً في الوجهة العمليّة وحدها دون الجوانب النظريّة، فهناك من الجرائم بسيطة
العقوبة التي تغلب أن تكون عناصرها من الوضوح والبساطة بحيث لا تقتضي إجراءات
مُحاكمة تفصيليّة.
المطلب الثاني: الطبيعة القانونيّة لنظام الأمر الجزائي
لا يزال الأمر الجزائي يكتنفه جدل فقهي من حيث طبيعته
القانونيّة، بسبب خروجه عن القواعد المستقرّة في المحاكمات الجزائيّة وتشابهه مع
بعض الأنظمة المقاربة له، ولعلّ السبب في ذلك راجع إلى إدخال هذا النظام دُفعة
واحدة كنظام مُتكامل في مُختلف التشريعات بما فيها التشريع الإجرائي الجزائري،
الأمر الذي أثار مُشكلة تكييفه وتصنيفه بين مختلف الموضوعات المنظّمة للإجراءات
الجزائيّة.
الفرع الأوّل: التكييفات الفقهيّة لنظام الأمر الجزائي
أوّلاً: إضفاء صفة الحكم على الأمر الجزائي
ذهب أنصار
هذا الاتجاه إلى اعتبار الأمر الجزائي حكم، إلاّ أنّه يستمد قوّته بعدم الاعتراض
عليه، ولكنّهم اختلفوا في طبيعة ذلك الحكم، فمنهم من اعتبره حكم معلّق بشرط عدم
اعتراض المحكوم عليه أو عدم حضوره وإذا كان قد اعترض فيجب أن لا يحضر للجلسة
المحدّدة للنظر في الاعتراض، حيث يصدر الأمر الجزائي بعد مُحاكمة مُوجزة فاصلاً في
موضوع الدعوى، فهو حكم إذا تمّ قبوله وتنفيذه ولم يُعترض عليه وفقاً للقانون.
ومن تمّ فإنّ الأمر الجزائي يعدّ بمثابة حكم جنائي
بالإدانة فور صيرورته نهائيّاً وحائزاً لحجيّة الأمر الجزائي المُقضى به.
كما ذهب الفريق الثاني إلى اعتبار الأمر الجزائي ذو
طبيعة خاصّة تتلاءم مع التنظيم الخاص للخصومة الجنائيّة الذي أراده المشرّع، ففي
حالة توافَرَ للأمر الجزائي الخصائص الموضوعيّة في الحكم وإن كان يختلف في بعض
الشروط الشكليّة، فمن ناحية المضمون والجوهر يُعتبر حكماً، إذ هو قرار صادر من
القاضي بتطبيق القانون على الحالة المعروضة وينهي الخصومة الجنائيّة إثر النطق به
مثله في ذلك مثل الحكم تماماً.
ثانياً: تكييف الأمر الجزائي حسب المراحل التي يكون فيها
يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى تقسيم المراحل التي يمرّ
بها الأمر الجزائي إلى مرحلتين، الأولى مُتعلّقة بصدور الأمر الجزائي والثانية
تتعلّق بعدم الاعتراض عليه.
ذهب الرأي القائل برفض إضفاء صفة الحكم على الأمر
الجزائي عند صدوره باعتباره إخطار للمتهم ليختار بين الإجراءات الموجزة والإجراءات
العاديّة، وفي حالة الاعتراض عليه يُصبح شبيهاً بالحكم واجب التنفيذ.
بينما يرى أنصار الاتجاه الذي يقول بأنّ الأمر الجزائي
مشروع حكم عند صدوره وحكم إذا لم يُعترض عليه، فهو حسبهم عند صدوره يُعتبر "مشروع
حكم"، ويتحوّل بعد ذلك إلى حكم له كل الآثار المعتادة للأحكام إذا لم
يعترض عليه المتّهم والنيابة العامّة، ذلك أنّ الفكرة الأساسيّة في هذا النظام
تقول أنّ القاضي يعرض على المتّهم مشروع تسوية في شأن إنهاء موضوع الدعوى
العموميّة، إن شاء قبله فوفّر على نفسه أعباء التقاضي ونفقاته وتفادى احتمال أن
يَقضى عليه القاضي بعقوبة أشد.
أمّا الرأي الأخير في هذا الاتجاه فقد اعتبر الأمر الجزائي
حكم غيابي عند صدوره، وحكم نهائي إذا لم يُعترض عليه، وهو رأي أسّسه جانب من الفقه
الفرنسي، والذي يرى بأنّ الأمر الجزائي عند صدوره يُعتبر كحكم غيابي، حيث حينها
يكون المحكوم عليه لم يحدّد موقفه بعد من حيث قبوله أو رفضه، فإذا قبل الخصم
اُعتبر كحكم نهائي وما دام أنّ الأمر الجزائي ينطبق عليه وصف الحكم يترتّب عليه ما
يترتّب على سائر الأحكام من الآثار، كاعتباره سابقة في العود بحق المتّهم.
الفرع الثاني: شروط الأمر الجزائي
إنّ إصدار نظام الأمر الجزائي يتمّ وفق شروط سهلة تكاد
أغلب القوانين التي أخذت بهذا النظام تتّفق عليها بما فيها التشريع الجزائري، وهي
لا تخرج عن الشروط الموضوعيّة والشروط المتعلّقة بالجريمة.
أوّلاً: الشروط الموضوعيّة
- اشترط المشرّع في نص المادّة 330 مكرّر 01 من قانون
الإجراءات الجزائيّة أن لا تطبّق إجراءات الأمر الجزائي على المتّهم الحدث، وبالتالي
يجب أن يكون المتّهم بالغاً حتى يطبّق عليه نظام الأمر الجزائي.
- أن يكون المتّهم شخصاً واحداً، باستثناء الجرائم التي
يتورّط فيها كل من الشخص الطبيعي والشخص المعنوي معاً، حيث نصّت المادّة 380 مكرر
07 من قانون الإجراءات الجزائيّة على أنّه: " باستثناء المتابعات التي
تتمّ ضد الشخص الطبيعي والمعنوي من أجل نفس الأفعال، لا تتّخذ إجراءات الأمر
الجزائي إلاّ إذا كانت المتابعة ضد شخص واحد ".
- يجب أن تكون هويّة المتّهم معلومة، وهو ما اشترطته
المادّة 380 مكرّر 04 من قانون الإجراءات الجزائيّة، التي اشترطت على وكيل
الجمهورية قبل أن يُحيل على محكمة الجنح ملف المتابعة وفقاً لإجراءات الأمر
الجزائي أن تكون هويّة مُرتكبها معلومة.
- رضا المتّهم وهو شرط تضمّنته المادة 380 مكرّر 04 من
قانون الإجراءات الجزائيّة التي نصّت: "وفي حالة عدم اعتراض المتّهم فإنّ
الأمر الجزائي يُنفّذ وفقاً لقواعد تنفيذ الأحكام الجزائيّة"، من خلال
المادّة يتّضح جلياً أنّ نظام الأمر الجزائي شأنه شأن الأنظمة الرضائيّة الأخرى
قوامه الرضائيّة كسمة من سمات العدالة الجنائيّة الحديثة، من خلال إشراك المتّهم
في الحصول على سبق عقابي، بفضل اللّجوء إلى الرضا في خضم الخصومة الجزائيّة،
والسماح له بالموافقة على العقوبة بعيداً عن زخم المحاكمة الجزائيّة أو أن يكون
محلاً لها.
ثانياً: الشروط الموضوعيّة للجريمة
بالنظر إلى أحكام الأمر رقم 15-02 المعدّل
والمتمّم لقانون الإجراءات الجزائيّة وما تضمّنه في المواد 380 مكرّر وما يليها،
يمكن إجمال الشروط الواجب توفّرها في الجريمة محل الأمر الجزائي وفق ما يلي:
- أن تكون الجريمة المرتكبة تحمل وصف الجنحة، وبالنتيجة
فإنّ الجنايات مُستبعدة من تطبيق هذا النظام.
- أن تكون الجنحة مُعاقباً عليها بغرامة و/أو الحبس
لمدّة تساوي أو تقل عن سنتين.
- الوقائع المسندة للمتهم قليلة الخطورة ويرجّح أن
يتعرّض مُرتكبها لعقوبة الغرامة فقط.
- أن لا تكون الجنحة مُقترنة بجنحة أو مخالفة أخرى لا
تتوافر فيها شروط تطبيق الأمر الجزائي.
- أن لا تكون هناك حقوق مدنيّة تستوجب المناقشة
الوجاهيّة للفصل فيها.
الفرع الثالث: إجراءات إصدار الأمر الجزائي وأثاره
الأمر الجزائي وفقاً لقانون الإجراءات الجزائيّة نظام
اختياري تلجأ إليه النيابة العامّة على ضوء السلطة التقديريّة، حيث يُمكنها أن
تختار سلوك الطريق العادي لتحريك ومُباشرة الدعوى العموميّة أو اختيار الإجراءات
الجزائيّة المبسّطة والمتمثّلة في الأمر الجزائي، إذ أنّ وكيل الجمهورية في حالة
إذا ما اختار سلوك طريق نظام الأمر الجزائي؛ يقوم بإحالة ملف المتابعة مُرفقاً
بطلباته إلى محكمة الجنح، ويتولى القاضي الجزائي الفصل في الملف المعروض عليه دون
مُرافعة مُسبقة بأمر جزائي يقضي إمّا ببراءة المتّهم أو بعقوبة الغرامة، ويجب على
القاضي أن يسبّب الأمر الجزائي، ويُعتبر التسبيب ضمانة للمتهم جاء بها الأمر رقم 12-02 المعدّل والمتمّم
لقانون الإجراءات الجزائيّة، وفي الحالة التي يرى فيها القاضي أنّ الشروط المنصوص
عليها قانوناً للأمر الجزائي غير متوفّرة فيه، يُعيد ملف المتابعة للنيابة العامّة
لاتخاذ ما تراه مناسباً وفقاً للقانون.
كما يمكن الاعتراض على الأمر الجزائي من طرف كل من
النيابة العامّة أو المتهم، حيث تعترض النيابة العامّة أمام كتابة الضبط خلال مدّة
10 أيّام من تاريخ إحالة الأمر الجزائي عليها.
المشرّع الجزائري لم يحدّد أسباب قانونيّة للاعتراض، فقد
يكون لأسباب قانونيّة كما لو صدر الأمر مُخالفاً للقانون أو لأنّ القاضي لم يستجيب
لطلباتها أو لأنّ أثار الجريمة قد تفاقمت على نحو يُصبح فيه الأمر الجزائي غير
مُحقّق للعدالة.
كذلك يُمكن للمتهم أن يرفض الأمر الجزائي في أجل شهر من
تاريخ تبليغه لتسجيل اعتراضه على الأمر، وهو ما من شأنه ترتيب إجراءات المحاكمة
العادية.
وفي حالة عدم اعتراض المتّهم فإنّ الأمر الجزائي يُنفّذ
وفقاً لقواعد الأحكام الجزائيّة، وفي حالة الاعتراض عليه فإنّ أمين الضبط يُخبر
المتّهم شفاهة بتاريخ الجلسة ويثبت ذلك في المحضر.
يجدر التنبيه إلى أنّه في حالة اعتراض النيابة العامّة
أو المتهم على الأمر الجزائي، فإنّ القضيّة تُعرض على محكمة الجنح التي تفصل فيها
بحكم غير قابل لأي طعن، إلاّ إذا كانت العقوبة المحكوم بها تتضمّن عقوبة سالبة
للحريّة أو غرامة ماليّة تفوق 20.000 دج بالنسبة للشخص الطبيعي و100.000 دج
بالنسبة للشخص المعنوي، ويمكن للمتّهم
التنازل عن اعتراضه قبل فتح باب المرافعة، وفي هذه الحالة يستعيد الأمر الجزائي
قوّته التنفيذيّة ولا يكون قابلاً لأي طعن.
خاتمة
في ختام هذه المداخلة يمكننا القول أنّ أزمة العدالة
الجنائيّة قد وجدت لها بعض الحلول على المستوى الإجرائي، خاصّة مع اعتماد البدائل
المستحدثة للدعوى العموميّة، والتي تقوم على عنصر الرضائيّة سواء في مباشرة
الإجراءات أو في تنفيذ العقوبة البديلة، والدّولة هي الطرف الأساسي لهذا النظام
مُمثّلة في أجهزة العدالة الجنائيّة.
فأمام مُشكلة بُطء الإجراءات الجزائيّة التي عرقلت السير
الحسن للعدالة باعتبار أنّ العدالة البطيئة تمثّل صورة من صور الظلم، وكثرة
القضايا المعروضة أمام جهاز العدالة وارتفاع تكاليف التقاضي، بالإضافة للسلبيّات التي
تعرفها العقوبات السالبة للحريّة قصيرة المدّة، ومن أبرزها التسبب في مُشكل اكتظاظ
السجون وعجزها عن إعادة إدماج وتأهيل الجناة، ومن أجل الحد من تلك المشاكل أو على
الأقل التقليل منها؛ لجأ المشرّع الجزائري من خلال تعديل قانون الإجراءات
الجزائيّة بموجب الأمر رقم 15-02، إلى الاعتماد على أساليب المتابعة غير
التقليديّة من أجل اختصار إجراءات المتابعة تماشياً مع السياسة الجنائيّة الحديثة
في مكافحة الإجرام، بالإضافة إلى التخلّي عن تحريك الدعوى العموميّة مُباشرة في
نطاق الجرائم قليلة الأهميّة، واستبدالها بوسائل إجرائيّة بسيطة كالوساطة والأمر
الجزائيين الذين يقومان على رضا أطراف الدعوى الجزائيّة من أجل إنهاء المتابعة.
من خلال كل ما سبق من هذه الدراسة نكون قد توصّلنا لجملة
من النتائج نوجزها فيما يلي:
1- وجود أزمة عدالة جنائيّة قائمة قد استدعت تدخّل
المشرّع الجزائري من أجل البحث عن بدائل علاجيّة لتلك الأزمة والتي تمثّلت حسبه في
اعتماد نظام الوساطة والأمر الجزائيين بموجب الأمر رقم 15-02.
2- اعتماد الوساطة والأمر الجزائيين يُعتبر تغييراً في
نمط السياسة الجزائيّة الجزائريّة والتي بها انتقل المشرّع من العدالة الجنائيّة
الردعيّة الصارمة إلى العدالة التفاوضيّة التصالحيّة التي تُرجّح فيها كفّة
الأطراف المتنازعة.
3- تنفيذ الوساطة والأمر الجزائيين يتطلّب توفّر مجموعة
من الشروط التي في حالة وجودها يتمّ اللجوء إليهما، فهما إجراءين اللجوء إليهما
مُقيّد بتوفّر شروط معيّنة وليس مفتوحاً على مصراعيه.
4- تنفيذ الوساطة والأمر الجزائيين يُعتبر سبب من
الأسباب الخاصّة لانقضاء الدعوى العموميّة.
5- الوساطة والأمر الجزائيين يتميّزان بالرضائيّة
والجوازيّة، حيث يمكن لأحد الأطراف أن يمتنع عن السير في إجراء الوساطة أو الأمر
الجزائيين.
6- تتولّى النيابة العامّة مُهمّة تسيير الوساطة
الجزائيّة، بينما في الأمر الجزائي يكون القاضي الوحيد المخوّل بإصدار ذلك
الأمر.
أمّا فيما يخص التوصيات التي ندعو إليها من خلال هذه
المداخلة فتتمثّل فيما يلي:
1- إسناد مُهمّة تقريب وجهات النظر بين الأطراف
المتنازعة لوسيط مُستقل إسوة بما هو معمول به في نظام الوساطة المدنيّة.
2- إلغاء تحديد الجرائم على سبيل الحصر التي يجوز فيها
اللجوء إلى إجراء الوساطة الجزائيّة وترك الأمر للسلطة التقديريّة للنيابة العامّة
متى رأت ضرورة اللجوء إليه مع استثناء الجرائم الخطيرة طبعاً.
3- ضرورة تكوين أعضاء النيابة العامّة في كيفيّات
الوساطة وإجرائها من أجل ضمان وصولها إلى الغاية التي شرّعت من أجلها.
4- تحديد القيمة القصوى للغرامة التي يمكن أن تكون محلاً
لتطبيق نظام الأمر الجزائي باعتبار أنّ وطأتها في بعض الأحيان قد تفوق العقوبة
السالبة للحريّة.
5- توسيع نطاق تطبيق نظام الأمر الجزائي ليشمل الجرائم
الماسّة بالأفراد، مع فتح المجال للأطراف المدنيّة من أجل الحصول على تعويض يُؤسّس
على الأمر الجزائي، وبذلك يكون الأمر الجزائي نظاماً كاملاً شاملاً بديلاً
إجرائياً وعقابياً وتعويضياً.
6- البت في مسألة إشكالات التنفيذ التي يمكن أن تعترض
تنفيذ الأمر الجزائي، بتضمين خُصوصيّات إجرائيّة مُبسّطة تختلف عن تلك المألوفة في
الأحكام العاديّة.