الالتزام (تعريفه، أركانه، تقسيماته)
المطلب الأول: تعريف الالتزام
يتوقف
التعريف الذي يعطى للالتزام على المذهب الذي يؤخذ به في شأنه، ذلك أن الالتزام
يتنازعه مذهبان: مذهب يُغلب الناحية الشخصية في الالتزام باعتباره رابطة بين
شخصين، ومذهب يُغلب الناحية المادية في الالتزام باعتباره بين ذمتين ماليتين.
الفرع الأول: المذهب الشخصي
يرى
الفقيه سافيني "أن الالتزام ليس إلا رابطة شخصية تُخضع المدين
للدائن" أي "سلطة للدائن على المدين" فالدائن بناء على
هذا التعريف يمنح سلطة على شخص المدين تشبه إلى حد كبير السلطة التي يخولها الحق
العيني لصاحبه، وبالتالي يستطيع الدائن وفقا لهذه السلطة واقتضاء للحصول على حقه
من المدين في حالة امتناعه عن التنفيذ أن ينفذ على جسم المدين، وذلك باسترقاقه أو
إعدامه أو بحبسه عنده لحين قيامه بالتنفيذ، وهذا ما كان عليه الحال إبان القانون
الروماني القديم، لكن سرعان ما تلطفت هذه السلطة وأصبحت مقصورة على إمكان الدائن
حبس المدين حال تطور القانون الروماني.
أما
بلانيول Planiol فقد ركز على العنصر
الجوهري في الالتزام باعتباره رابطة شخصية بين الدائن والمدين، فهو يعرف الالتزام
"بأنه علاقة قانونية بين شخصين، بمقتضاها يكون لأحدهما وهو الدائن الحق في
تقاضي شيء معين من الآخر وهو المدين" ، وهكذا يصبح الالتزام وفقا للمذهب
الشخصي، رابطة قانونية لا تقوم إلا بين شخصين أحدهما يسمى الدائن والآخر يسمى
المدين، ولم يعد كما عرفه سافيني بأنه يمنح الدائن سلطة إخضاع المدين إليه.
يظهر
من تعريف الفقيهين أن معيار الالتزام يتمثل في العلاقة الشخصية الموجودة بين
الطرفين، والتي تخول للدائن نوعا من السلطة على شخص المدين، قد تقيد من حريته وقد
تستغرقها تماما، فالمدين هو الشخص ذاته وليس ذمته المالية .
ويترتب
على هذا التصور عدة نتائج منها:
- لا
يمكن إنشاء إلتزام دون وجود طرف دائن وآخر مدين وقت إنشائه؛
- الإرادة
المنفردة ليست مصدر للالتزام، لأن أحد الشخصين غير موجود وقت إنشاء الالتزام، وهو
الدائن عادة؛
- لا
يسمح بالاشتراط لمصلحة الغير، كما لا تجوز حوالة الدين وحوالة الحق.
الفرع الثاني: المذهب المادي
تبين
مما تقدم أن نظرية سافيني وهي مطبوعة بطابع روماني تجعل من الالتزام رابطة
شخصية وثيقة رابطة خضوع قريبة من الرق حيث هذه النظرية وقف في وجهها فقهاء الألمان
التي تتزعمه المدرسة الجرمانية، حيث يعطي الأولوية في الالتزام للعنصر المالي، لأن
العلاقة القانونية هي علاقة بين ذمتين ماليتين قبل أن تكون علاقة بين شخصين، فالالتزام
يمثل حقا في ذمة الدائن ودينا في ذمة المدين فهو علاقة مالية مستقلة عن طرفيها.
ويرى
جييرك Gierke وهو من أشهر فقهاء الألمان أن فكرة الالتزام لا تهتم بوجود الرابطة الشخصية بين الدائن والمدين بقدر ما تهتم بمحل الالتزام، فالعنصر الأساسي
في الالتزام هو محله بحيث أصبح الالتزام عنصرا ماليا أكثر مما هو رابطة شخصية بين
الدائن والمدين.
ويترتب
على هذا التصور بعض النتائج منها:
- الاعتداد
بالإرادة المنفردة كمصدر للالتزام؛
- جواز
الاشتراط لمصلحة الغير وكذا حوالة الدين أو الحق.
الفرع الثالث: موقف المشرع الجزائري من المذهبين
أخذ
المشرع الجزائري بالمذهب الشخصي كما جاء في المادة 54 ق م "العقد اتفاق
يلتزم بموجبه شخص أو عدة أشخاص آخرين بمنح أو فعل أو عدم فعل شيء ما". وهو تعريف منتقد لأنه أخذ من القانون الفرنسي
قانون نابليون، ومع ذلك المشرع الجزائري لم يهمل الجانب الموضوعي وذلك كما جاء في
المادة 116 "يجوز للشخص أن يتعاقد باسمه على التزامات يشترطها لمصلحة
الغير، إذا كان له تنفيذ هذه الالتزامات مصلحة شخصية مادية كانت أو أدبية".
ومنه
اعتنق القانون المدني الجزائري النظرية الشخصية كالقوانين اللاتينية والعربية
وجعلها هي الأصل، ولم يهمل الأخذ بالنظرية المادية بل أعطاها نصيبا من أحكامه. فنص
على حوالة الدين، وعلى الوعد بالجائزة الموجه للجمهور، وعلى الاشتراط لمصلحة
منتفعين لم يوجدوا بعد، وأخذ بمعايير مادية مثل معيار الغبن في البيع والقسمة، وأخذ
بالإرادة الظاهرة في كثير من المواضيع بقصد استقرار التعامل بين الناس، كما فعل في
بقاء التعبير عن الإرادة بعد موت صاحبه أو فقد أهليته.
كما
ما نصت عليه المادة 123 مكرر: "يجوز أن يتم التصرف بالإرادة المنفردة
للمتصرف ما لم يلزم الغير. ويسري على التصرف بالإرادة المنفردة ما يسري على العقد
من الأحكام باستثناء أحكام القبول". ونصت المادة 123 مكرر1: "من
وعد الجمهور بجائزة يعطيها عن عمل معين، يلزم بإعطائها لمن قام بالعمل، ولو قام به
دون نظر إلى الوعد بالجائزة أو دون علم به. وإذا لم يعين الواعد أجلا لإنجاز
العمل، جاز له الرجوع في وعده بإعلان الجمهور، على ألا يؤثر ذلك في حق من أتم العمل
قبل الرجوع في الوعد. يمارس حق المطالبة بالجائزة ،تحت طائلة السقوط، في أجل
ستة أشهر من تاريخ إعلان العدول للجمهور."
المطلب الثاني: أركان الالتزام
يقوم
الالتزام على ثلاثة أركان أساسية وهي الرابطة القانونية ومحل الالتزام ثم السبب،
وبذلك يجب التعرف على كل من هذه الأركان.
الفرع الأول: الرابطة القانونية (Un lien de droit)
وهي
ذلك القيد الذي يرد على إرادة المدين وحريته، وكان هذا القيد في القانون الروماني
ماديا يقع على شخص المدين، ثم صار بعد تطور تاريخي طويل رابطة قانونية بحثة لا
تتعلق إلا بذمته المالية والتي أصبح بمقتضاها قهره وإجباره بمساعدة السلطة العامة
عند الضرورة على تنفيذ التزامه، فهناك رابطة قانونية مثلا مثل البائع والمشتري،
والمؤجر والمستأجر، والدائن والمدين.
الفرع الثاني: محل الالتزام (Objet)
وهو
الشيء الذي يلتزم به المدين وهو إما أن يكون بالإعطاء (Donner) كما يكون في
التزام البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشتري بقصد استيفاء ثمنه، أو بالعمل (Faire) كما هو التزام المؤجر
بتسليم العين المؤجرة للمستأجر، أو بالامتناع عن العمل (Ne pas faire) كما في التزام
التاجر ألا يزاحم منافسا له في التجارة.
الفرع الثالث: السبب (Cause)
فهو
الغرض القانوني الذي من أجله أوجب المدين الالتزام على نفسه، فالبائع إنما التزم
بنقل ملكية المبيع بسبب الحصول على ثمنه، فهناك رابطة قانونية تربط البائع
بالمشتري مثلا: محلها نقل ملكية الشيء المبيع، وسببها قيام المشتري بالتزامه من
الوفاء بالثمن.
المطلب الثالث: أهمية نظرية الالتزام
تعتبر
لنظرية الالتزام أنها لها أهمية بالغة ويرجع هذا إلى ما
لنظرية الالتزام من أهمية عملية وأهمية علمية.
الفرع الأول: الأهمية العملية لنظرية الالتزام
فأهميتها
العملية، فتتمثل في أنها تتضمن القواعد العامة التي تنظم العلاقات القانونية
المتعددة والمتنوعة التي تموج بها الحياة الاجتماعية، ويظهر ذلك ما لهذه النظرية من خطورة فهي أساس
القانون المدني بل القانون الخاص بفروعه المختلفة وعلى الخصوص القانون التجاري الذي
يعتبر قانونا عمليا للالتزامات المتشابكة، كما تبرز أهمية نظرية الالتزام أيضا في
القانون العام بفروعه المتنوعة كالقانون الإداري، والقانون الدولي العام اللذين
يستمدان الكثير من قواعده من مبادئ نظرية الالتزام، هذا بالإضافة إلى الاتصال
الوثيق بين نظرية الالتزام وبين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي
تتفاعل داخل المجتمع.
الفرع الثاني: الأهمية العملية لنظرية الالتزام
وأما
أهمية نظرية الالتزام العلمية، فتظهر في كونها لا تتضمن سوى مبادئ كلية ليس فيها
مكان لخصوصيات أو تفصيلات، فهي كما يقول الأستاذ بلانيول المجال الرئيسي للمنطق
القانوني، حيث يواجه الالتزام في ذاته بصرف النظر عن الطبيعة الخاصة لموضوعه،
وبذلك تتميز قواعد نظرية الالتزام بطابع نظري جعلها حقلا خصبا للمنطق القانوني.
المطلب الرابع: تقسيمات الالتزام
تعددت تقسيمات الالتزام إلى أقسام فهناك تقسيم
من حيث الأثر وهناك تقسيم من حيث المحل وهناك تقسيم من حيث المصدر.
الفرع الأول: تقسيم الالتزام من حيث الأثر
يشمل
تقسيم الالتزام من حيث الأثر الالتزام المدني والالتزام الطبيعي
أولا: الالتزام المدني
وهو
الالتزام الذي يستفيد من الحماية القانونية الكاملة، حيث يكون للدائن –إذا اقتضى
الأمر- الحق في مطالبة المدين أمام المحاكم المختصة، وله كذلك أن يكرهه بشتى الطرق
القانونية لتنفيذ التزامه.
إن
مثل هذا الأمر في الحقيقة شيء طبيعي وعادي كون الالتزام علاقة قانونية، والعلاقة
القانونية تلك التي يعتد بها
المجتمع ويحميها
بالطرق المقررة لذلك.
ثانيا: الالتزام الطبيعي
هو
الالتزام الذي لا يستفيد من الحماية القانونية الكاملة، إذ لا يمكن إكراه المدين
على تنفيذ التزامه. وهذه حالة استثنائية، لأن من بين الوظائف الرئيسية للقانون
إكراه المدينين على تنفيذ التزاماتهم. ويعتبر الالتزام الطبيعي من الحقوق الناقصة، أي الحقوق التي يعترف بها، غير أنه لا يعطي لصاحبها وسائل إكراه
المدين على تنفيذها بل هي أصلا غير قابل للتنفيذ الجبري.
حيث
نصت المادة 176: "إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينا، حكم عليه
بتعويض الضرر الناجم عن عدم تنفيذ التزامه، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ نشأت عن
سبب لا يد له فيه، ويكون الحكم كذلك إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه".
فالالتزام
الطبيعي إذن هو الالتزام قانوني حيث جعله المشرع محلا للوفاء، فلا يستطيع المدين
أن يسترد ما أداه تنفيذا لالتزام طبيعي، كما أن تنفيذ الالتزام الطبيعي يعد وفاء
لا تبرعا أو هبة، غير أن تنفيذه يكون دائما باختيارالمدين ولا يخضع إلا لضميره.
وفي هذا الشأن هناك من يرى أن الالتزام يتكون من عنصرين:
- عنصر
المديونية الذي يتضمن الدين.
- وعنصر
المسؤولية الذي يسمح بإكراه المدين على تنفيذ التزامه.
بخصوص
القانون الجزائري فإنه يعتقد انه يتجه نحوى التصور الحديث، خاصة وان المادة الأولى
من التقنين المدني تلزم القاضي عند عدم وجود نص بالرجوع إلى مبادئ الشريعة
الإسلامية.
الفرع الثاني: تقسيم الالتزام من حيث المحل
الالتزام
من حيث المحل يشمل تقسيمين وهما التقسيم التقليدي والتقسيم الحديث
أولا: التقسيم التقليدي
هذا
التقسيم ينظر فيه إلى نوع الأداء ذاته، وقد بلغت من أهميته أن جل تعريفات الالتزام
التي أدلى بها الشراح
قد تضمنت الإشارة إليه.
1- الالتزام بإعطاء: وهو الالتزام ينقل حق عيني∗ على عقار أو منقول،
أو الالتزام
هذا الحق ابتداء، مثال ذلك التزام البائع بنقل ملكية الشيء المبيع،
2- الالتزام بعمل: ومضمونه أن يقوم المدين بعمل إيجابي معين
لمصلحة الدائن، كالتزام المحامي برفع استئناف، والتزام المقاول ببناء منزل،...إلخ
.وقد يكون العمل هو القيام بإبرام تصرف قانوني، كالتزام الوكيل بأن يبرم العقد
الذي تعهد بإبرامه نيابة عن موكله.
3- الالتزام بالامتناع عن عمل: ومضمونه أن يمتنع المدين عن عمل يملك
القيام به قانونا، لولا وجود هذا الالتزام مثال ذلك: الالتزام بعدم المنافسة،
والتزام الرياضي إلا في النادي الذي يلعب فيه حتى نهاية مدة التعاقد، والتزام المشتري لأرض ما
بعد البناء فيها.
هذه
هي الأنواع الثلاثة لالتزام وهي لا تتناهى من الأداءات ومن هنا كانت الحقوق
الشخصية لا تدخل تحت حصر .ذلك أنه وفقا لمبدأ سلطان الإرادة يجوز للأفراد أن ينشوا
ما يحلو لهم من هذه الحقوق...
ثانيا: التقسيم الحديث
يقوم
التصنيف الذي استحدثه الفقيه الفرنسي ديموج Demogue مع مطلع القرن
الماضي على النتيجة التي يتعهد
بها
المدين، فقد يلتزم نحو الدائن بتحقيق غرض أو نتيجة معينة، وقد يقتصر تعهده على بذل
جهد وعناية فقط بغض النظر عن تحقق النتيجة أو عدم تحققها.
أ: الالتزام بتحقيق نتيجة
الالتزام
بنتيجة أو الالتزام بتحقيق غاية هو التزام يتعهد المدين بمقتضاه بتحقيق نتيجة أو
غاية محددة، وما لم تتحقق هذه النتيجة يكون المدين مسؤولا أمام الدائن لكونه لم
يقم بتنفيذ التزامه، فالشخص في مثل هذا الالتزام مدين بتحقيق نتيجة معينة، بحيث
يفترض خطأه ومن ثم مسؤوليته لمجرد أن الغاية المنتظرة والتي هي محل التزامه لم
تتحقق ، كما نصت على ذلك المادة 176 ق م: "إذا استحال على المدين أن ينفذ
الالتزام عينا حكم عليه بتعويض الضرر الناجم عن عدم تنفيذ التزامه، ما لم يثبت أن
استحالة التنفيذ نشأت بسبب لا يد فيه، ويكون الحكم كذلك إذا تأخر المدين في تنفيذ
التزامه" بمقتضى هذه القرينة القانونية، يعفى الدائن من إثبات خطأ المدين
ويكفيه فقط إثبات عدم تحقق النتيجة كي يكون المدين مسؤولا.
ومن
أمثلة الالتزام بتحقيق نتيجة: التزام البائع بنقل الملكية وتسليم المبيع، والتزام
أمين النقل بتسليم البضاعة في المكان المتفق عليه.
ب: الالتزام ببذل عناية
لا
يهدف الالتزام ببذل عناية أو الالتزام بوسيلة إلى تحقيق غاية معينة، وإنما يتعهد
المدين ببذل جهد وعناية للوصول إلى الغرض، سواء أتحقق هذا الغرض أو لم يتحقق،
فالطبيب مثلا يلتزم بمعالجة المريض دون أن يضمن الشفاء، ويتمثل محل الالتزام
بعناية في الجهد أو العناية التي يبذلها المدين في تنفيذ التزامه، وأما النتيجة
التي ترمي إلى تحقيقها هذه الجهود فهي خارجة عن الالتزام في حد ذاته، وقد نصت
المادة 172 ق.م : "في الالتزام بعمل، إذا كان المطلوب من المدين أن يحافظ
على الشيء، أو يقوم بإرادته وأن يتوخى الحيطة في تنفيذ التزامه، فإن المدين يكون
قد وفى تنفيذه من العناية كل ما يبذله الشخص العادي، ولو لم يتحقق الغرض المقصود،
هذا ما لم ينص القانون أو الاتفاق على خلاف ذلك". فيتحمل المدين في
الالتزام ببذل عناية التزاما عاما باتخاذ الحيطة والحذر في تنفيذ التزامه. حيث
أضاف المشرع الفرنسي التزامه باليقظة، فيجب على الطبيب بأن يستخدم وسائل معقمة في
العلاج فهذا تحقيق نتيجة بالنسبة للوسائل وكذلك بالنسبة لعملية نقل الدم وكذلك استعمال الطيب للمخدر .وبتالي وجب أن
يكون هذا المقدار من الجهد أو العناية المبذولة بقصد تحقيق الغرض مماثلا للجهد الذي
يبذله الرجل العادي وقد أخذ المشرع بهذا التقدير المجرد في عدة حالات، فقد نصت الفقرة
الأولى من المادة 495 ق.م: "يجب على المستأجر أن يعتني بالعين المؤجرة،
وأن يحافظ عليها مثلما يبذله الرجل العادي"، ونصت المادة 576 ق.م:"يجب
دائما على الوكيل أن يبذل في تنفيذه للوكالة عناية الرجل العادي".
ويتميز
الالتزام ببذل عناية أو الالتزام بوسيلة عن الالتزام بتحقيق نتيجة من حيث محل كل
منهما: فيلتزم المدين ببذل جهد وعناية من أجل نتيجة محتملة في النوع الأول من
الالتزام، بينما يلتزم المدين في النوع الثاني بتحقيق نتيجة معينة بغض النظر عن
الوسائل التي يستعملها من أجل ذلك، وبعبارة أخرى إذا كانت النتيجة المنتظرة من
تنفيذ الالتزام محتملة– لأنها تتوقف على أسباب محتملة موضوعية- يكون
الالتزام في هذه الحالة مقتصر على بذل عناية فقط، ونكون بصدد التزام بنتيجة إذا
كانت النتيجة المنتظرة لا تتضمن أي احتمال موضوعي يمنع تحقيقها ويمكن القول بأن
الطابع الاحتمالي للنتيجة هو معيار التفرقة بين هذين النوعين من الالتزام.
وأما
الفائدة من هذا التمييز فهي تتعلق بعبء الإثبات: ففي الالتزام ببذل عناية يجب على
الدائن أن يثبت أن المدين لم يبذل في تنفيذ التزامه الجهد أو العناية المطلوبة، إن
عدم تحقق النتيجة المنتظرة لا يعني أن المدين لم ينفذ التزامه، كما لا يمكن
استخلاص تنفيذ الالتزام لمجرد القيام بالعمل بل على الدائن أن يثبت خطأ
المدين، فمسؤولية المدين في الالتزام ببذل عناية تستلزم إثبات الخطأ، وأما مسؤولية
المدين في الالتزام بنتيجة فإنها تقوم لمجرد عدم تحقق النتيجة، إن عدم تحقيق
النتيجة التي تعهد بها
المدين يعني انعدام التنفيذ الذي يترتب مسؤولية المدين.
الفرع الثالث: تقسيم الالتزام من حيث المصدر
يشمل
تقسيم الالتزام من حيث المصدر تقسيم المشرع ويقوم على السبب المباشر للالتزام
وهناك تقسيم الفقه الحديث الذي يشمل المصادر الإرادية والمصادر غير الإرادية.
أولا: تقسيم المشرع
يقصد
بالمصدر السبب المباشر لالتزام، ويرجع تصنيف الالتزامات باعتبار إلى القانون
الروماني، حيث كانت الالتزامات تخضع في تكوينها لأحكام مختلفة، ويقوم هذا التصنيف
على الدور الذي تلعبه الإرادة في إنشاء الالتزام.
ولقد
جاء في القانون المدني الجزائري في عرض الأسباب لمشروع الأمر المتضمن القانون
المدني أنه بخصوص مصادر الالتزام اعتمدت اللجنة مشروع القانون الفرنسي- الإيطالي، هذا
المشروع الذي صدر سنة 1927 تفاديا للنقائص والانتقادات التي وجهت للقانون المدني
الفرنسي والقانون المدني الإيطالي –تجنب حصر مصادر الالتزامات واكتفى بذكر البعض
منها في الباب الأول مثل: العقود، والالتزام بالإرادة المنفردة، والفضالة، والدفع
غير المستحق والإثراء بلا سبب، والعمل غير المشروع، والالتزام بتقديم الشيء، ويظهر
أن هذا المشروع قد تأثر بالتقنيات العصرية خاصة تلك المستعملة في القانون الألماني
والسويسري، وعند الاطلاع على التقنين الجزائري المدني يتضح لنا أن المشرع لم يأخذ
بالمشروع الفرنسي-الإيطالي، بل بقي متأثرا بالقانون الفرنسي، فأقر المصادر التالي:
القانون، والعقد، والعمل المستحق للتعويض، وشبه العقود. وهكذا فإن كل الانتقادات
التي وجهت للتقنين المدني الفرنسي تكون وجيهة بالنسبة للتقنين المدني الجزائري،
ونذكر منها على الخصوص:
1- أن
القانون ليس مصدرا مستقلا لبعض الالتزامات فقط، بل هو مصدر غير مباشر لكل
الالتزامات كونه هو الذي يكسب العقود قوتها الإلزامية وهو الذي يرتب الآثار
القانونية على الأفعال المختلفة، كما أنه هو الذي يمنح الصبغة القانونية لبعض
الوقائع المادية دون الأخرى.
2- لا
يوجد فرق جذري بين الالتزام الناشئ عن القانون والالتزام الناشئ عن الفعل المستحق
للتعويض ،وشبه العقد، لأن القانون هو الذي يرتب الآثار القانونية الواقعة أو
الأفعال المادية، وهو الذي يحددها.
3- يقتصر
هذا التقسيم –بالنسبة لالتزامات الناشئة عن الإرادة- على العقد فقط دون الإرادة
المنفردة، فيحين أن المشرع اعتمدها كمصدر لالتزام، فيستحسن حينئذ استعمال مصطلح
التصرف القانوني الذي يشمل الحالتين.
4- استعمل
المشرع تعبير "شبه العقود"وهو تعبير غير دقيق المعنى، كما أنه يشمل
حالات قانونية مختلفة عن العقود.
ثانيا: تقسيم الفقه الحديث
فتقسيم
الفقه الحديث يشمل المصادر الإرادية حيث تكون الإرادة هي السبب المنشئ للالتزام،
وهناك المصادر غير الإرادية.
أ: المصادر الإرادية
هي
تلك التي تكون فيها الإرادة السبب المنشئ لالتزام سواء كان ذلك بإرادة منفردة أو
باتفاق إرادتين. فالعبرة في هذا التصنيف هي بإرادة الشخص، أو الأشخاص التي ترمي
إلى إنشاء الالتزام. وبعبارة أخرى يكون المصدر إراديا متى كان الشخص يريد تحمل
التزام بمحض إرادته نحو شخص ثان ويرغب من خلال تصرفه هذا في تحمل واجبات نحو شخص
الدائن أو اكتساب حقوق على الشخص المدين، ويطلق كذلك على هذه المصادر الإرادية
تسمية ((الأعمال أو التصرفات القانونية)) ،
والتي تنقسم بدورها إلى قسمين:
أ-العمل أو التصرف القانوني من جانب واحد، أو
الالتزام بإرادة منفردة: وهو الالتزام الذي ينشأ بإرادة المدين فقط، كالوصية
والوعد بالجائزة؛
ب
-العقد: وهو تصرف قانوني ينشأ عن إرادتين أو أكثر لأشخاص لهم مصالح متضاربة.
ب: المصادر غير الإرادية
تتمثل
المصادر الإرادية في الأقوال أو الأفعال الإرادية وغير الإرادية المنشئة لالتزام،
والتي يترتب عليها القانون آثارا∗.
ففي حالة الفعل الإرادي تنسب الآثار للفعل لا للإرادة، لأن الفاعل لا يرغب في إنشاء الالتزام، كأن يقوم شخص
بضرب آخر، فيكون قد أقدم على هذا الفعل بمحض إرادته، إلا أنه لم يكن يقصد ولا يرغب
في الالتزام بتعويض الضرر الذي تسبب فيه، أي الالتزام بجبر الضرر. أما بالنسبة
للقول فإنه يكون دائما إراديا، غير أن إرادة الشخص لم تنصرف إلى تحمل الالتزام بل
انصرفت إلى التعدي على شخص فقط، كأن يقوم شخص بشتم آخر، فالغرض من هذا القول هو
الشتم وليس تحمل التزام وذلك بجبر الضرر الذي لحق الضحية من جراء الشتم، وكل ما
كان يريده الفاعل هو التعدي على شخص الضحية.
وقد
تكون هذه المصادر غير الإرادية أفعالا أو أقوالا غير مشروعة، كما جاء في المثالين
السالفي الذكر، وقد تكون أفعالا نافعة كالفضالة، وقد تكون من فعل الطبيعة، ويطلق
على هذه الأقوال والأفعال تسمية الوقائع القانونية، وتتميز عن الوقائع المادية
التي لا يترتب عليها القانون آثار.
المرجع:
- مجيدي فتحي، الالتزامات، جامعة زيان عاشور الجلفة، 2009/20010، ص334-342.