قاعدة التنازع قاعدة مزدوجة في القانون الدولي الخاص بقلم :أ. معتصم صبحي جندية
بسم الله الرحمن الرحيم
ورقة بحثية بعنوان
"قاعدة التنازع قاعدة مزدوجة في القانون الدولي الخاص"
إعداد : معتصم صبحي جندية – فلسطين غزة
محامي متدرب وباحث حقوقي
قاعدة التنازع قاعدة مزدوجة:
أن
من الثوابت في ميدان تنازع القوانين عدم التلازم بين المحكمة المختصة وبين القانون
الواجب التطبيق، بمعنى ان ثبوت الاختصاص للقاضي الوطني بنظر النزاع ذات العنصر
الأجنبي لا يعني بالضرورة تطبيق القاضي لقانونه الوطني على النزاع المعروض. ان
قواعد الإسناد هي قواعد اختيار أو مفاضلة بين القوانين المرتبطة بالعلاقة ذات
الطابع الدولي والتي تبدي قابليتها لحكم تلك العلاقة، وهذا الاختيار يتم عن طريق
معايير معينة يحددها المشرع الوطني تتمثل بضوابط الإسناد أو الاختيار، كما ان
قواعد الإسناد هي قواعد ذات طابع إرشادي تكتفي بالإشارة إلى القانون الذي يقدم
الحل الموضوعي للمسألة محل النزاع ومن دون أن تقدم هي بذاتها هذا الحل. وكل تلك
الأمور توضح بجلاء أن قواعد الإسناد لا يمكنها أن تعمل إلا بوجود أكثر من قانون
واحد يعرض كل منها قابليته لحكم النزاع، فتختار أو ترشد إلى واحد من تلك القوانين
ليكون هو الواجب التطبيق(1). أي أنها إما تجعل الإختصاص ينعقد للقانون الوطني أو
للقانون الأجنبي، وفائدة هذه الخاصية أنها لا تترك فراغا في مشكلة التنازع إذ أنها
تجعل الإختصاص بالنسبة للمسألة المطروحة على القاضي إما لقانونه أو القانون
الأجنبي. مثال: نصت المادة (20) من مشروع القانون المدني الفلسطيني على أنه
"يسري على النظام القانوني للأشخاص الاعتبارية قانون الدولة التي اتخذت فيها
مركز إداراتها الفعلي". فإذا كان مقر الشركة الفعلي في الأردن يطبق عليها
القانون الأردني إن كان مقر الشركة الفعلي في فلسطين يسري القانون الفلسطيني،وكذلك
الأهلية تخضع لقانون الجنسية، فلو حدث نزاع فيما يخص الأهلية بين فلسطيني ومصري
فبالنسبة للفلسطيني فإنه يتبع للقانون الوطني، أما المصري فيتبع لقانون أجنبي.وهذا
الاختيار أو المفاضلة بين القوانين المتزاحمة لحكم العلاقة ذات العنصر الأجنبي،
كما قد يكون لصالح قانون القاضي الذي ينظر في النزاع بشأن تلك العلاقة، قد يكون
أيضاً لصالح قانون دولة أجنبية، وذلك حسب معطيات المسألة المطروحة(2). وبتعبير آخر
فإنه طالما كان القصد من قواعد الإسناد هو اختيار القانون الأصلح والأنسب لحكم
العلاقة الخاصة الدولية، فإنه لا يمكن القطع بأن تلك الصلاحية والمناسبة تتوفر
بجانب قانون القاضي، بل ربما تتوفر لدى قانون أجنبي، لذلك فإن قواعد الإسناد لا
تقرر دائماً وجوب تطبيق القانون الوطني، بل إنها تصاغ على نحوٍ يعطي القانون
الأجنبي فرصة للتطبيق أمام القضاء الوطني، وهذا هو المقصود من الطابع المزدوج أو
الثنائي لقواعد الإسناد(3). فعندما تقضي قاعدة الإسناد بخضوع أهلية الشخص، مثلاً،
لقانون جنسيته، فان القانون الواجب التطبيق قد يكون هو قانون دولة المحكمة التي
تنظر في النزاع، إذا كان الشخص من جنسية هذه الدولة، كما قد يكون هو قانون إحدى
الدول الأجنبية وهي الدولة التي يتمتع الشخص بجنسيتها إذا كان هذا الشخص أجنبياً،
فالأمر إذاً يتوقف على جنسية الشخص المعني في هذا الفرض. ولكن على الرغم من تلك
الاعتبارات التي تطبع قواعد الإسناد بالطابع المزدوج، فقد نادى رأيٌ في فقه
القانون الدولي الخاص بضرورة أن تكون هذه القواعد ذات صياغة إسنادية إنفرادية، أي
أنْ تكون قواعد مفردة الجانب(4). ومعنى الصياغة الانفرادية أن يقتصر دور قواعد
الإسناد على بيان الحالات التي ينعقد فيها الاختصاص لقانون دولة القاضي بحكم
نزاعات العلاقات ذات العنصر الأجنبي ولا يكون لها شأن بتحديد حالات وجوب تطبيق
القانون الأجنبي، إذ ان الحالات الأخيرة يُترك أمر تحديدها لقواعد الإسناد في ذلك
القانون، على اعتبار ان مشرع قاعدة الإسناد الوطنية لا يملك هذا التحديد(5). وعليه
فإذا طرح على القاضي نزاع بشأن علاقة مشتملة على عنصر أجنبي فانه يقوم بإعمال
قواعد الإسناد الوطنية ليتبين ما إذا كان القانون الوطني هو الواجب التطبيق، فإذا
اتضح له عدم اختصاص هذا القانون بحكم النزاع تعَيّن عليه البحث عن القانون الأجنبي
الذي يعطي لنفسه الاختصاص بذلك ليقوم بتطبيقه على النزاع المعروض. ويستند أصحاب
هذا الرأي على حجج متعددة، منها ان جوهر تنازع القوانين هو تنازع السيادات
التشريعية للدول التي تتصل بها العلاقة ذات العنصر الأجنبي(6)، وان دور المشرع في
كل دولة يقتصر على تحديد حالات تطبيق قانونه في المكان من دون الحالات التي ينطبق
فيها القانون الأجنبي بشأن هذا النوع من العلاقات، وإلا فالمشرع يكون قد أخل
باحترام سيادة دولة ذلك القانون، لذا فانه ليس للدولة أن تحدد اختصاص قانون دولة
أخرى لا يكون فيها لهذا القانون إرادة الانطباق. وعليه فان دور كل دولة يقف عند حد
بيان الحالات التي ينطبق فيها قانونها، وعند هذا الحد يتعين أن يقف دور قاعدة
الإسناد، بحيث يكون على مشرع الدولة، خارج إطار هذه الحدود، أن يحترم إرادة الدول
الأخرى فيما يتعلق بتحديد النطاق الذي تنطبق فيه قوانينها(7). كما يستند أصحاب
الرأي المذكور على حجة أخرى مفادها ان إعمال قاعدة الإسناد المزدوجة في حالة
اختيارها قانوناً أجنبياً ليحكم العلاقة محل النزاع ربما يقود إلى مخالفة إرادة
المشرع الأجنبي أو إهدارها(8)، ويكون ذلك عندما يؤدي إعمال هذه القاعدة إلى تطبيق
القانون المختار على حالات لا يريد ذلك القانون أن يكون مختصاً بتنظيمها وفقاً
لتصور مشرعه. أما قواعد الإسناد مفردة الجانب والتي تقتصر على اختيار قانون القاضي
وتحديد حالات تطبيقه من دون القوانين الأجنبية، فإنها تَحترم إرادة القانون
الأجنبي في التطبيق إذ تترك لقواعد الإسناد في ذلك القانون تحديد الحالات التي
يرغب أو لا يرغب في حكمها.وزيادة على ذلك يرى بعض أنصار هذا الرأي ان منهج قاعدة
الإسناد مفردة الجانب يكفل احترام الحقوق المكتسبة في الخارج ويُجنب خلق تنازع بين
القوانين غير موجود أصلاً(9).
فإعمال
قواعد الإسناد المزدوجة في قانون القاضي يؤدي، بحسب رأيهم، إلى خلق تنازع بين
القوانين ذات الصلة بالعلاقة مثار النزاع في الوقت الذي لا يوجد فيه، واقعاً،
تنازع حقيقي بين هذه القوانين. ذلك ان التنازع الحقيقي، وفقاً لهذا الرأي، يعتبر
وضعاً استثنائياً ، وهذا الوضع يتحدد بالحالات التي تتعدد فيها القوانين التي
تتوفر لديها إرادة الانطباق على المسألة المعروضة، وفيما عدا هذه الحالات
الاستثنائية فان قاعدة الإسناد مفردة الجانب تضطلع بوظيفة تحديد نطاق تطبيق
القواعد الموضوعية في القانون الوطني الذي تنتمي إليه فقط، وأما إذا لم تكن
المسألة المعروضة داخلة في نطاق إعمال هذا القانون، تَعيَّن على القاضي، الذي يظل
رغم ذلك مختصاً بنظر النزاع، أن يطبق القانون الأجنبي الذي له قابلية حكم النزاع
المنظور وترتكن إليه توقعات الأطراف وفقاً لقواعد الإسناد في ذلك القانون(10). هذا
ولم يواجه الفكر الأحادي ترحيباً من فقه القانون الدولي الخاص، وقد تعرض من جهات
متعددة للكثير من النقد والتجريح نظراً لقيامه على غير أساس. فمن جهة أولى ان
تنازع القوانين لا يعتبر، في نظر الفقه الحديث، تنازعاً بين سيادات ومصالح الدول
التي تتصل بها العلاقة ذا العنصر الأجنبي، بل هو تنازع يتصل أساساً بالمصالح
الخاصة للأفراد في علاقاتهم عبر الحدود، ومن جهة ثانية ان مهمة القاضي ليست
بالدرجة الأولى تأكيد أو نفي احترامه للمشرع الأجنبي أو لإرادة التطبيق لدى
القانون الأجنبي، بل هي تحقيق الحماية القانونية للحق المتنازع فيه من خلال تطبيق
القاعدة القانونية الملائمة والتي يختارها من بين القوانين المعروضة أمامه(12).
الهوامش:
- 1- فؤاد عبد المنعم رياض وسامية راشد. الوسيط في تنازع القوانين وتنازع الاختصاص القضائي الدولي. دار النهضة العربية. القاهرة.1987. فقرة 98. ص103-104.
- 2- صلاح الدين جمال الدين. القانون الدولي الخاص (الجنسية وتنازع القوانين)، دراسة مقارنة. ط1. دار الفكر الجامعي. الإسكندرية. 2008. ص256.
- 3- انظر في مفهوم الازدواجية في قواعد الإسناد . سعيد يوسف البستاني. القانون الدولي الخاص (تطور وتعدد طرق حل النزاعات الخاصة الدولية). ط1. منشورات الحلبي الحقوقية. بيروت. 2004. ص123-125.
- 4- من مؤيدي هذا الاتجاه في الفقه الفرنسي J.P.Niboyet، op. cit.، p.350 ets.
- 5- عوض الله شيبه الحمد السيد. الوجيز في القانون الدولي الخاص. ط2. دار النهضة العربية. القاهرة. 1997. ص334.
- 6- عكاشة محمد عبد العال. تنازع القوانين، دراسة مقارنة. ط1. منشورات الحلبي الحقوقية. بيروت. 2004. ص15-16.
- 7- احمد عبد الكريم سلامة. المختصر في قانون العلاقات الخاصة الدولية. ط1. دار النهضة العربية. القاهرة. من دون طبع. فقرة 49. ص51.
- 8- احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع والاختيار بين الشرائع أصولا ومنهجاً. ط1. مكتبة الجلاء الجديدة. المنصورة. 1996.
- 9- طرح البحور علي حسن فرج. تدويل العقد (دراسة تحليلية على ضوء الاتفاقية الخاصة بالقانون الواجب التطبيق على الإلتزامات التعاقدية الموقعة في روما 19 يونيه 1980). منشأة المعارف. الإسكندرية. 2000. فقرة 299، وما بعدها. ص226 وما بعدها، وهي تشير إلى رأي الأستاذ الايطالي رولاندو كوادري الذي يُعد من ابرز المناصرين لهذا المنهج في الفقه الحديث.
- 10- ولذلك لا يعتقد أصحاب هذا الرأي بالطبيعة الوطنية الخالصة لقواعد الإسناد، ويذهبون إلى اعتبارها من قواعد القانون الدولي العام. طرح البحور علي حسن فرج. المصدر ذاته. فقرة 304. ص228، مع إشارتها إلى R.Quadri، Le lezioni di diritto internazionale privato، Napoli، 1969، p.279 ets، هامش 322 من الصفحة ذاتها.
- 11- احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع. مصدر سابق. فقرة 94. ص105-106.
- ،،،،أسال الله التوفيق والسداد،،،،