علاقة علم الإجرام بغيره من العلوم والقوانين
تمهيد˸
بما أن الجريمة مرتبطة بالإنسان، باعتبارها فعلاً
إنسانيا، وبما أن علم الإجرام يبحث في أسبابها، فلا غرابة في أن يعتني الأخير بما
يرتبط بالإنسان نفسا وجسدا بدءًا بالعلوم الطبية والاجتماعية، ثم الجغرافية والاقتصادية
والإحصائية... لكننا لن نخوض بالطبع في دراسة الصلة بين مختلف هذه العلوم وعلم
الإجرام، وإنما سنقتصر على دراسة العلوم التي تعتبر أساسًا في دراسة الجريمة
والمجرم.
تشترك العلوم الجنائية مع علم الإجرام في دراستها
وتمحيصها للظاهرة الإجرامية، في ما تستقل عنه في مظاهر أخرى. فما هي مظاهر الاتصال
والانفصال بينهما؟ هذا ما سنجيب عنه في ما سيأتي.
أولا˸الصلة بين علم الإجرام و علم الحياة
الجنائي (La biologie criminelle) أو علم الإجرام البيولوجي (La criminologie biologique)
يهتم علم الحياة الجنائي بدراسة وظائف الأعضاء وطبيعتها،
في التأثير في السلوك الإجرامي، و كذا تأثير الإفرازات الغددية في الجهاز الهضمي والعقلي
للإنسان، ويعني بصفة خاصة بدراسة عوامل الوراثة، ومدى تأثيرها في السلوك المنحرف.
وقد ازدهر هذا العلم بفضل الدراسات التي قام بها بعض العلماء في كل من ألمانيا و
النمسا بصفة خاصة، وأشهرها الدراسات التي أجراها Exner في ألمانيا وGray وليز Lenz في النمسا.
ثانيا˸ الصلة بين علم الإجرام و علم النفس
الجنائي ( La psychologie criminelle) أو علم الإجرام النفسي ( La criminologie psychologique)
ويهتم بالسلوك الإجرامي من الزاوية السيكولوجية؛ حيث
يعالج التكوين النفسي للإنسان المجرم (كمستوى ذكائه وغرائزه وانفعالاته)، هذا
التكوين الذي يضفي على التحرك العضوي الجسماني الصغير الفردية. ويقدم هذا العلم
نتائج مفيدة في سبيل توجيه معاملة المجرم، ولا زالت جامعة Milan الكاثوليكية في
ايطاليا، تدرس السلوك الإجرامي من هذه الزاوية إلى يومنا هذا.
ثالثا˸ الصلة بين علم الإجرام و علم
الانتروبولوجيا الجنائية ( L’anthropologie
criminelle)
وهو علم يقوم بدراسة أسباب الجريمة لدى الفرد، يهدف
معرفة الأسباب العضوية والبيئية التي أفضت به إلى ارتكابها، وتركز الدراسة فيه
على˸
أ. دراسة الجانب العضوي للمجرم: من خلال
دراسة تكوين أعضائه الخارجية وأجهزته الداخلية، وكيفية أداء هذه الأعضاء والأجهزة
لوظيفتها؛ فبالنسبة إلى الأعضاء الخارجية، تشمل الدراسة أبعاد هذه الأعضاء، وطولها
ودرجة التناسب بينها. ولم يصل العلم بعد إلى تحديد مدى الصلة بين الإجرام وبين
العيوب الخلفية التي قد تشوب بعض الأعضاء الخارجية للإنسان المجرم.
أما دراسة الأعضاء الداخلية، فتتناول الجهاز الدموي
والتنفسي، وكذا الجهاز الهضمي والبولي التناسلي والعصبي ... فكثيرا ما يكشف في هذه
الأجهزة عن أمراض وعيوب لها علاقة بالسلوك المنحرف عموما، وحتى إن لم تكن كذلك،
فإنها توقظ بشكل آو بآخر، النزعة الانحرافية (الإجرامية) لدى الإنسان.
ب. بحث الجانب النفسي للمجرم: من خلال دراسة
الجوانب المختلفة لنفسيته وشخصيته، كعواطفه وأخلاقه وغرائزه، ومدى استجابته
للمؤثرات الخارجية، وكذا مستوى ذكائه وعياً وإدراكا، وطريقة تفكيره، بل وتصوره
للأمور. فكل هذه المكونات النفسية، إذا ما شابها خلل أو شذوذ، فان ذلك يؤثر بشكل
واضح في السلوك الظاهري للإنسان؛ والذي يمكن أن يتطور إلى سلوك إجرامي في مرحلة
متقدمة. ويعتبر لمبروزو يحق منشئ هذا العلم. وكان له الكثير من الطلبة الذين
تابعوا أبحاثه في ايطاليا أشهرهم وGarofalo و Ferri و Viriligo و Tomassio Di Tulio.
رابعا: الصلة بين علم الإجرام و علم
الاجتماع الجنائي (La
sociologie criminelle)
يؤسس علماء الاجتماع الجنائي دراساتهم بصفة أساسية، على
معطيات الإحصاءات الجنائية، بغية استخلاص النتائج المفيدة ذات الدلالة منها. و
تأتي فائدة هذا العلم في إعطاء رؤية عملية للظاهرة الإجرامية باعتبارها ظاهرة
اجتماعية فيبحث في مدى الصلة بينها و بين غيرها من الظواهر، كالظاهرة الطبيعية و
الظاهرة الاقتصادية ... بهدف الوصول إلى مدى تأثرها بكب هذه الظواهر. فهو لا يدرس
الجريمة باعتبارها ظاهرة في حياة المجرم. يرتبط تحققها بظروفه الشخصية. وإنما
باعتبارها ظاهرة في حياة المجتمع تتأثر بالظروف التي يعيش فيها أو يمر بها. ومن
مؤسسيه Ferri وGrispini و Durkhelو Tardi، ويلقى هذا العلم عناية خاصة في
الولايات المتحدة الأمريكية.
خامسا: الصلة بين علم الإجرام و السياسة
الجنائية (politique criminelle)
يخرج بعض الفقهاء السياسة الجنائية من نطاق علم الإجرام،
باعتبارها لا تبحث في أسباب الجريمة، وبمعنى في عواملها الفردية والاجتماعية
لاعتنائها الخاص برسم الخطط، وتخير انسب الأساليب لمكافحة ظاهرة الإجرام. فهذا
العلم يبحث في ما هو كائن؛ فهو يمحص الجريمة كظاهرة حدثت في حياة الفرد والجماعة
ليحدد دوافع ارتكابها، بينما تبحث السياسة الجنائية في ما يجب أن تكون عليه
المنظومة الجنائية بأكملها لمكافحة الجريمة؛ فتحدد أفضل النصوص الجنائية التي يكفل
تطبيقها تحقيق هذا الهدف في ضوء الظروف السياسية، والاجتماعية والاقتصادية السائدة
في المجتمع.
وعلى الرغم من استقلال علم الإجرام عن السياسة الجنائية،
فٳن الصلة بينهما وثيقة؛ فالسياسة الجنائية تأخذ دراسات، بل ونتائج علم الإجرام
بالاعتبار في نهجها لمكافحة الجريمة.
ومن ذلك مثلا، أن العقوبة كانت في ما مضى تطبق على من
يُحكم عليهم بها في مكان واحد وبطريقة واحدة.فلما أثبتت دراسات علماء الإجرام
اختلاف أسباب الجريمة واختلاف شخصيات المجرمين، أدى ذلك إلى اختلاف وسيلة تنفيذ
العقوبة باختلاف شخصيات المجرمين الذين تنفذ في حقهم، وهو ما يعرف بنظام تفريد
العقاب.
سادسا: الصلة بين علم الإجرام وعلم العقاب (Science pénitentiaire / pénologie)
علم العقاب هو ذلك العلم الذي يتوخى الوقاية من الجريمة،
والتصدي لها وعلاجها؛ فهدفه اكتشاف أفضل الوسائل، وأنجع السبل لتقويم سلوك المجرم
وتصحيحه ورده إلى سواء السبيل. ويتفق علم الإجرام وعلم العقاب في أن كليهما من
العلوم المساعدة للقانون الجنائي، والتي تستهدف معاونته في تحقيق الدفاع
الاجتماعي. ومع ذلك فكل منهما مجاله المستقل عن الأخر؛ فعلم الإجرام يبحث حصريا في
أسباب الجريمة ودوافع ارتكابها كما سلف بيانه، بينما يبقى هدف علم العقاب بالأساس
تحديد الأغراض الاجتماعية، المتوخاة من العقوبات والتدابير الوقائية، واستخلاص
القواعد التي ينبغي مراعاتها في تنفيذ هذه العقوبات والتدابير حتى تتحقق الأهداف
المرتقبة أو المتوخاة منها.
على أن استقلال علم الإجرام عن علم العقاب لا ينفي
العلاقة بينهما، بل إن هذه العلاقة تعد نتيجة حتمية للصلة بين الجريمة و العقوبة.
فالعقوبة اثر يرتبه القانون على الجريمة، و هدفها الأساسُ هو مكافحة الظاهرة
الإجرامية، و لا شك أن تحقيق ذلك يتوقف على معرفة الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة.
حتى تكون العقوبات و التدابير المرصودة لها أنجع وأكثر فعالية، ومن هنا، فالدراسة
الجدية لعلم العقاب تطلب المامًا بنظريات علم الإجرام ومبادئه.
سابعا: الصلة بين علم الإجرام وعلم الأدلة
الجنائية (La criminalistique)
يستقل علم الأدلة الجنائية عن علم الإجرام، إذ يبحث
الأول في الوسائل العلمية والفنية التي تكشف مرتكب الجريمة وتفضحه، وبذلك لا يفسر
السلوك الإجرامي بتحديد دوافعه – فردية كانت أو اجتماعية – كما انه لا يتناول
الجريمة كظاهرة إنسانية حتمية، لابد أن تتحقق متى توافرت مجموعة من العوامل الكامنة
في المجرم، أو المحيطة به (اقتصادية، اجتماعية...). وإنما هدف هذا العلم بالأساس
التوصل إلى مرتكب الفعل الإجرامي، وظروف ارتكابه؛ من خلال جمع العناصر المادية
التي على شخص المجرم وتحليلها.
ويعتمد في ذلك على تقنيات علمية، وأساليب فنية، وتكنولوجيا علمية ترتبط بالتطور المعرفي والتكنولوجي السائد في المجتمع؛ ومن ذلك مثلا˸ علم البصمات و تقنية ADN/DNA، علم الأسلحة النارية، والطب الشرعي، وغيرها من العلوم والأساليب الحديثة، التي تكشف عن هوية المجرم؛ من خلال الآثار والعلامات التي خلفتها الجريمة. كما يخدم علم الأدلة الجنائية علم الإجرام من خلال الكشف عن ظروف، بل وكيفية ارتكاب الجريمة، وهو ما يفسر شك الخطورة الإجرامية الكامنة في المجرم ومدى استعداده الإجرامي.[1]
تاسعا: علاقة علم الإجرام بالقوانين
يتصل علم الإجرام أساسا بقانون العقوبات، والاتصال
بينهما جد وثيق كما يتصل أيضا بقانون الإجراءات الجزائية أو قانون أصول المحاكمات
الجزائية، وسوف نستعرض علاقة كل منهما بعلم الإجرام.
أولا : علاقة قانون العقوبات بعلم الإجرام:
يتفق قانون العقوبات مع علم الإجرام في الهدف والغاية
المتمثلة في مكافحة الجريمة، ويختلفان في طبيعة كل منهما، وفي كيفية نظرته
ومعالجته للجريمة، فقانون العقوبات طبيعته نظامية يقوم على قواعد آمرة، ينظر إلى
الجريمة من خلال أركانها دون أن يهتم بالباعث عليها، أما علم الإجرام فهو علم
يتوسع في دراسة الظاهرة الإجرامية، ويتغلغل في نفوس المجرمين، ويتناول فيدراساته
المجرمين والأسوياء ويتوسع إلى علوم مختلفة كلها تساعد في فهم الظاهرة وأسبابها،
واقتراح العلاج المناسب لها، ويتكاملان فياعتماد كل منهما على الآخر أثناء وضعه
وأبحاثه، ويمكن تلخيص هذا التكامل في النقاط التالية:
1- قانون العقوبات هو المصدر الأساسي لعلم الإجرام في
اختيار نماذج المجرمين الذين يخضعهم علماء الجريمة لدراساتهم وبحوثهم.
2- يلجأ المشرع ورجال الفقه والقضاء حين سن قانون جزائي
أو إلغائه أو تعديله أو تطبيقه على القوانين والنظريات التي توصل إليها علماء
الإجرام، لكي يتمكنوا من التعرف على الحقيقة الواقعية للفعل الجرمي إلى ية، ويتعذر
التشريع دون معرفة أسباب الجريمة من المشرع، كما يتعذر التقدير على القاضي إذا لم
يكن عارفا بوضع المجرم.
3- أولت التشريعات الجزائية في العالم اهتماما خاصا
بشخصية المجرم، والفضل في ذلك يعود إلى علم الإجرام الذي كشف عن أهمية هذه الشخصية
في تحديد المسؤولية الجزائية، وفي اختيار نوع العقوبة، ومقدارها، وتطبيق تدابير
الوقاية والحماية والعلاج.
وإذا كان قانون العقوبات هو المسبار الذي لا غنى عنه
لعلم الإجرام لمعرفة المجرم، ودراسته من كل النواحي، فإنه يقدم خدمة عظيمة لقانون
العقوبات سواء أثناء التشريع أو أثناء القضاء أو أثناء التنفيذ وعلم الإجرام هو
الذي أوحى للمشرع بتفريد العقوبات عند وضع القانون، إذا ان عقوبة الجريمة تحتلف من
صفة شخص إلى آخر، ومن ذلك وضع عقوبة في القتل للزوج إذا قتل زوجته الزانية، ووضع
للقاضي مجال واسع للعقوبة له حد أدنى وآخر أعلى من أجل التفريد ذاته، ونفس الأمر
على مستوى التنفيذ، فإلى جانب العقوبة نص القانون أيضا على التدابير الوقائية،
وبسبب هذه الأهمية التي يؤديها علم الإجرام بالنسبة لقانون العقوبات، فقد دعت بعض
المؤتمرات الدولية لقانون العقوبات أفرادها إلى الإطلاع على علم الإجرام، وفي هذا
الصدد أوصى المؤتمر الدولي التاسع لقانون العقوبات الذي انعقد بلاهاي سنة 1964
بالإطلاع على ما فيهذا العلم، حيث جاء في توصيات الشعبة الثالثة لهذا المؤتمر: (إن
الأهمية الاجتماعية لدور النيابة العمومية تستلزم توجيه انتباه خاص إلى التكوين
المهني لأعضائها، وإلى النهوض بكفايتهم الفكرية، أما عن تكوينهم المهني فإن من
لوازمه معرفة عميقة بعلم الإجرام يجب أن تتهيأ لهم أباب توثيقها في أثناء أداء
وظيفتهم.
ثانيا: علاقة علم الإجرام بقانون الإجراءات الجزائية:
يهتم قانون الإجراءات الجزائية بوضع الضوابط المختلفة لأساليب البحث عن الجرام و مرتكبيها وكيفية التحقيق معهم وجمع الأدلة وتقديمهم للمحاكمة، ويؤثر قانون الإجراءات في علم الإجرام من خلال دراسة مدى تأثير الأجهزة الإجرائية المختلفة على شخصية المجرم وبصفة خاصة المجرمين العائدين، كما يتأثر قانون الإجراءات بنتائج دراسات علم الإجرام، فهذه النتائج هي التي تساعد القاضي على تكوين ملف خاص لشخصية المدعى عليه حتى يتسنى له اختيار الجزاء الملائم، وبتعبير آخر فإن الهيئة القضائية مطالبة أن تفهم شخصية المجرم والدوافع التي أدت به إلى ارتكاب الجريمة وذلك قبل الحكم عليه ولذلك فائدتان: الأولى التحقق من كونه قد ارتكب الجريمة فعلا، وأنه أهل للمسؤولية عنها من أجل اختيار الجزاء أو التدبير المناسب، و الكشف عن شخصية المجرم ومعرفة أسباب ارتكاب الجريمة هو من مهام علم الإجرام، ولذلك فإن علم الإجرام يؤدي دور المساعد لقانون الإجراءات الجزائية في هذا الجانب كما أن قانون الإجراءات الجزائية هو المؤهل بالكشف عن المجرم والجريمة بفضل التحري والتحقيق، وما يتوصل إليه في ذلك يستفيد منه علم الإجرام في استخلاص ملاحظاته وتوجيه تقريراته.[2]