أهم النظريات المفسرة للسلوك الإجرامي Les grandes théories criminologiques
تمهيد
رغم أن الدراسات الفلسفية الدينية القديمة، كانت تنظر
إلى الجريمة كرجس من عمل الأرواح الشريرة، و الشياطين التي تتقمص روح الجاني،
واعتبرتها في ما بعد قدرًا محتومًا لا مفر منه، يعبر عن غضب الآلهة، فٳن الدراسات
الجدية أو العلمية لهذه الظاهرة، لم تبدأ إلا من عهد قريب بيانه؛ حيث حاولت مختلف
الدراسات الحديثة تفسير السلوك الإجرامي للإجابة على التساؤل الآتي˸ لماذا يجرم
الإنسان؟؟ وبالرغم من حداثة هذا العلم، فقد تعددت الأفكار والنظريات بتعدد
العلوم والمعارف التي تهتم بالسلوك الإجرامي، ومع ذلك، يمكن رد جملة الاتجاهات المختلفة
إلى ثلاثة مذاهب رئيسية هي˸
1) المذهب الفردي˸ الذي يعزي
الجريمة إلى المجرم نفسه، دون اهتمام بتأثير العوامل الاجتماعية.
2) المذهب الاجتماعي˸ وهو الذي
يرجع أسباب الجريمة إلى المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه المجرم.
ويتوسط المذهبين مذهب ثالث، يأخذ بالعوامل الفردية
والعوامل الاجتماعية والبيئية، وٳن غلب بعض هذه العوامل على الأخرى بحسب كل حالة،
ويطلق عليه المذهب المختلط. وفي ما يلي نعرض لأهم الأفكار والنظريات التي ارتبطت
بهذه المذاهب.
المبحث الأول: دور المذهب الفردي في تفسير السلوك الإجرامي
تأثر أنصار هذا المذهب بالمنهج التجريبي في البحث-
القائم على الملاحظة والتفسير- فانطلقوا من شخصية المجرم وذاته من النواحي العضوية
والنفسية والعقلية لتفسير السلوك الآثم، ورغم انطلاق أنصار هذا المذهب من نقطة
واحدة (شخصية المجرم و ذاته)، ومدى إسهامها في إحداث الجريمة، فإنهم اختلفوا في ما
بينهم حول مدى قوة تأثير كل عامل من العوامل الفردية، ومدى رجحانه على باقي
العوامل، وأكثر المدارس شهرة في هذا المذهب˸
1. المدرسة الوضعية الٳيطالية
2. المدرسة التكوينية الأمريكية
3. مدرسة التحليل النفسي
المطلب الأول: المدرسة الوضعية الايطالية˸ L’école positiviste italienne
من أهم أقطابها، بل ومؤسسيها الطبيب الايطالي سيزار
لمبروزو (Cesare Lombroso) (1835-1909) ، والأستاذ انريكوفيري
ورفاييل كاروفالو، وكان لمبروزو أول من نبه أذهان الباحثين في علم الإجرام، إلى
دراسة شخصية المجرم على أساس علمي سليم، وقد ساعدته مهنته -طبيبًا- على التعمق في
دراسته، حتى خرج منها بنظريته التي ضمنها كتابه الشهير، الذي أصدره سنة 1876 عن
«الرجل المجرم» أو «الإنسان المجرم».
وتتلخص نظرية لمبروزو، في أن المجرم يتميز عن غيره بصفات
خاصة عضوية ونفسية؛ فمن الناحية العضوية، لاحظ أن للمجرم ملامح خاصة، تكمن في عدم
انتظام جمجمته؛ حيث شملت أبحاثه ثلاث مئة وثلاث وثمانون (383) جمجمة لمجرمين موتى،
وحوالي ستة آلاف من المجرمين الأحياء (بالضبط 5907) لاحظ من خلالها وجود تجويف غير
عادي في مُؤَخِّرَةِ الجمجمة، يشبه ذلك الذي يوجد لدى بعض الحيوانات الدنيا
(القردة).
ومن ضمن ما لاحظ أيضا لدى المجرم، كثافة الشعر في الرأس
والجسم، وضيق الجبهة، وضخامة الفكين، وطول الأذنين أو قصرهما، وبروزهما إلى الخارج
بشكل واضح مع عدم انتظام الأسنان، وعدم استقامة الأنف، والطول المفرط في الأطراف
والأصابع...
ولذلك، خلص لمبروزو إلى أن المجرم نوع شاذ من الناس،
يختلف عنهم في تكوينه الذي يجعله اقرب إلى الإنسان البدائي الأول؛ فلا يستطيع
التكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه.
ومن الناحية النفسية والعقلية والمزاجية للمجرم، لاحظ
لمبروزو كثرة الوشم الذي يرسمه المجرمون على أجسامهم، كما لاحظ خلاعة هذه الرسوم
الوشمية وبذاءتها، فاستخلص من كل ذلك، تميز المجرمين بصفات نفسية أهمها˸ غلظة
قلوبهم وعدم إحساسهم بالألم... وهو ما يجعلهم يرتكبون جرائمهم في سهولة ويسر.
ومن ضمن ما لاحظه، أيضا حدة المزاج لديهم، وميلهم إلى
الكسل والغرور، وميلهم أيضا نحو الكحول، ورغبتهم الملحة في المقامرة، وإيمانهم
الكبير بالخرافات، وكذا شعورهم الدائم بعدم الاستقرار النفسي والعاطفي، فضلا عن
فقدانهم السيطرة على النفس...
وقد اعتقد لمبروزو أن النموذج الإجرامي الكامل للمجرم
المطبوع هو الذي يتميز بأكثر من خمس سمات انحطاطية، أما النموذج غير الكامل، فهو
الذي تقل سماته الانحطاطية عن الخمس دون الثلاث، أما من تقل سماته الانحطاطية عن
الثلاث فهو لا يعتبر نموذجا إجراميًّا معيّنًا. وأكد لمبروزو أن هذه السمات
الانحطاطية التي يتميز بها المجرم ليست سببًا بذاتها للجريمة، وإنما هي سمات وصفات
تميز المجرم عن غير المجرم، بل وتزيد من قابلية الفرد، وتضاعف استعداده لارتكاب
الجرائم أكثر من غيره. ولذلك، انتهى إلى القول أن المجرم شخص مغلوب على أمره؛ لأنه
طبع على الإجرام فهو مجرم بالفطرة أو بالميلاد "Le criminel né ".
- تقدير نظرية لمبروزو
أثارت أفكار لمبروزو حماس بعض العلماء وإعجابهم، بفضل
سبقها في إلقاء الضوء على دراسة جسم الإنسان من الناحيتين العضوية والنفسية، إلا
انه ما لبث أن انقلب الحماس والإعجاب إلى نقد شديد، ومن جملة ما اخذ على هذه
النظرية˸
إسراف لمبروزو في تمييز المجرمين بصفات جسدية معينة؛
خصوصًا و انه حصر دراساته في بعض المجرمين (الأحياء والأموات)، فلم يقم بدراسات
مقابلة على عدد مماثل من غير المجرمين، حتى يستطيع أن يجزم بتميز المجرمين دون
غيرهم بهذه الصفات، وهو ما افقد استنتاجاته قيمتها ومصداقيتها، ودفعه إلى إعادة
النظر في ما خلص إليه، محاولا اختبار مصداقية ما توصل إليه في بحوثه السابقة،
فانتهى إلى وجود عوامل أخرى غير التي اعتمدها سالفًا تدفع إلى الإجرام، كما انتهى
إلى تصنيف المجرمين إلى عدة طوائف هي:
1. المجرم بالفطرة أو بالوراثة˸ وهو الذي سبقت
الإشارة إلى سمات بدنه وملامح شخصيته.
2. المجرم المجنون˸ وهو من يرتكب
الجريمة تحت تأثير المرض العقلي، ولذلك ينبغي وضعه في مصحة عقلية لاتقاء شره.
3. المجرم بالعادة˸ وهو من اعتاد
الإجرام بسبب ظروفه الاجتماعية، وأهمها اتصاله بالمجرمين وإدمانه الخمور والبطالة.
4. المجرم بالصدفة˸ ويرجع
لمبروزو إجرامه إلى الظروف والمواقف التي يجد نفسه فيها، وتدفعه إلى الإجرام صدفة
أو بسبب حب الظهور و التقليد.
5. المجرم بالعاطفة˸ وهو شخص
يتميز بحساسية مفرطة، تدفع به إلى الانفعالات الهوجاء والعواطف المختلفة، من غضب
وحب وغيرة وحقد وكراهية... ويصنف لمبروزو المجرم السياسي في هذه الخانة.
ومن ضمن ما اخذ أيضا على النظرية اللمبروزية، عنايتها
بدراسة أعضاء المجرم وشخصيته فحسب، باعتبارها الدافع الأساس إلى الإجرام، وإغفال
دراسة جميع العوامل الاجتماعية أو البيئية على الرغم من دورها المهم في السلوك
الإجرامي.
ومما وجه أيضا لهذه النظرية، إقرارها بوجود مجرم
بالميلاد أو مجرم بالفطرة، وهو ما انتقده بعض الباحثين بشدة، مؤكدين أن السلوك
يكون إجراميا أو غير إجرامي وفقًا للنمط الاجتماعي السائد، واستنادًا إلى نص جنائي
يصفه بعدم المشروعية، وبما أن صفة المشروعية من عدمها مسالة نسبية، تختلف من مجتمع
إلى آخر، بل ومن زمن إلى آخر في المجتمع الواحد، فانه لا يقبل القول إن الشخص الذي
يولد بصفات معينة يكون مجرمًا، أيا كان المجتمع الذي وجد به أو الزمن الذي ولد
فيه.
- انريكو فيري Enrico Ferri(1929-1856)
اهتم فيري بما طرحه أستاذه لمبروزو بشان التأثير العضوي
البيولوجي، غير انه خلافًا لأستاذه، اعتبر العوامل الاجتماعية والنفسية
والاقتصادية والجغرافية والسياسية أسبابًا دافعة لارتكاب الجرائم. ويعد فيري مؤسس
الجناح البيولوجي الاجتماعي للمدرسة الايطالية، واليه يرجع الفضل في تأسيس «علم
الاجتماع الجنائي»"La sociologie
criminelle "، كما ابتدع ما
يعرف بقانون التشبع الإجرامي أو الكثافة الإجرامية. وقد اعتمد فيري في بحوثه
المنهج التجريبي كما فعل أستاذه لمبروزو، مقسمًا المجرمين إلى خمس طوائف هي˸
- المجرم بالولادة (criminel né)
- المجرم المجنون (criminel fou)
- المجرم العرضي أو
بالصدفة (délinquant d’occasion)
- المجرم العاطفي أو
الانفعالي (délinquant passionnel)
- المجرم المعتاد(délinquant d’habitude)
هذا، وقد اعتقد فيري أن التصدي للجريمة، والدفاع عن
المجتمع يستوجب أولا الدفاع الوقائي ثم الدفاع العقابي، وارتأى أيضا أن مواجهة
خطورة الجاني تستلزم أمرين˸ أولهما مواجهتها بالتدابير البوليسية الوقائية،
وآخرهما تكييفه مع الحياة الاجتماعية.
وقد لاحظ كُورنك تميز المجرمين بصفة عامة بنقص في الوزن
والطول، وهو نقص عزاه الباحث إلى انحطاط عام موروث في طبيعة المجرم، يبدو في قياس
مستواه العقلي وغير ذلك من العوامل التي يكون للوراثة دخل فيها.
المطلب الثاني: المدرسة التكوينية الأمريكية
من ابرز المؤيدين لنظرية لمبروزو في أمريكا، أستاذ
الانتروبولوجيا بجامعة هارفارد ارنست هوتون "Earnest Albert Hooton
" ( (1954-1887، هذا الأخير الذي تناول بالفحص والتمحيص المجرم الأمريكي، من خلال
دراسة ما سبق من أبحاث ودراسات حول الموضوع، متخذًا لأبحاثه مجموعات كبيرة من
المجرمين وغير المجرمين، انتقاهم من ثماني ولايات أمريكية، مراعيًا في اختيارهم
ظروفهم الخاصة، وعامل الجنس والجنسية. وقد خلص هوتون في أبحاثه إلى وجود صفات
انحطاطية موروثة (بيولوجية) يتميز بها المجرمون، وٲن هذه الصفات تتعلق بشكل
العينين والأنف والفم والأذنين والجبهة، ومقاييس هذه الأعضاء. ولهذا الانحطاط
والشذوذ البدني، الذي يدل على انحطاط عقلي حسب هوتون، أهمية في تبرير الظاهرة
الإجرامية، هذا فضلا عن اعتماده في بعض دراساته- وتحديدا المتعلقة بسكان أمريكا
اللاتينية- التصنيف السلالي العرق"racial
types ".
كما استخلص هوتون من دراساته، أن من بين هؤلاء المجرمين
يتميز مرتكبوا نوع معين من الجرائم بصفات مشتركة، تميزهم عمن يرتكبون جرائم من نوع
آخر، فمثلا هناك صفات تميز مرتكبي الجرائم التي تقع ضد الأشخاص كجرائم القتل
والنهب، حيث يتميز مقترفوها بطول القامة ونحافة الجسم... في ما يتميز الذين
يرتكبون الجرائم الجنسية بقصر القامة والوزن المفرط...
وهكذا رد هوتون الجريمة إلى انحطاطية تكوينية موروثة،
يتميز بها المجرمون وحدهم يمكن تَعَرُّفٌهَا من خلال ملامح المجرمين، وأوصافهم
الجسدية؛ مؤيدًا بذلك ما ذهب إليه لمبروزو في كتابه «الرجل المجرم»، وان كان هوتون
قد ارتأى في الانحطاطية الاجتماعية (المهنة، الحالة الاجتماعية...) دافعًا أيضا
للإجرام وان لم يركز عليها كما فعل بالنسبة إلى العوامل الفردية (الجسدية).
- تقدير نظرية هوتون
رغم أن هوتون لم يكتف بدراسة طائفة المجرمين، وإنما شملت
أبحاثه مجموعة مقابلة لها من غير المجرمين؛ وهو ما جنب دراسته النقد الذي وجه
للمبروزو من هذه الزاوية، إلا أن نظريته تعرضت لانتقادات شديدة، شملت منهجه في
البحث، وكذا النتائج التي توصل إليها.
فمنهجيًا وقع هوتون في الأخطاء نفسها التي وقع فيها
لمبروزو، من حيث عدم مراعاته للشروط التي ينبغي توافرها في العينة محل البحث؛ حيث
أجرى أبحاثه على مجموعة من نزلاء السجون، على أساس أن هؤلاء يمثلون المجرمين كلهم،
والحقيقة غير ذلك، فهؤلاء لا يمثلون الرقم الحقيقي للإجرام وإنما هناك رقم مظلم (chiffre noir) لا يصل إلى القضاء أو
السجون، بل و حتى إلى علم الجهات المعنية، لمجموعة من الأسباب ابسطها عدم
تَعَرُّفِ مقترف الجرم.
ومن ناحية أخرى، فقد اخذ على دراسة هوتون تصنيفها للصفات
المميزة للمجرمين بحسب نوع الجرائم. ومنه مثلا قوله بوجود صفات معينة في مرتكبي
جرائم العنف وصفات أخرى مغايرة في مرتكبي جرائم الأموال؛ وهو ما يفيد وجود تخصص
دائم بين المجرمين في ارتكاب نوع معين من الجرائم، وهذا إن صح أحيانا، فانه كثيرًا
ما يخطئ.
ويعيب على النظرية أيضا تركيزها بالأساس، على العوامل
الفردية (الشخصية) وإهمالها للعوامل الاجتماعية التي لم تأخذ حقها من الدراسة.
- وليام شيلدون William Scheldon
اهتم شيلدون كهوتون بالبناء العضوي للإنسان، مضيفًا إليه
ما اسماه التكوين العقلي والمزاجي للشخصية، ولعله ما مكنه من وضع تصنيف ثلاثي
للنموذج البشري، متأثرا في كل ذلك بعلم الأجنة، وعلم الفيسيولوجيا والوراثة
الجينية. وقد أجرى شيلدون دراسته على أربع ألاف (4000) صورة فوتوغرافية، لطلاب
تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والعشرين، فخلص من خلالها إلى وجود ثلاثة نماذج
بشرية رئيسية هي˸
1. النموذج الداخلي˸ المتميز
بضخامة أحشاء الجهاز الهضمي والسمنة المفرطة واستدارة أجزاء الجسم.
2. النموذج العظمي˸ المتميز بقوة
الجهاز العضلي و ضخامة العظام.
3. النموذج الدقيق˸ المتميز
بانخفاض الصدر، وضعف الجهاز العظمي والعضلي وكذلك الأحشاء.
وقد الحق شيلدون بكل نموذج من هذه النماذج الثلاثة،
الخصائص العقلية والمزاجية التي تناسبه؛ فذهب إلى أن النموذج الأول يتميز بالميل
نحو الراحة والمرح والإفراط في الأكل... ويتميز الثاني بالميل نحو إبراز القوة
البدنية، وحب المغامرة، والميل نحو المقابلة والتنافس والعدوان.... بينما يتميز
الثالث بالانطوائية والتحفظ.
وليتأكد شيلدون من طرحه، قام بإجراء دراسة على بعض
الأطفال الجانحين؛ الذين وضعوا ببعض المراكز الاجتماعية ببوستن الامريكية، فخلص
بعد إجراء البحث عليهم طبيًّا ونفسيًّا وعقليًّا، إلى اختلافهم من الناحية
العضوية، النفسية والعقلية عن غيرهم من الأسوياء (غير الجانحين). وتشكل هذه
الاختلافات، حسب شيلدون، دونية انحطاطية مورثة. وقد اُخذ على شيلدون ما اُخذ على
النظريات السابقة في ما يتعلق بعدم توضيح معنى الانحطاطية وتفسيرها، وكيفية
انتقالها بالوراثة، فضلا عن قلة عدد الجانحين الذين تناولتهم أبحاثه.
وتبنّى طرح ويليام شيلدون الزوجان كَلوويك (Glueck) اللذان أكدا ميل الأحداث عمومًا نحو النموذج العضلي (المتميز
بالعدوان والمقاتلة والسيطرة...) وان لم يعتبرا التكوين البدني عاملا رئيسًا في
إحداث السلوك الإجرامي، وإنما وازنا بينه وبين العوامل النفسية كدوافع مؤثرة في
الشخصية الإجرامية.
المطلب الثالث: المدرسة النفسية
أولا˸ نظرية فرويد (S.Freud (1856-1939
حاول أنصار المدرسة النفسية سبر أغوار الجانب الخفي من
الشخصية الإنسانية بغية الكشف عن علة الجريمة، التي اخفق التكوين البيولوجي في
الكشف عنها. ويعد العالم النمساوي سيكَموند فرويد رائد هذا الاتجاه، وقد بدا
تفسيره للسلوك الإجرامي بتقسيم النفس إلى ثلاثة أقسام˸
- قسم الذات أو
الذات الدنيا˸ ويرمز إليه بكلمة (هو) أو الليبدو "Libido" يشمل الاستعدادات الموروثة، والنزاعات الغريزية، والميول
الفطرية التي تتمركز في ما يسمى اللاشعور.
- قسم الأنا˸ وهو الجانب
الشعوري العاقل من النفس، الذي يضم مجموعة الملكات العقلية، ويرمز إليه بكلمة (EGO). وتحاول الأنا أن تقيم نوعًا من الانسجام والتكيف بين النزاعات
الفطرية الغريزية من جهة، وبين العادات والتقاليد من جهة أخرى، فان جانبها التوفيق
تسامى النشاط الغريزي أو كبت في منطقة اللاشعور.
- قسم الأنا
العليا˸ وهو الجانب المثالي من النفس، الذي يضم مجموعة المثل
والقيم والعادات والتقاليد المورثة، والروادع التي تولدها القيم الدينية
والأخلاقية والاجتماعية. ويرمز إليه ب(Super
Ego) ويعرف هذا القسم
أيضا بالضمير، ومهمته مراقبة الأنا ومساءلتها، ولومها عن أي تقصير في أداء وظيفتها
التوجيهية للنزعات الغريزية؛ فهو بمثابة الضابط المسيطر على الأنا، الذي يوجهها
ويحاسبها إذا ما انطلقت الغرائز من عقالها دونما ضابط يردعها.
ثانيا˸ دور هذا التحليل في تفسير السلوك الإجرامي
يبدو حسب فرويد، أن السلوك الإجرامي يرجع بالأساس إما
إلى عجز الأنا عن تكييف الميول الفطرية والغريزية لدى الشخص مع متطلبات الحياة
الاجتماعية وتقاليدها، او الى التسامي بها أو كبتها في اللاشعور، وإما إلى عجز
الأنا العليا عن أداء وظيفتها الكامنة في الردع، وقد أورد فرويد عدة أمثلة لما
يحدث في جوانب النفس البشرية، من خلل واضطراب، أهمها عقدة اوديب (oedipus complex / le complexe d’oedipe) وعقدة الذنب (Guilt comlex).
أ. عقدة اوديب Oedipus complex: و تنطلق من الغريزة الجنسية التي يختلف اتجاهها بحسب مراحل العمر المختلفة ففي المراحل الأولى للطفولة، يحب الطفل ذاته ويعجب بها، وفي مرحلة ثانية تتجه عواطفه نحو الآخر، فيميل الطفل في أول هذه المرحلة نحو أفراد من جنسه، وفي مرحلة لاحقة، تبدأ الغريزة الجنسية في النضوج، فيميل الشخص نحو الجنس الآخر؛ فيحب الطفل أمه، وتحب الفتاة أباها، ويَكره الطفل والده باعتباره منافسًا له في هذا الحب وتكره الفتاة أمها باعتبارها منافسة لها في حبها، وبما أن الوالد يشمل ابنه أو فتاه بالعطف والحب والرعاية، فان صراعًا يتولد في نفس الأخير؛ سببه تناقض في المشاعر نحو الوالد، فيحبه لأنه يمنحه عطفه وحبه ورعايته... ويكرهه لأنه ينافسه في حبه لامه، ومن هنا تأتي عقدة أديب. وإذا لم تستطع الأنا إنهاء هذا الصراع، وتكييفه مع القيم الدينية، والتقاليد الاجتماعية أصبح احتمال إجرام الابن واردًا.
ب. عقدة الذنب Guilt complex˸ ويتولد من خلالها لدى الشخص شعور بالذنب، بسبب تنامي دور الأنا العليا؛ الذي كان منعدما عند السلوك غير الاجتماعي الأول. ويظل الشعور بالذنب يطارد الشخص (المضطرب نفسيًّا) ويلح عليه إلى أن يرتكب جريمته رغبة منه في التحرر من هذا الشعور.
- تقدير نظرية فرويد
يرجع الفضل إلى فرويد في شد اهتمام الباحثين إلى ضرورة
تعميق البحث في ذلك الجانب المجهول من الشخصية الإنسانية، ألا وهو الجانب النفسي.
هذا الجانب الذي يفسر في كثير من الحالات ارتكاب بعض الجرائم، ويساعد على وضع خطة
علاجية بهدف تقويم المنحرف، ومساعدته على التكيف مع المجتمع.
ومع ذلك، فقد تعرضت نظريته لموجة شديدة من الانتقادات،
أهمها الغموض الشديد الذي اتسمت به. ويؤخذ عليها أيضا، اعتمادها في تفسير السلوك
الإجرامي الحتمية السلوكية أو السيكولوجية؛ وذلك على غرار الحتمية البيولوجية لدى
لمبروزو وأنصاره.
والواقع انه لا توجد صلة حتمية بين الخلل النفسي
والجريمة التي هي في حقيقة الأمر سلوك غير قانوني، غير ثابت زمانًا ولا مكانًا.
كما أن هذه النظرية لم تستطع تقديم برهان علمي على صحتها، لذلك تهكم عليها بعض
العلماء بقولهم أن من يجادل أنصار هذه النظرية لن يجد منهم دفاعًا عنها غير تحليل
نفسيته هو للقول بأنه يعاني من خلل نفسي إلى نقدها.
المبحث الثاني: دور المذهب الاجتماعي في تفسير السلوك الإجرامي
تمهيد
لم تتبلور وتنتشر أسس هذا المذهب وفَرضِيَاِتِهِ بشكل
واضح، إلا بعد أن أعلن لمبروزو عن أفكاره في كتابه الشهير «الإنسان المجرم»؛ الذي
احدث ضجة بين صفوف الباحثين الاجتماعيين في أوروبا وأمريكا، ودفع بعضهم إلى رفض
النظرية اللمبروزية جملة وتفصيلا، رادين الجريمة إلى عوامل اجتماعية، ومن ابرز
هؤلاء في أوروبا˸ دوركهايم ولاكاساني وتارد، مانوفرييه (Manouvrier)
و ڤون هامل (Van-Hamel)، ومن رواد هذا المذهب في أمريكا
نذكر˸ سيلين Sellin))، سذرلاند (Sutherland) وكريسي (D.cressy).
و قد بحث علماء الاجتماع السلوك الإجرامي كظاهرة
اجتماعية، شانها شان غيرها من الظواهر الاجتماعية، فاتسمت دراساتهم بطابع واقعي،
يعتمد على دراسة كل حالة بشكل منفرد لتحديد أسبابها، دون أن تتجه عناية الباحثين
إلى وضع نظرية عامة تصدق على كافة الحالات المشابهة، ونتيجة لذلك، تعددت الدراسات
بتعدد الظواهر الإجرامية.
وفي ما يلي، نتناول أهم النظريات الاجتماعية التي انتشرت
في أوروبا، ثم نتبعها بتلك التي ظهرت وانتشرت في أمريكا.
المطلب الأول: رواد المذهب الاجتماعي في أوروبا
عرف عن المدرسة الفرنسية البلجيكية للقرن 19 بأنها مدرسة
المحيط الاجتماعي لتسليطها الضوء على العوامل الاجتماعية في تفسير الظاهرة
الإجرامية، فالمجتمع حسب هذه المدرسة، لا يملك إلا المجرمين الذين يستحقهم.
وإذا كانت الإرهاصات الأولى، في اعتماد المحيط الاجتماعي
لشرح الجريمة، قد بدأت مع عالم الرياضيات البلجيكي Quetelet
والعالم الفرنسي Guerry الذي اعتقد بوجود جغرافية إجرامية؛ من خلال ربطه الجريمة بعوامل
المناخ، وكذا الظروف الاجتماعية، فان بلورة دور المحيط الاجتماعي كسبب للإجرام،
كان على يد كل من لاكاساني، تارد ودوركهايم الذين عاصروا لمبروزو فتصدوا لأفكاره،
فجاءت مدرستهم كرد فعل مضاد لأفكار المدرسة التكوينية، وقد جاءت مضامين أفكارهم
كالآتي˸
أولا˸ لاكاساني Alexander-Lacassagne ( (1843-1924
اعتقد لاكاساني أن المجتمعات هي التي تصنع المجرمين،
فشبهها بالتربة الصالحة لإنبات الجريمة التي يشكل المجرم بذرتها. هذا الأخير، الذي
شبهه لاكاساني بالجرثومة التي لا ضرر منها إلا منذ اللحظة التي تجد فيها الوسط
الملائم لنموها. كما أكد أن المجتمعات لا تحصل إلا على المجرمين الذين تستحقهم.
وقد اعتقد أيضا بان التكوين العضوي (البيولوجي) يلعب
دورًا في إنتاج السلوك الإجرامي.
وتدخل في الوسط الاجتماعي أو البيئي حسب لاكاساني،
العوامل الطبيعية والجغرافية والثقافية والاجتماعية، فضلا عن سوء التغذية، وتعاطي
المواد المسكرة والمخدرة، بالإضافة إلى الاضطرابات العصبية... وبذلك خلص لاكاساني
إلى أن السلوك الإجرامي ما هو إلا محصلة لهذا الوسط، بحكم ما يحدثه من تأثير في
الإنسان.
وقد اخذ على أفكاره المغالاة في اعتبار الوسط الاجتماعي،
العامل الأساس في إحداث الظاهرة الإجرامية، مع عدم إنكار فضلها، في تسليط الضوء
على هذا العامل (الوسط الاجتماعي) الذي لا ينكر دوره في إحداث الظاهرة الإجرامية.
ثانيا˸ جابرييل تارد Gabriel Tarde ( 1843-1904)
انطلق الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي تارد من الوسط
الاجتماعي لتفسير الظاهرة الإجرامية، من خلال نظريته المعروفة بنظرية التقليد La théorie de l’imitation. وقد حاول تفسير نظريته في العديد من كتبه، والتي نذكر منها˸
الإجرام المقارن " La criminalité comparée " الذي أصدره سنة 1886، و الفلسفة العقابية "La
philosophie pénale " التي أصدرت سنة 1890، وقوانين التقليد "Les lois de l’imitation " الذي صدر في السنة نفسها....
وقد وجد تارد في تنشئة الفرد الاجتماعية، ومعتقداته
الثقافية ومحاكاته للآخرين... أسبابا دافعة للإجرام؛ وبذلك رفض أن يكون للإجرام
علاقة بالتكوين البيولوجي (الطرح اللمبروزي).
فالسلوك الإجرامي، حسب تارد، ليس نمطا سلوكيًّا
وراثيًّا، وإنما يتم اكتسابه بالتقليد الذي يتم بين فرد وآخر، أو من جيل إلى جيل،
أو من المدينة إلى القرية.
ويفترض تارد لإتمام عملية التقليد، أن يكون الوسط
الاجتماعي موسومًا بسوء التنظيم، مما يتيح الاتصال بين الأفراد الأسوياء
والمجرمين. وتتخذ المحاكاة حسبه منهجًا تنازليًّا ( أي من الأعلى إلى الأسفل) ومن
مجتمع المدينة إلى مجتمع الريف. وبذلك، فالجريمة حسبه تصبح حرفة أو مهنة خاصة،
تستوجب متطلبات ضرورية تنسجم وطبيعة الإجرام.
فهي مهنة أو حرفة يتهيأ لها الفرد منذ طفولته المبكرة،
من خلال ظروف نفسية واجتماعية وثقافية، تساعد على تأهيله لاحتراف الإجرام
والانتساب إلى عالمه.
هذا، وقد صاغ تارد ثلاثة قوانين للتقليد لشرح السلوك
الإجرامي.
فالقاعدة الأولى˸ تقضي أن يذهب
التقليد من الداخل إلى الخارج «du dedans
au dehors de l’homme » ، و بمعنى أوضح،
فالأفراد يقلدون بعضهم بعضًا بصورة أكثر ظهورًا كلما كانوا متقاربين. ولعل هذه
القاعدة تفسر سبب إجرام الأطفال الذين يتربون في بيئة تعسة.
والقاعدة الثانية˸ تفيد أن
التقليد يأخذ طريقه من القوي إلى الضعيف، أي تقليد المرؤوس لرئيسه الأعلى «du supérieur à l’inférieur » ، ولعله ما يفسر تقليد رؤساء العصابات؛ إذ يحصل التقليد هنا حتى
بين الأفراد المكونين لهذه العصابات.
أما القاعدة الأخيرة˸ فترتكز على وجود موضات « des modes» داخل فكرة التقليد نفسها، إذ عند تقارب الأذواق والاختيارات، فان
الإنسان يقلد الحديث منها دون القديم، فالموضة الجديدة تطرد القديمة، ولعله ما
يفسر تطور الإجرام، واستعمال وسائل واليات جديدة تواكب التطور الذي تعرفه
المجتمعات (منه مثلا تحويل الطائرات، حجز الرهائن، الجرائم الالكترونية...).
فخلاصة الرأي عند تارد، أن الإنسان لا يتورط في الجريمة
نتيجة ميول ذات أصول عضوية نفسية، بل يقع فيها بسبب مؤثرات نفسية، كالتوجيه
والإرشاد والإيعاز؛ فمن يسرق أو يقتل مثلا لا يقوم إلا بتقليد شخص آخر فعل ذلك
قبله.
وقد أضاف تارد إلى فكرته حول التقليد، دراسته عن المجرم
المعتاد، وهي دراسة عملية أغنت علم الإجرام، خصوصًا وانه نظر إليه كمجرم لا أمل في
إصلاحه، ولا حتى التلطيف من حدته، لاعتياده العيش بدون شغل وبدون عقاب. وهو ما دفع
المهتمين بعلم الإجرام إلى التفطن بخطورة المجرمين المعتادين، ومحاولة إيجاد ما
يناسبهم من عقوبات.
- تقدير نظريته
يؤخذ على نظرية تارد تشبعه بقانونه الأخلاقي، إذ اعتبر
مستوى الإجرام مؤشرًا حقيقيًّا للأخلاق في مجتمع معين، وهو ما ينتج عنه بالضرورة
التلازم بين الأخلاق والجريمة، في حين أن هذا التلازم لا يصدق إلا في جانب ضئيل من
الجرائم، وهي الجرائم الطبيعية كما وصفها كَاروفالو (أي الماسة بالشعور العام
بالشفقة والأمانة). ولعله الموقف الذي جعل تارد يبقى سجينا لنزعته الفردية، ولا
يقول بالقطيعة بين الفعل الأخلاقي والفعل الاجتماعي، كإحدى السمات الأساس لعلم
السوسيولوجيا في عصره. ومن جهة أخرى، يؤخذ على نظريته (حول التقليد) أيضا، تجاهلها
للعوامل المتداخلة (الاجتماعية والاقتصادية الحيوية) التي تدفع إلى ارتكاب
الجريمة. فلا يمكن تفسير السلوك الإجرامي بالاعتماد على نظرية التقليد لوحدها، بل
لا يمكن اعتمادها بشكل مطلق، وإنما يتعين مراعاة حقيقة التفاوت النسبي في التأثير
في الأفراد؛ فلا شك أن الأفراد ليسوا على درجة واحدة من التأثر، فبعضهم قد يكون
لديه استعداد ايجابي للتقليد بحكم تكوين شخصيته، بينما لا يتوافر مثل هذا
الاستعداد لدى غيرهم فيرفضون الانقياد في التقليد. والقول بغير ذلك، يعني انضمام
كافة الأفراد في المجتمع إلى عالم الجريمة. وحتى إن تم التسليم بعكس ذلك، فان
نظرية تارد تبقى عاجزة عن تقديم تفسير تكاملي لعلة الجريمة، لعجزها عن تفسير
السلوك الأول الذي تم تقليده.
ثالثا˸ إميل دوركهايم (Emile Durkheim (1858-1917
اعتبر الفيلسوف وعالم الاجتماع «دوركهايم» الجريمة ظاهرة
طبيعية، ترتبط وجودًا وعدمًا بالمجتمع، فان كانت تعبيرًا عن انعدام الشعور
والتضامن في المجتمع الذي تنتشر فيه، فإنها مع ذلك تعد علامة من علامات الصحة في
المجتمع.
وقد انطلق دوركهايم في دراسته السوسيولوجية من القطيعة
مع النزعة الفردية التي كانت سائدة ومسيطرة في القرن 18. وبمعنى أوضح، لم يسلم
دوركهايم بٲن الفرد هو أساس تقييم الأشياء، كما انه لم يسلم بان المجتمع لا يتكون
إلا من مجموع أفراده، وإنما يمثل شيئا آخر، له وجود في حد ذاته اسماه دوركهايم
«الشيء الاجتماعي». فالمجتمع حسبه يمثل قوة أكثر من قوة مجموع أفراده، وهو ما أطلق
عليه الضمير الجماعي/ Conscience commune الذي يبقى تأثيره في الأفراد
قويا، بل يمارس نوعًا من القهر والإلزام على الأفراد من الخارج. ولذلك، ذهب
دوركهايم إلى أن السلوك لا يكون إجراميا أو منحرفا إلا لأنه يجرح ويؤذي الشعور
الجماعي.
وذهب دوركهايم، في تفسيره دائما للسلوك الإجرامي، إلى أن
الحياة في المجتمع تفترض وجود قدر من النظام فيه، فإذا أصيب هذا النظام بالخلل،
انطلق الأفراد وراء تحقيق رغباتهم على نحو مخالف لما ارتضاه وأرساه المجتمع من
نظام، ولعله سبب ارتفاع الجرائم في فترات الأزمات الاقتصادية... حيث ربط دوركهايم
الظاهرة الإجرامية بالمجتمع، وأكد أنها باقية بقاء المجتمعات، بل إنها ملازمة لكل
مجتمع ينشد التطور. ولشرح فكرته هذه، أكد أن الجريمة ظاهرة طبيعية من صنع المجتمع
من خلال ما يجرمه من أنماط سلوكية بموجب القواعد السائدة فيه، فإذا ما استطاع
المجتمع القضاء نهائيا على هذه الظاهرة، تلاشى ذلك المعيار الذي يفرق بين السلوك
المجرم والسلوك المشروع. وهذا بلا شك أمر غير محتمل الحدوث. إلا في المجتمعات
الخيالية التي لا وجود لها في الواقع.
وتأكيدا دائما لطرحه، اقر أن الجريمة تمثل مرضًا
اجتماعيًّا، أو ظاهرة معتلة تقابل الظواهر السلمية. ويجب قبولها على أنها تعبير له
وظيفته الاجتماعية؛ وذلك لعدة الأسباب˸
- وجودها في المجتمعات
على مر السنين، مما يجعل منها ظاهرة مرضية عادية، طبيعية بل و متوقعة.
- إنها تصبح غير عادية
وغير طبيعية، عندما تزيد عن المعدل المتوسط المقرر لها.
- انخفاضها عن المعدل
المتوسط المقرر لها يدل على وجود ظاهرة اجتماعية غير سوية (قد تدل على القمع،
وتضييق الحريات، هدر الإبداع والابتكار...).
- لا يمكن اعتبارها
مرضية عند عدم تأثيرها سلبا في المهام الوظيفية للمجتمع. بل هي ظاهرة طبيعية
عادية، حتى أنها تعبير عن صحة المجتمع وسلامة نظمه عند عدم تعديلها المعدل المتوسط
المحدد لها.
هذا، وقد استعمل دوركهايم مفهوم الانومية (L’anomie) أو اللامعيارية، معتبرًا إياها سببًا للانحراف الاجتماعي. وهي
كحالة للاقانون واللانظام في علاقتها مع الإجرام تعني عند دوركهايم تلك الوضعية
التي يجد فيها الفرد نفسه عاجزًا عن تحقيق الرغبات الطبيعية، التي بدونها لا يمكن
للحياة أن تستقيم. وبمعنى آخر، فان المجتمع يعجز عن توفير بعض الرغبات والحاجات
لأفراده، مما يدفعهم للبحث عن تحقيقها. وعند عجزهم عن ذلك، يستبيحون كل الوسائل؛
بما في ذلك الجرائم التي ترتكبونها نتيجة غياب معيار أو قاعدة يستندون إليها في
سلوكهم السوي داخل المجتمع.
وقد تعرضت أفكار دوركهايم للنقد، فاخذ عليها ربطها بين
استمرارية الجريمة ووصفها بأنها طبيعته (عادية)، ولا شك في أن هذا الربط يشكل
خلطًا بين أمرين لا تلازم بينهما؛ فاستمرارية الجريمة لا تؤذي حتمًا إلى اعتبارها
ظاهرة طبيعية. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإذا كانت كذلك، فلماذا أجهد دوركهايم
نفسه بالبحث فيها ومحاولة شرحها وتفسيرها ما دامت في نظره طبيعية وعادي؟؟
فلا يجب أن يفهم طرح دوركهايم على انه دفاع عن الجريمة،
وإنما هو نادى بضرورة الحفاظ على الحالة العادية والسوية للمجتمع. وعلل ارتكاب
الجريمة بما تقتضيه وتلزمنا به الحياة الاجتماعية، وهو لا يرى مانعًا من عقاب كل
من يمس الشعور القوى للضمير الجماعي، الذي يعبر عن القيم الأساس التي يعتمدها هذا
الضمير في حياة الأفراد خاصة، وحياة الجماعة عامة. أما المساس بالقيم الثانوية، فٳن
الرد عليه ينحصر في اللوم والامتعاض.
ورغم الانتقاد الموجه لهذه النظرية، فقد أثرت بشكل كبير
في نظريات المذهب الاجتماعي، وتحديدًا منها التي سادت في أمريكا
المطلب الثاني: رواد المذهب الاجتماعي في أمريكا
من أهم المدارس والنظريات الاجتماعية التي سادت في
أمريكا˸
- نظرية التفكك
الاجتماعي.
- نظرية تصارع الثقافات.
- نظرية الاختلاط الفاصل
أو التفاضلي.
- نظرية التراخي
الاجتماعي.
وفي ما يلي نعرض لهذه النظريات تباعًا.
أولا˸ نظرية التفكك الاجتماعي Théorie de la désorganisation sociale
تربط هذه النظرية سبب وجود الظاهرة الإجرامية بالتفكك
الاجتماعي، أو انعدام التنظيم الاجتماعي، أو عدم التكيف والتوافق بوجه عام، وعدم
التناسق والتوازن بين أجزاء الثقافة السائدة في المجتمع.... ويقيم تورستين سيلين Torsten sellin. هذه النظرية على أساس المقارنة بين أنواع المجتمعات المختلفة من
ناحية، وبين حياة الفرد داخل المجتمع من ناحية أخرى؛ فأوضح بان المجتمعات الريفية
أو التقليدية تتسم بالانسجام والتضامن في ظروفها واحتياجات الأفراد؛ فلا يشعر
الفرد فيها بالعزلة وعدم الانسجام، ولا يجد في نفسه حاجة إلى اتخاذ سلوك معارض
لسلوك معارض لسلوك فرد آخر، أو لهدف من أهداف الجماعة، بفضل ما يسود داخلها من
تضامن وتآزر ومشاعر إنسانية نبيلة.
وهذا لا يعني أن هذه المجتمعات مجتمعات مثالية، ولا تعرف
الجريمة سبيلا إليها، فلا شك في وقوع بعض الجرائم فيها، ولكنها جرائم قليلة، تقع
في الغالب بين أفراد هذه المجتمعات وآخرين ينتمون إلى مجتمعات أخرى.
وفي المقابل، يفتقر المجتمع المتحضر إلى التكامل
والاستقرار؛ بسبب اتساع نطاقه وتعدد الجماعات المتباينة فيه، مما يؤدي إلى تعارض
المصالح وتضاربها داخله. وابرز مظاهر هذه الصراعات، صراع فئة الفقراء وفئة
الأغنياء، وفئة الجاهلين وفئة المتعلمين، وفئة المتحررين وفئة المحافظين ... إلى
غير ذلك من تجليات الصراع المجتمعي. ولعله ما شد انتباه علماء الاجتماع، الذين
خلصوا في دراساتهم وأبحاثهم إلى القول إن السلوك الإجرامي ما هو إلا ظاهرة
اجتماعية، تعبر عن اللاتوافق و أللانتماء الاجتماعيين، اللذين يزدادان في
المجتمعات المعقدة والمركبة، والتي يضعف فيها دور المؤسسات غير الرسمية في الإشراف
على الضبط الاجتماعي المطلوب؛ حيث يبقى الضبط الاجتماعي من اختصاص السلطات
الرسمية، التي تفرض قيمًا رسمية ملزمة، يشكل الخروج عنها جريمة يعاقب عليها
القانون.
وعلى مستوى حياة الفرد وتنشئته، وجد Sellin وغيره من الباحثين أن الطفل يولد في وسط اجتماعي مفروض عليه منذ
البدء؛ أي من الأسرة إلى غاية مجموعة العمل مرورًا طبعًا بالمدرسة والأصدقاء،
فالنادي إلى غير ذلك، وهو في هذا الوسط، يواجه أنواعا من السلوكيات داخل مختلف هذه
المجموعات، نتيجة التصارع والتعارض، وقد يسلك الفرد السلوك السائد فيها حتى يستطيع
التجاوب مع أفرادها. وبذلك، يستجيب لتأثير إحدى الجماعات دون غيرها إذا كانت هذه
الجماعة تستبيح السلوك الإجرامي بينما يستهجنه غيرها.
فالمجرم، وفق هذا الطرح، يأتي سلوكه الإجرامي نتيجةً
لعدم انسجامه مع مجتمعه أو نتيجة فقدانه الشعور الجماعي... الذي يتخذ صورة تصارع
القيم في المجموعات المختلفة، فيستجيب للمجموعة التي تستبيح المسلك الإجرامي.
- تقدير نظرية التفكك الاجتماعي
لابد من الاعتراف بصحة الطرح الذي ذهب إليه أنصار هذه
النظرية وواقعيته الكامنة في تميز المجتمعات المتحضرة بالتفكك الاجتماعي، وتطور
الإجرام وزيادته مقارنة مع المجتمعات التقليدية البدائية الأكثر انسجامًا وتآزرا،
ولعل الدليل على وجاهة هذا الطرح، ارتفاع معدل الجرائم داخل المدن الكبرى عن نظيره
في القرى، آو المدن الصغرى، بل إن الأولى تعرف أنواعًا معينة من الجرائم، لا
تعرفها الثانية كجرائم التموين ومخالفة التسعير، وجرائم النصب والاحتيال، والتعاطي
للمخدرات الصلبة والاتجار فيها... غير انه يؤخذ على هذه النظرية اقتصارها على هذا
العامل (التفكك الاجتماعي) كعامل دافع إلى الإجرام، وإغفال باقي العوامل (الذاتي
منها والاجتماعي). ومن ناحية أخرى، لا يمكن الأخذ بهذا الطرح بشكل مطلق، ويكفي
لتفنيده أن نتساءل˸ لماذا يقدم بعض أفراد المجتمع دون بعضه الآخر على الجريمة، على
الرغم من تأثرهم جميعًا بعامل التفكك الاجتماعي؟؟ والواقع أن التفكك الاجتماعي
يسهم، بقدر أو بآخر إلى جانب عوامل أخرى ذاتية واجتماعية في دفع بعض الأفراد إلى
الجريمة.
ثانيا˸ نظرية تصارع الثقافات Théorie du Conflit des cultures
كان دوركهايم سباقًا إلى بيان دور الثقافة في الظاهرة
الإجرامية في كتاباته، ثم تلقف علماء الاجتماع في أمريكا فكرته، فأولوها مزيدًا من
الاهتمام، حتى صارت مذهبا له أنصاره. ومن أبرزهم سيلين، سذرلاند وكريسي.
ومضمون هذا الطرح تعارض وتناقض ثقافات وقيم ومبادئ معينة
تسود في إحدى الجماعات مع ثقافات وقيم ومبادئ تسود في جماعات أخرى. ويتخذ هذا
التصارع احد المظهرين˸
الأول˸ تصارع خارجي
وهو تعارض بين ثقافات مجتمعين حضاريين مختلفين. ويرجع بعض العلماء أسباب هذا
الصراع إلى ثلاثة عوامل˸
- الاستعمار˸ حيث يعمد
المستعمرون إلى فرض مبادئهم وقواعدهم السلوكية المتمشية مع هذه المبادئ على أفراد
الشعب المستعمر. وبذلك، فالسلوك المتفق مع القانون، والذي كان سائدًا قبل فرض
مبادئ المستعمر. قد يصبح سلوكا مجرمًا. ويضرب سيلين مثالا بواقعة تعدد الزوجات،
التي تشكل جريمة طبقًا للقانون الفرنسي الذي كان نافذًا في الجزائر أثناء فترة
الاستعمار، بينما لا يعد هذا السلوك جريمة طبقًا لثقافة المجتمع الجزائري المسلم
وقيمه.
- الهجرة L’immigration ˸ ويترتب عن الهجرة من مجتمع إلى آخر، تسرب
ثقافة الجماعة المهاجرة إلى داخل مجتمع المَهْجَرْ؛ مما يؤدي إلى حدوث نزاع بين
ثقافتين متباينتين، بسبب تمسك الجماعة المهاجرة بثقافتها، وهذا ما لاحظه سيلين في
المجتمع الأمريكي، الذي هو في الأصل يتكون من مجموعات وفدت إليه من كافة أنحاء
العالم.
- الاتصال في
مناطق الحدود˸ إذ يؤدي الاتصال بين أفراد الدولتين المتجاورتين مع
اختلاف حضارتيهما إلى تعارض سلوك الأفراد المنتمين إليهما.
الثاني˸ تصارع داخلي
ومضمونه تصارع الثقافات وتعارض الأفكار السائدة لدى مجموعات داخلة في مجتمع
حضاري واحد (كجماعة الأسرة، جماعة النادي، جماعة العمل...). وقد تسود في كل واحدة من
هذه الجماعات مبادئ تختلف عن تلك التي تسود في الأخرى وتتعارض معها في الاتجاه،
فيميل الفرد إلى السلوك الذي يرضي إحداهما فحسب، وهو سلوك قد يكون غير مشروع. ومن
مظاهر هذا الصراع الداخلي أيضا التصادم الذي ينشب بين الثقافة العامة "La culture dominante " السائدة في المجتمع وبين بعض الثقافات الفرعية "Les subcultures" التي تسود في جماعة صغيرة، وهو ما ينتج عنه سلوكات منحرفة
(مجرمة). وابرز مثال على ذلك، جرائم الثار التي ترتكب نتيجة ثقافات فرعية ترى في
الثار عملا مشروعًا، بل واجبًا على أبنائها.
- تقدير نظرية تصارع الثقافات
لاشك أن هذه النظرية تقارب جانبًا من الحقيقة ينبغي
التسليم به، فلا يمكن إغفال وتجاهل دور النظام الاجتماعي، بتفاعلاته الثقافية
والمبادئ السائدة فيه، في التأثير في الأفراد نتيجة الصراعات الثقافية التي قد
يعيشونها، والتي قد تكون سببًا أو عاملا دافعا إلى ارتكاب الجرائم- كجرائم الثار
كما تقدم بيانه- ولكنها لا تستطيع لوحدها تقديم تفسير كلي للظاهرة الإجرامية؛
فالأفراد الذين يعانون من هذا الصراع لا يقدمون جميعًا على ارتكاب الجرائم، مما
يعني وجود عوامل أخرى تسهم بقدر أو بآخر في إحداث الظاهرة الإجرامية، ولذلك فهي
كالنظريات السابقة تتسم بالمبالغة والقصور.
ثالثا˸ نظرية الاختلاط الفاصل أو المخالطة
الفراقة/ "théorie de
l’association différentielle"
هي نظرية نادى بها العالم الأمريكي سذرلاند Edwin Sutherland ((1883-1950 الذي ينتمي إلى مدرسة شيكاغو الأمريكية، ففي اعتقاده، لا يمكن رد
السلوك الإجرامي إلى الظروف المعيشية المحضة (كالفقر) أوالى مجرد عوامل سائدة
كالظروف والعوامل النفسية أو الاجتماعية التي تتصل بالفقراء، فهناك من الأغنياء من
يخالف القانون من اجل المؤسسة التي ينتمي إليها، أو من اجل الغايات التي يسعى
إليها. ولذلك يعد سذرلاند أول من ركز على إجرام الأغنياء، ودرس الجرائم التي
يرتكبها ذوو الياقات البيضاء " White
Collar Crime/Crimes en col blanc ".
وقد انطلق "E.Sutherland" في دراساته، من أن السلوك
الإجرامي ليس سلوكًا موروثًا كما كان يعتقد أنصار المذهب الفردي (البيولوجي)، كما
انه ليس ثمرة لعامل واحد أيا كانت طبيعته، وإنما هو سلوك يكتسبه الفرد عن طريق
الاحتكاك والاختلاط بالمجرمين.
وعن كيفية حدوث ذلك، حاول ادوين من خلال بحوثه ودراساته
التي نشرها سنة 1939 ،وقبلها كتابه «أسس أو مبادئ علم الإجرام»، فضلا عن أبحاثه
الأخرى، والتي شملت تحديدًا بعض الجرائم الخاصة، والسارق المحترف "The professionnal thief (1937) / Le voleur
professionnel" إن يشرح ويفسر طرحه من خلال مجموعة أسس ضمنها
كتابه «مبادئ علم الإجرام»، مجملها˸
1. إن المجرم لا يولد بطبعه مجرمًا، وإنما يكتسب السلوك
الإجرامي عن طريق التعلم من غيره، شانه في ذلك شان من يتعلم حرفة أو صناعة أو مهنة
"Théorie de l’apprentissage".
2. إن السلوك الجانح مكتسب عن طريق التواصل والاحتكاك
بأشخاص آخرين (Processus de communication) ، أتم ذلك بلغة التخاطب العادي أو عن طريق الإشارة أو التقليد
(القدوة والمرجع).
3. إن تعلم السلوك الجانح يتم ضمن جماعة محصورة تتميز
بالعلاقات المباشرة والشخصية appris à
l’intérieur d’un groupe restreint / ، ولذلك فوسائل الإعلام لا تساهم إلا بدور ثانوي في نشوء السلوك
المنحرف.
4. إن التدرب على الانحراف يشمل تعلم التقنيات
الإجرامية، مع توجيه الميول والدوافع نحو الجريمة Technique
et méthodes – buts raisonnement et attitudes/.
5. إن الفرد يصبح مجرمًا عند طغيان التفسيرات المضادة
للقانون على التفسيرات التي تؤيِّدهُ وتحترمه/ un individu devient délinquant quand les interprétations des règles qui
lui sont connues sont à prépondérance négative.
وكذلك عندما تتغلب العوامل الدافعة للإجرام (Facteurs de risque) على العوامل المانعة، ويحدث ذلك لدى الفرد، عندما يكون على اتصال
باقران له من المجرمين، فيكتسب من اختلاطه بهم الأنماط السلوكية الإجرامية، مثلما
يكتسب القيم والعادات والتقاليد واللغة....
وفي هذا إشارة واضحة إلى دور التنشئة الاجتماعية في
تكوين اتجاهات الشخص وميولاته، فإما أن ينشا نشأة تزرع في نفسه حب احترام القانون.
وإما ينشا نشأة تدفعه إلى مخالفة أحكامه، فيصير مجرمًا؛ وذلك بعد أن يتعلم أساليب
التخطيط للإجرام وكذا وسائل تنفيذه.
6. تنوع العوامل الفارقة من حيث التواتر، المدة،
الأسبقية والشدة، فإذا تاثر الشخص بمعايير منحرفة وجانحة، قبل أن يتعرض لتأثير
المعايير المكيفة والسوية فقد يصبح جانحًا بشكل نهائي، والعكس صحيح.
7. إن السلوك المنحرف، رغم انه يرتكب تلبية لحاجات
وأهداف معينة، إلا انه لا يفسر من خلالها؛ لان السلوك السوي هو أيضا تعبير عن
الحاجات والقيم نفسها؛ فاللص يسرق كي يحصل على النقود وهي قيمة، والعامل يعمل من
اجل تحقيق الغاية عينها. ولذلك، فكل التفسيرات التي تتناول الانحراف غير مجدية
لأنها نفسها السلوكات السوية.
- تقدير النظرية
رغم أن سذرلاند انتقد في دراساته النظريات السابقة التي
ربطت الظاهرة الإجرامية بعامل التكوين البيولوجي أو الجغرافي... من حيث ٳنها لم
تبحث في الشروط العامة التي تخضع لها الظاهرة مهما اختلفت الظروف المؤثرة فيها، أو
العوامل المؤدية لها، فأعلن عن التزامه بالمنهج العلمي؛ القائم على التجريد
المنطقي في البحث عن العوامل المؤثرة من ناحية، وعلى تحليل هذه العوامل من ناحية
أخرى، كما انه ركز على ضرورة التوقف عند حد معين عند التحليل السببي لتأثير هذه
العوامل، حتى يمكن التوصل إلى نتائج صحيحة
من حيث التنظيم، ولذلك، يجب أن تعتمد العوامل التي تحدث أثرها مباشرة وقت تحقق
الظاهرة، في ما تهمل تلك العناصر التي توافرت في تاريخ سابق، وهو ما يطلق عليه
التفسير الديناميكي للموقف، فبالرغم من كل ذلك وقع سذرلاند في الخطأ المنهجي نفسه
الذي وقع فيه من سبقه في هذا الخصوص عندما جعل من الاختلاط بجماعة من المجرمين سببًا
في إحداث الظاهرة الإجرامية.
لذلك، يعيب نظريته ما يعيب باقي النظريات الاجتماعية، من
ناحية حصرها، بل واختزالها دوافع السلوك الإجرامي في عامل اجتماعي واحد، وهي كذلك
تنكر تأثير العوامل الداخلية (العضوية والنفسية)، وهذا أمر غير سليم؛ لان مقتضاه
كما تقدم القول، أن كل الأفراد الخاضعين للمؤثر الاجتماعي يسلكون السبيل
الإجرامي، وهو أمر ينافي الواقع دون شك.
من ناحية أخرى، فان هذه النظرية تحمل في مضمونها معاول
هدمها؛ فإذا كان الاختلاط بجماعة المجرمين هو العامل الدافع إلى السلوك الإجرامي،
فكيف يمكن أن يفسر إجرام المجرم الأول الذي لم يختلط بجماعة من المجرمين؟
كما ٲخذ على هذه النظرية عجزها عن تفسير حقيقة تأثير
الاختلاط في الاندفاع إلى ارتكاب الجريمة، في ظل رفضها لدور وتأثير الخبرات
السابقة للمجرم. وقد حاول تلميذ سذرلاند كريسي التصدي لهذا النقد الجوهري، فذهب
إلى أن هذه النظرية لا تستطيع أن تقدم تفسيرًا علميًّا عن كيفية اكتساب الفرد
للسلوك الإجرامي عن طريق اختلاطه بجماعة الإجرام، لكنها تستطيع
أن تنفي كون الجريمة تنشا عن الاضطرابات العاطفية، أو نتيجة العيش في بيئة
غير صالحة...
ومن أهم ما وجد لهذه النظرية أيضا كانتقاد، ما قرره
صاحبها من أن الفرد يتعلم الإجرام من الجماعة الإجرامية؛ حيث قبل أن الفرد ليس
بحاجة إلى تعلم السلوك الإجرامي، وإنما هو بحاجة إلى تعلم السلوك السليم، فالنفس
أمارة بالسوء، ولابد من تقويمها من خلال تلقيها المبادئ السامية منذ مراحلها
الأولى، حتى لا تعوج وتميل إلى الإجرام. ومن جهة أخرى، و على فرض أننا سلمنا بٲن
الفرد يتعلم الجريمة ويتدرب عليها في الجماعة الإجرامية التي يختلط بها، فان ذلك
لا يفسر لنا الجرائم التي يرتكبها بعض الأفراد أثناء ثورة نفسية أو انفعال مفاجئ.
ورغم كل الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية، فإنها ذات
أهمية من ناحية اهتمامها بعنصر آخر من عناصر الإجرام ٲلا وهو الاختلاط، خصوصًا في
ارتكاب بعض الجرائم المنظمة كالمخدرات وبعض جرائم العنف.
رابعا˸ نظرية ميرتون الراخي الاجتماعي
/"Théorie de
l’affaiblissement social"
تعتبر دراسة ميرتون (Robert K.Merton (1910-2003 قفزة نوعية في الفهم العلمي للسلوك الإجرامي. ولتفسير هذا السلوك.
انطلق ميرتون من تحليل البنية الاجتماعية محاولا معرفة الأسباب التي تدفع بعض
الأفراد إلى السلوك المنحرف بدل السوي.
ويعتقد ميرتون أن السلوك الجانح، إنما هو وليد الوضعية
الاجتماعية التي يجد الفرد نفسه فيها، وليس وليد الأسباب الداخلية أو الخارجية
المنعزلة عن المجتمع.
وقد حاول ميرتون حصر الأنماط السلوكية المتنوعة (الجانحة
والمتمردة والاستسلامية) من خلال اعتماد مفهوم اللامعيارية أو حالة اللانظام التي
تسيطر على المجتمع، وتجعله بدون معيار ولا وسيلة ثقافية يعتمدها الناس لتحقيق
رغباتهم فيضطرون إذ ذاك للإجرام كوسيلة لبلوغ أهدافهم. ولشرح نظريته، انطلق من
اغلب الناس لديهم غرائز ورغبات ليست دائما بالضرورة طبيعية، وإنما قد تكون من نتاج
الثقافة السائدة في المجتمع (La culture
prédominante) وعدم توافر
الإمكانات لجميع فئات المجتمع لتحقيقها قد يدفع بهذه الفئات إلى اعتماد وسائل غير
مشروعة لتحقيقها، ولذلك، فمضمون نظرية ميرتون، في دراسته لكل بنية اجتماعية، يقوم
على دراسة عنصرين هامين هما˸ الأهداف والمعايير.
فأما الأهداف / Objectifs ˸ فينطلق ميرتون من أن كل مجتمع يحدد لأفراده
مجموعة من الأهداف والاهتمامات، التي غالبا ما تكون مشروعة ومرتبة حسب أهميتها.
وأما المعايير (الوسائل) / Moyens ˸ فهي مجموعة من القواعد التي تحكم السلوك
وتضبط وسائل وسبل الوصول إلى الأهداف، من خلال القنوات المشروعة التي ينظمها
المجتمع. والمعايير هي التي تنظم الوسائل التي تختلف بحسب قيمتها الاجتماعية، حيث
هناك الوسائل المثلى والمستحسنة والممنوعة. ويذهب ميرتون إلى انه كلما وجد توازن
بين هذين المنصرين، كلما كانت السلوكات داخل البنية تعكس ذلك التوازن.
أما إذا تم الاهتمام بالأهداف على حساب المعايير، فان
الوسيلة حينئذ ستبرر الغاية؛ إذ ستصبح كل الوسائل صالحة للوصول إلى الهدف المنشود،
وبذلك سنكون أمام مجتمع هش ومختل البنية الاجتماعية.
المطلب الثالث: نظريات ومدارس أخرى
أولا˸ المدرسة الجغرافية ˸L’école géographique /cartographique
هي مدرسة يعود الفضل في تأسيسها إلى العالمين البلجيكي
كيتليه والفرنسي جيري اللذين عكفا على دراسة الإحصاءات الجنائية التي نشرت في
فرنسا منذ 1826.
فقد لاحظ كيري Guerry، وهو الذي كان مديرًا للشؤون
الجنائية بوزارة العدل الفرنسية ارتفاعًا في معدلات جرائم الاعتداء على الأشخاص في
المناطق الجنوبية من فرنسا وخاصة في فصل الصيف، بينما تكثر جرائم الاعتداء على
الأموال في المناطق الشمالية في فصل الشتاء؛ وهو ما دفع كيري إلى القول بوجود
علاقة بين الموقع الجغرافي ودرجة الحرارة من ناحية، ومعدلات الجريمة من ناحية
أخرى.
وقد صاغ فكرته هذه في ما اسماه قانون الحرارة الإجرامي.
وخلص كيتليه إلى نتيجة كيري نفسها، وٳن عمم فكرته بشكل أوسع؛ حيث ربطها بمجموع
القارة الأوروبية. هذا وقد ازدهرت هذه المدرسة فترة من الزمن في فرنسا، ليطويها
النسيان في ما بعد إلى أن عاودت الظهور والانتشار في الولايات المتحدة الأمريكية
على يد ليند سميث "Linde Smith " ولڤن "Levin".
- تقدير النظرية
إذا كانت هذه المدرسة قد أصابت عند ربطها الجريمة
بالعوامل الجغرافية المناخية ( الطبيعية البيئية بصفة عامة) ومحاولة ربطها كل ذلك
بكم الجرائم ونوعها من خلال قانون الحرارة الإجرامي، فإنها مع ذلك، تبقى عاجزة عن
تقديم تفسير كامل للظاهرة الإجرامية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يذهب أنصار المذهب التكويني
إلى أن التأثير لا يأتي من العوامل البيئية المناخية مباشرة، وإنما مما تحدثه تلك
العوامل من تأثيرات عميقة في شخصية الفرد سواء من الناحية العضوية أو النفسية.
ثانيا˸ المدرسة الاشتراكية L’ecole socialiste
هي مدرسة تستمد أصولها الفكرية أو الإيديولوجية، من
الفكر الماركسي (الاشتراكية العلمية) التي وضع أسسها كل من كارل ماركس (Marx) وانجليز (Engels) في منتصف القرن التاسع عشر. ومن
مقتضيات هذا الفكر، أن الوضع الاقتصادي هو أساس البنية التحتية التي تقوم عليها
الأسس العلوية في مجتمع من المجتمعات، وتبعًا لذلك، فٳن الواقع المادي هو الذي
يحدد أفكار الإنسان وميولا ته فالتفاوت الاقتصادي، أو بعبارة أدق النظام
الرأسمالي، هو الذي ينتج الإجرام الذي يعتبر بمثابة ردة فعل ضد الظلم الاجتماعي.
ويؤكد هذا الاتجاه أن المجتمع الاشتراكي لا يفترض فيه
ارتكاب الجرائم، إذ لا يعقل أن يرتكب الفرد الجرائم ضد سعادته، وٳن وقعت فسيكون
ذلك من قبيل المرض ليس إلا. وبذلك، فالظاهرة الإجرامية وفقًا لهذا الطرح، ترتبط
بالنظام الرأسمالي وجودًا وعدمًا وأسبابا.
فالمجتمع الاشتراكي الموعود –حسب أنصار الفكر الماركسي-
سيكون بلا جريمة بحكم اختفاء كافة مبررات وجودها، فهو مجتمع يقوم على التضامن
والمودة، وشعاره «من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته»، ولا مكان فيه لجهاز الدولة
الفوقي، وما يتفرع عنه من أدوات ووسائل قمعية كالقانون والسجون.
ومن ابرز الباحثين الاشتراكين الذين بلوروا هذا الفكر في
ما بعد، عالم الاجتماع الهولندي وليام بونجر (W.Bounger)
الذي نشر أفكاره في كتابه «الجريمة والأوضاع الاقتصادية» سنة 1905؛ حيث ربط فيه
الجريمة بالنظام الرأسمالي، ورفض إرجاع أسبابها إلى العوامل الفسيولوجية الوراثية
(الاتجاه التكويني في تفسير على الجريمة) كما أكد بونجر، في إصداراته اللاحقة،
رفضه القاطع الربط بين الجريمة والأخلاق والقيم من ناحية، وبينها وبين الدين من
ناحية أخرى، مؤكدًا أن الأخلاق والقيم الدينية ليست سوى إفرازات لما يُخَلّفُهُ
النظام الاقتصادي الرأسمالي، من علاقات اجتماعية فاسدة قوامها حب الذات والرغبة في
التحكم والسيطرة... من جانب الأغنياء ، والحقد والكراهية والصراع... من جانب
الفقراء.
كما أكد بونجر أن ما يتسم به النظام الرأسمالي من سمات
كامنة في تحقيق الربح وفائض الإنتاج وفائدة غير معقولة ... يرتب سلوكات منحرفة
داخل المجتمع، تتمثل في الكذب، السرقة، الغش والعبودية...
وفي هذا السياق، يضرب بونجر مثلا بالمجتمعات البدائية
(مجتمعات الفطرة) التي يؤكد خلوها من جرائم الأموال (خصوص جريمة السرقة) لانعدام
الحاجة إليها بسبب نظام الملكية المشاعة التي كانت سائدة فيها.
وقد خلص بونجر إلى وجود ثلاثة أصناف من الجرائم في
المجتمعات الرأسمالية˸
الفئة الأولى تهم الطبقة البورجوازية
الفئة الثانية تهم الطبقة الوسطى
الفئة الأخيرة تهم طبقة العمال
وهو تصنيف بالغ الأهمية؛ إذ بفضله تم التمييز بين
الجرائم الاقتصادية وجرائم الانتقام أو العنف والجرائم السياسية.
- تقدير النظرية
لا شك أن لهذه المدرسة الفضل في كشف مساوئ النظام
الرأسمالي، وما يؤدي إليه التقسيم الطبقي من ظهور جرائم ترتبط أساسًا بالظروف
المادية الاقتصادية. غير أن هذه المدرسة، وٳن استطاعت تفسير جرائم الاعتداء على
الأموال، فإنها مع ذلك لم تستطع تفسير جرائم الاعتداء على الأشخاص. هذا من جهة،
ومن جهة أخرى، فقد اخفق أنصارها في إيجاد تفسير مقنع لوقوع بعض الأفراد دون كافتهم
في براثين الإجرام، رغم خضوعهم جميعًا لنظام اقتصادي واحد.
كما يعاب على هذه المدرسة ربطها المطلق للظاهرة
الإجرامية بطبيعة النظام الرأسمالي؛ والحال أن العوامل الاقتصادية (المادية) وان
كان تأثيرها في إحداث الظاهرة الإجرامية من الأمور المؤكدة، فإنها لا تعدو أن تكون
مجرد عامل، أو سبب يضاف إلى باقي العوامل (التكوينية، الاجتماعية، البيئية...)
وأخيرا، يكفي للتدليل على عدم صحة هذه النظرية، أن المجتمعات التي لا تطبق النظام
الرأسمالي، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي - سابقًا- عانت وما زالت من ارتكاب
الجرائم، وكان مقتضى هذه النظرية، أن النظام الاشتراكي سيؤدي إلى زوال الظاهرة الإجرامية
، وهو ما لم يتحقق في الواقع.
المبحث الثالث: دور المذهب المختلط في تفسير السلوك الإجرامي
عرضنا في ما تقدم أهم النظريات التي عرفت في إطار
المذهبين الفردي والاجتماعي، والتي حاولت تفسير سبب الجريمة وعلتها، كما حددنا
منطلقات أو مرتكزات كل نظرية أو مدرسة، والانتقادات التي وجهت إليها مضمونًا
ومنهجًا.
وقد توضح لنا مدى جنوح مختلف هذه النظريات عن اعتماد
أسلوب المعالجة الشاملة في تبين عوامل الإجرام ودوافعه؛ حيث انصب اهتمام كل اتجاه
على جانب من جوانب الظاهرة الإجرامية، غافلا أو رافضًا الجانب الآخر. وهو ما ترتب
عنه الفصل بين المجرم كأساس للعوامل الذاتية او الفردية ومصدر لها، وبين الوسط
الاجتماعي أو البيئي، كأساس للعوامل الاجتماعية ومصدر لها كذلك؛ رغم ما بينهما من
ترابط عضوي وتأثير وتفاعل متبادلين.
ولعله ما فطن به لمبروزو في ما بعد، ليتم الاعتراف بدور
العوامل التي تم إسقاطها أو التقليل من أهميتها، ودورها في إحداث الظاهرة
الإجرامية.
هذا و قد انطلق باحثون آخرون من البحث عن أسلوب شمولي
إلى حد ما. ودون الإفصاح عن تفاصيل المضمون، ولعله ما قام به انريكوفيري، الذي رد
الجرائم إلى خليط من العوامل الذاتية (العضوية والنفسية) والعوامل الخارجية
(الاجتماعية والطبيعية) ، فخلص إلى وجود قانون للجريمة (قانون التشبع الإجرامي).
في ما سلم بعض أنصار المذهب الاجتماعي بدور العوامل الفردية (الشخصية- الذاتية) في
إحداث الظاهرة الإجرامية؛ بسبب عجز بعضهم عن تفسير السلوك الإجرامي لدى بعض آخر
دون غيرهم، رغم خضوعهم جميعًا لظروف خارجية (اجتماعية) واحدة وهو تحديدًا ما قام
به عالم الاجتماع الأمريكي سذرلاند (Sutherland) الذي جمع في نظريته المخالطة
الفارقة بين العوامل النفسية (والتي هي شخصية ذاتية داخلية) والعوامل الاجتماعية (والتي هي خارجية بيئية).
ولعله أيضا ما ذهب إليه مارتن جولد الذي أكد أن السلوك الإجرامي ما هو إلا صورة
لتفاعل داخلي وخارجي.
غير أن المنهج التكاملي في الكشف عن أسباب الظاهرة
الإجرامية، في إطار المذهب الفردي، لم يتبلور في نظرية واضحة الأسس والمضامين، إلا
بظهور نظرية الاستعداد الإجرامي للعالم الايطالي دي توليو؛ والتي أثرنا عرضها في
إطار هذا المذهب (المختلط) بدل عرضها في إطار المذهب الفردي، لاعتماده منهجًا
تكامليًّا للكشف عن أسباب الجريمة وفي ما يلي نعرض لأسس هذه النظرية مع تقديرها.
تأثر دي توليو بأبحاث لمبروزو ودراساته، فجعلها منطلقًا
لتأسيس نظريته عن الاستعداد الإجرامي، محاولا تحليل شخصية المجرم بوصفها المصدر
الأول للسلوك الإجرامي، ومعتبرًا الجريمة سلوكًا فرديًّا بيولوجيًّا اجتماعيًّا،
يحدث بسبب استجابة الدوافع الغريزية للمؤثرات الخارجية.
وينطلق دي توليو من فكرة أساس، تقوم على التكوين
الإجرامي La constitution
délinquantielle
؛ مفادها انه كما يتمتع الإنسان بتكوين نفسي وتكوين عقلي وآخر عصبي، يجعله قابلا
للإصابة بأمراض معينة، فان لديه أيضا تكوينًا إجراميا إذا ما صادف مؤثرًا، أو
عاملا خارجيًّا يوقظه، هاجت غرائز الفرد دونما رادع يكبحها ليقع في براثين
الجريمة.
غير أن هذا الاستعداد لا يوجد لدى كل فرد في المجتمع،
وبتعبير آخر، فالأفراد الأسوياء، حسب دي توليو، لا يتأثرون بعوامل المحيط
الاجتماعي كما المجرمين الذين لا يستطيعون مقاومة غرائزهم وكبحها، والتكيف مع
البيئة الاجتماعية بسبب الخلل العضوي والنفسي المولد للاستعداد الإجرامي.
وتقوم فكرة التكوين الإجرامي، أو الاستعداد الإجرامي حسب
دي توليو، على وجود نوعين من العوامل˸ الأولى تكمن في وجود خلل في النمو العاطفي
لدى المجرم؛ بسبب عوامل داخلية تتصل بغرائزه، وهو ما يصعب عليه تقبل القيم
الاجتماعية السائدة في مجتمعه. والثانية تتمثل في العيوب الجسمانية، الناجمة عن
الخلل الوظيفي ذي الصلة بالإفرازات الغددية، وهذا النوع من العوامل، هو الذي يخلق
الشخصية السيكوباتية غير القادرة على التوافق مع المجتمع.
ولا تكفي العوامل السالفة المحققة للاستعداد الإجرامي
لتحقق الجريمة حسب دي توليو، وإنما ينبغي تفاعلها مع العوامل الخارجية الكامنة في
البيئة الاجتماعية.
ويميز دي توليو في الاستعداد الإجرامي بين صنفين˸
الأول˸ يطلق عليه
الاستعداد الإجرامي الأصيل أو الفطري، ويتصف بالديمومة بسبب ثبات مصدره، المتمثل
في التكوين العضوي والنفسي والعصبي، وهو الذي يؤدي غالبًا إلى ارتكاب اخطر
الجرائم.
والثاني˸ يصفه
بالاستعداد الإجرامي العارض، ويتحقق بسبب وجود عوامل شخصية واجتماعية تُضعف
المقاومة، وتدفع إلى ارتكاب الجرم صدفة أو عرضًا.
واستنادا إلى نوعي الاستعداد الإجرامي، صنف دي توليو
المجرمين بحسب نوع استعدادهم أو تكوينهم الإجرامي إلى˸
- فئة المجرمين بالتكوين
وتضم˸
1. المجرم ذا النمو الناقص˸ وهو اقرب إلى
الإنسان البدائي كما وصفه لمبروزو.
2. المجرم العصبي السيكوباتي˸ وهو الذي
يتميز بخلل واضح في جهازه العصبي يجعله سريع التأثر والانفعال، ويضم هذا الصنف
مرضى (الصرع والهستريا...).
3. المجرم السيكوباتي˸ ويتميز بخلل
واضح في قدراته الذهنية أو العقلية، دون أن يصل إلى حد المرض العقلي أو الذهان.
4. المجرم ذا الاتجاه المختلط˸ وهو الذي يجمع
بين خصائص الفئات المتقدمة.
- فئة المجرمين العرضيين˸ وهم الذين تدفعهم عوامل خارجية بصفة أساسية للإجرام، وتضعف قدرتهم على التكيف مع الحياة الاجتماعية والقوانين السائدة، وتضم هذه الفئة، حسب دي توليو˸
1. المجرم العرضي الصرف˸ وهو الذي
يرتكب أفعالا بسيطة نتيجة ظروف استثنائية لم يتوقعها، أو ليس بمقدوره توقعها.
2. المجرم العرضي الشائع˸ ويتميز بالنقص
الخلقي، ويميل إلى ارتكاب الجرائم المالية الخطيرة، كما يمكن أن يتحول إلى مجرم
معتاد بسهولة.
3. المجرم العرضي بسبب حالات انفعالية
عاطفية˸ وهو الذي يتسم بعدم الاتزان الروحي والخلقي المعتاد،
كما يتميز بالانفعالات الفيزيولوجية (المتصلة بوظائف الأعضاء).
وتجدر الإشارة إلى أن دي توليو ميز في طائفة المجرمين
المجانين بين نوعين˸ المجرم المجنون والمجنون المجرم.
فأما المجرم المجنون˸ فهو الذي يرجع سبب إجرامه
إلى تكوين كامن فيه وسابق على إصابته بالجنون. ويبقى دور الجنون زيادة قوة وحدة
هذا التكوين الإجرامي، ولذلك فان شفاء مثل هذا المجرم من جنونه لا يمنعه من العودة
إلى الإجرام مرة أخرى لٲن التكوين الإجرامي لديه قائم ومستمر.
وأما المجنون المجرم ˸ فيعود إجرامه إلى جنونه
(أي مرضه العقلي) دون أن يكون لديه تكوين إجرامي سابق على الجنون، ولذلك، فإذا ما
شفي من جنونه أو مرضه العقلي زال سبب إجرامه.
- تقدير نظرية دي توليو
رغم أن دي توليو حاول في طرحه تجاوز النظرة القاصرة التي
شابت النظريات البيولوجية السالفة، حيث سلك منهجًا تكامليًا للكشف عن أسباب
الظاهرة الإجرامية يتجلى في الربط بين العوامل الذاتية (الفردية) المتمثلة في
التكوين الإجرامي والعوامل الاجتماعية الكامنة في البيئة المحيطة بالمجرم، فانه هو
الآخر لم يسلم من النقد؛ حيث اخذ على نظريته الربط المطلق بين الاستعداد الإجرامي
الفطري والجريمة. ومن ضمن ما ٲخذ على هذه النظرية أيضا، إنكارها لأي دور مستقل
للعوامل الاجتماعية فدور الأخيرة مشروط بوجود التكوين الإجرامي، وهو ما نفاه بعض
الباحثين بشدة على اعتبار أن الكثير من الجرائم يقع بسبب العوامل الاجتماعية والبيئية
المحيطة بالمجرم بغض النظر عن عامل التكوين أو الاستعداد.
ومن الأنصاف لنظرية دي توليو، الرد على هذا النقد،
انطلاقا من أن الاستعداد أو الميل الإجرامي، وفقًا لطرح دي توليو، قد يكون إما
أصليًّا أو عرضيًّا. وأوضح مثال على الميل العارض للإجرام، حالة الزوج الذي يقتل
زوجته المتلبسة بجريمة الزنا؛ إذ يمكن القول إن الزوجة استفزت وأثارت ثائرة الزوج،
فأوجدت لديه اضطرابًا نفسيًّا داخليًّا يبرز ويتجلى فيه الاستعداد العارض للإجرام،
ويتفاعل العامل الخارجي الذي هو زنا الزوجة، والعامل الداخلي الذي هو الانفعال
النفسي، تفجر السلوك الإجرامي الكامن في قتل الزوجة وشريكها.
ولعل طرح دي توليو سليم ومنطقي؛ إذ لا يمكن أن تفسر
جريمة القتل هذه بالعامل الخارجي لوحده (خيانة الزوجة لزوجها) ، والدليل على ذلك
عدم ارتكاب كل من يفاجئ زوجته متلبسة بهذه الجريمة لجريمة القتل، فلو كان العامل
الخارجي هو المفسر الوحيد لهذه الجريمة، لكان من الضروري أن يرتكب جريمة القتل كل
من يفاجئ زوجته في هذا الوضع وهو أمر غير صحيح؛ إذ إن بعض الأزواج فقط دون غيرهم،
ممن يفاجئون زوجاتهم متلبسات بالخيانة الزوجية، يقدمون على جريمة القتل تلك، ولاشك
أن الفارق بينهم وبين غيرهم يكمن بالأساس في مدى الانفعال والاضطراب النفسي، الذي
يسيطر على الفرد نتيجة الموقف الذي تعرض له، وهو ما عبر عنه دي توليو بالميل
الإجرامي العارض.
ولذلك، يبدو لنا أن طرح دي توليو سليم، وٳن كان من
الأفضل استعمال تعبير الاستعداد أو التكوين ألانحرافي بدل الاستعداد الإجرامي، على
أساس أن الجريمة مخلوق قانوني يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، بخلاف الانحراف
الذي يَرمز إلى كل سلوك غير اجتماعي بما في ذلك الأفعال والسلوكات التي يعدها
المشرع جرائم.
الخلاصة إذا، أن
الظاهرة الإجرامية تعود لمجموعة من العوامل، بعضها داخلي (ذاتي، شخصي، فردي)
وبعضها خارجي (اجتماعي، بيئي...) ولذلك، كانت الحاجة أكيدة إلى دراسة كل هذه
العوامل، حتى تكون الدراسة موضوعية ومجدية، وتبلغ الهدف أو الأهداف التي أجريت من
اجلها.
المرجع:
- د. سميرة أقرورو، الوجيز في أسس علم الإجرام وأهم مدارسه، الناشر صوماديل، طبعة 2015 ، المغرب، ص41 إلى ص74.