محل الإثبات الجنائي
محـل الإثبـات الجنـائي منظـور مـن زاویـة ضـیقة
جـدا، وذلـك مـن خـلال إثبـات الـركن أو العنصـر المـادي للجریمـة فقـط، والحقیقـة
أن محـل الإثبـات أوسـع مـن ذلـك لیشـمل كافـة الأركـان العامة للجریمة، أي
الأركان الثلاث زیادة على إثبات الأركان الخاصـة بكـل جریمـة، وذلـك عـن طریق
إثبات الركن الشرعي أولا.
فـإذا مـا ادعـي المـدعي علیـه، أي المـتهم
بعـدم تطـابق الوقـائع المرتكبـة مـع الصـورة النموذجیة المحددة في النص الجنائي، إنما
یقع في هذه الحالة عبء الإثبـات علـي جهـة الاتهـام وذلك بالبحث والتفسیر بمدى
تطابق النص مع الوقائع المرتكبة.
وكذلك قد یتنـاول إثبـات الـركن الشـرعي للجریمـة،
إثبـات عـدم تـوافر أي سـبب مـن أسـباب الإباحـة، عنـد إثارتهـا ضـمن الـدفوع،
مـثلا إذا دعـي المـدعي علیـه، أي المـتهم بتوافرهـا، فعلـى جهة الاتهام إثبات،
عدم توافرها، وما یقال بالنسبة لأسباب الإباحة، یقال كذلك لحـالات العـود أو ظروف
تشدید العقوبة كون الضحیة قاصر.
وإذا تناولهـا الـنص التجریمـي، فعلـى جهـة
الاتهـام، إثبـات تلـك الظـروف المشـددة، كتلـك الظروف مثلا المشددة التي تجعل من
السرقة البسیطة سرقة موصوفة.
والإثبـات المعـروف أو المشـهور، هـو مـا ینصـب
علـي الـركن المـادي، أي نسـب وإسناد الفعـل إلـى الفاعـل، فالجریمـة كأصـل عـام
ترتكـب مـن مجهـول فـي بدایـة الأمـر، بحیـث تجـد الضبطیة نفسـها أمـام وقـائع مادیـة
ثابتـة موصـوفة بأنهـا جریمـة، والفاعـل یبقـى مجهـول، ویكـون عنـدها الغـرض مـن
البحـث والتحـري والاسـتدلال هـو الوصـول إلـي الفاعـل، وتبقـى المسـألة فـي العدید
من الإجراءات التي تتخذ خلال هذه المرحلة یغلب علیها الشـك، علـى خـلاف جهـة
الحكـم المبنیة في الأساس علي الیقین والجزم.
واثبـات أن الفاعـل هـو مرتكـب الفعـل مادیـا
ومعنویـا، یعتبـر بمثابـة محصـلة الـدعوى العمومیة، وهي مسألة صعبة جدا، والقاضي
الجنائي یولیها أهمیة كبرى.
فالنیابـة العامـة تقـوم بتوجیـه الاتهـام إلـى
شـخص أو أشـخاص معینـین، ویتوجـب علیهـا تعزیز اتهامها عن طریق تقدیم وسائل
الإثبات للتي تفید نسبة الفعل إلى الفاعل.
وٕإذا كانت جرائم السلوك الایجابي، من السهل
إثباتها عن طریق الدلائل والقرائن والأمارات لكن الإشكال یطرح بالنسبة لجرائم
السلوك السلبي، وهو الذي لم یأتي بسلوك مادي، ورأینا كیف أن المشـرع یعـالج فیهـا
مسـألة الإثبـات بطریقـة خاصـة، وذلـك بنقـل عـبء الإثبـات إلـى عـاتق المـتهم،
وهـي النظریـة التـي ظهـرت فـي الفقـه الجنـائي منـذ 200 سـنة، ومثـال ذلـك جـرائم
القتـل الخطـأ كـأن یكـون السـائق امتنـع عـن كـبح وتوقیـف السـیارة، أو عـدم
اتخـاذه الاحتیاطـات اللازمـة وغیرها من جرائم الامتناع.
ویترتب على إثبات الفعل، إثبات النتیجة من طرف
النیابة العامة، وهي النتیجـة المتعلقـة بالركن المادي، فلا تستطیع النیابة مثلا
توجیه الاتهام إلى شخص بجرم القتل، ما لم تكن هناك جثة، وٕإذا وقع هناك أي شك یفسر
لصالح المتهم.
وفي بعض الأحیان قد تتوافر النتیجة دون أن یكون
هنـاك سـلوك إجرامـي مـادي، كانتقـال مثلا الزرع بفعل الریاح من حقل إلي حقل أخر.
واثبـات النتیجـة وربطهـا بالفعـل أو سـلوك ، یـتم
بواسـطة العلاقـة أو الرابطـة السـببیة، وهـذه الأخیـرة ظهـرت بشـأنها عـدة نظریـات،
والنظریـة الحدیثـة هـي التـي تحـدد السـبب بـالنظر إلـي مـا أحدثه هذا السبب في
إنقاص السـلامة، ولكـن هنـاك حـالات وأن یحـدث أن تتسـاوي الأسـباب فـي إحداث النتیجة.
واثبـات السـلوك یكـون بصـورة تقریبیـة، ولا یمكـن
تصـور إثبـات الفعـل بصـورة مطلقـة، إلا نـادرا (أي أن الحقیقـة القضـائیة نسـبیة
وهـي متعلقـة فـي الأسـاس بالمعطیـات المتـوفرة) وخاصـة عندما لا یقوم الشهود
بالإدلاء الكلي، والاقتصار علي تصریحات جزئیة، حتى لا تشدد العقوبة على المتهم.
وكـذلك مـن مقتضـیات إثبـات الـركن المـادي،
إثبـات الـركن المفتـرض فـي بعـض الجـرائم كإثبـات صـفة الموظـف العمـومي فـي جریمـة
اخـتلاس وتبدیـد أمـوال عمومیـة، فیفتـرض أن یكـون الفاعل موظفا حكومیـا، أمـا إذا
كـان غیـر موظـف فیتحـول أو یتغیـر التكیـف القـانوني إلـى جریمـة السرقة فأركان
جریمة اخـتلاس أمـوال عمومیـة تشـترط أن یكـون
الفاعـل موظفـا حكومیـا، أو مـن هو فـي حكمـه، وأن تكـون الأمـوال فـي عهدتـه،
وذلـك مـن مقتضـیات الإثبـات الجنـائي، التـي یقع عبء إثباتها علي جهة الاتهام.
وكذلك وفي الأخیر من مقتضیات الإثبات الجنائي،
مـا یتعلـق بـالركن المعنـوي، وهـو مـا یتطلـب إثبـات الصـفة التـي تكـون عمدیـة
أو غیـر عمدیـة، وهاتـه الأخیـرة تلعـب دوار أساسـیا فـي تغییر الوصف القانوني
للجریمة وفي العقوبة.
- د. نسيم بلحو، محاضرات في مقياس الإثبات الجنائي، ملقاة على طلبة السنة الأولى ماستر، تخصص قانون جنائي، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، قسم الحقوق، السنة الجامعية: 2017/2018، ص35 إلى ص37.