موضوع البحث في علم الإجرام ومناهجه
سنتناول في هذه الدراسة موضوع البحث في علم الإجرام
ومناهجه في مبحثين على التوالي.
المبحث الأول: موضوع علم الإجرام
سنتناول في هذا المبحث موضوع علم الإجرام، من خلال دراسة
الجريمة والمجرم وذلك في مطلبين على التوالي.
المطلب الأول: مفاهيم الجريمة المتعددة
للجريمة مفاهيم متعددة ومتباينة، وهو تعدد يرجعه العلماء
للطبيعة المركبة لعلم الإجرام؛ إذ هو علم يعتمد التعددية منهجًا وموضوعًا، ويمكن
رد وجهات النظر المختلفة حول الجريمة إلى أربعة مفاهيم وهي˸
- المفهوم القانوني.
- المفهوم الاجتماعي.
- المفهوم الأخلاقي.
- المفهوم الطبيعي.
أولا˸ مفهومها القانوني
هي ذلك المخلوق القانوني المعاقب بمقتضى القانون، فهي
وليدة القانون وصنيعته فلا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون أو بنص، ويعد هذا المبدأ من
أهم المبادئ القانونية المؤسسة للحرية، بل و المرسخة لها. وبفضله صار مجال التجريم
و العقاب واضحًا لا غموض فيه. ومن أهم نتائجه عدم جواز تطبيق القوانين العقابية
على أفعال ارتكبت قبل تجريمها بمقتضى هذه القوانين، وهو ما يعرف بعدم رجعية
القانون الجنائي باستثناء الأصلح للمهتم، حيث يطبق بأثر رجعي.
هذا عن مفهومها القانوني عامة، أما عن مفهومها الجنائي،
وبعبارة أوضح لدى فقهاء القانون الجنائي، فهي «فعل غير مشروع صادر عن إرادة جنائية
يقرر له القانون عقوبة أو تدبيرًا احترازيًا».
وهي كذلك، حسب العلامة الفرنسي جارو˸ «ذلك الفعل الذي
يفرض له القانون عقابًا».
وحسب (الفصل 110) من ق ج المغربي «هي عمل أو امتناع
مخالف للقانون الجنائي و معاقب عليه بمقتضاه».
وقد وجه بعض العلماء العديد من الانتقادات للمفهوم
القانوني للجريمة، انطلاقا من أي الجريمة بمفهومها الوارد في الأعلى، لا تصلح
كموضوع بحث لعلم الإجرام، ويؤكد هذا البعض وجهة نظره بالقول إن القانون الجنائي
يجرم إلى جانب الأفعال الخطيرة. أفعالا بسيطة كالمخالفات والجرائم غير العمدية،
وهي في حقيقة الأمر لا تشكل انحرافًا أو شذوذًا يستدعي الدراسة والاهتمام.
ويضيف أنصار هذا الاتجاه انتقادًا آخر للمفهوم القانوني
للجريمة، يكمن في عدم استقراره وثباته؛ إذ الأفعال المجرمة تختلف من زمن إلى أخر،
بل ومن مكان إلى آخر في الفترة الزمنية نفسها، و لذلك يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى
نبذ المفهوم القانوني للجريمة و تعويضه بمفهوم أوسع نطاقًا، وهو تحديدًا المفهوم
الاجتماعي للجريمة.
ثانيا: مفهومها الاجتماعي
ومضمون هذا المفهوم، الربط بين الجريمة و بين مصالح
المجتمع وقيمه، فالجريمة وفق هذا المفهوم، هي كل فعل أو امتناع يتعارض مع القيم و
الأفكار التي استقرت في وجدان الجماعة. فهي كذلك كل ما يتعارض مع مصلحة الجماعة.
وفي هذا السياق يعرفها" Emile Durkheim" بأنها˸
Tout acte qui a un
degré quelconque détermine contre son auteur » cette réaction caractéristique
qu’on nomme la peine ».
وقد وجهت لهذا المفهوم بدوره العديد من الانتقادات،
أهمها تركيزه على القيم الاجتماعية التي يشكل خرقها وعدم احترامها جريمة، والحال
أن هذه القيم هي بدورها غير ثابتة وغير مستقرة، بل هي تتطور بتطور الظروف
الاقتصادية والسياسية والدينية ....داخل المجتمع الواحد.
كما يعيب هذا المفهوم أيضا اتساعه وعدم وضوحه، إذ يشمل
كل أشكال الانحراف الاجتماعي وصوره، وهو ما يقحم علم الإجرام بالضرورة في دراسة
ظواهر قد تخرج عن نطاق اختصاصه.
ثالثا˸ مفهومها الأخلاقي
معلوم أن الأخلاق هي مجموع ما يمثله الأفراد داخل
المجتمع، من قيم ومثل عليا مقدسة يحرم الخروج عليها. ويرى أنصار هذا المفهوم في
هذا التحديد تعريفًا مناسبا للجريمة، يمكن الانطلاق منه في دراسات علم الإجرام
وأبحاثه.
فالجريمة وفق هذا المفهوم أو التحديد، هي كل فعل أو سلوك
مخالف للقيم والمثل السامية السائدة في المجتمع، وهي بذلك كل تضاد مع القانون
الطبيعي للأخلاق.
وقد وجهت العديد من الانتقادات لهذا المفهوم بدوره،
مجملها غموضه وعموميته بل عدم واقعيته، انطلاقا من عدم واقعية القانون الطبيعي
للأخلاق؛ فهو كفكرة مثالية تتجاوز الواقع وتسعى إلى الرقي بالإنسان إلى عالم المثل
والقيم، ولذلك لا يصلح هذا المفهوم كنقطة انطلاق لدراسة الظاهرة الإجرامية في علم
الإجرام، لٲن هذا المفهوم ينأى بعلم الإجرام عن موضوعه و غايته.
رابعا˸ مفهومها الطبيعي
ويستند هذا المفهوم إلى المشاعر الأدبية كمعيار للجريمة
(الطبيعية)، فهذه الأخيرة هي كل ما يتعارض مع المشاعر الأدبية (الغيرية)، وبصفة
خاصة مشاعر الشفقة والأمانة، وهي بدون شك مشاعر ثابتة في كل الأزمنة والأمكنة؛
ولذلك فهي تتنقل من جيل إلى آخر دون أن تتغير أو تتبدل، وكل خروج أو تعارض معها
بشكل جريمة طبيعية ولو اختلفت الأزمنة والأمكنة.
ومن المؤيدين لهذا الطرح، الفقيه الايطالي كَاروفالو،
وقد تعرض هذا الطرح لنقد شديد؛ مفاده أن الجرائم تخضع للتبدل و التطور في الزمان و
المكان؛ فالقول إن هناك أفعالا تشكل جرائم في كل الأزمنة والأمكنة قول غير صحيح،
فما كان مجرما كسلوك في زمن و مكان معينين، قد لا يبقى كذلك في زمن آخر. ويؤخذ
أيضا على هذا التوجه استبعاده لجرائم كثيرة لعدم مساسها بمشاعر الشفقة والأمان رغم
ٲنها تشكل الجرائم في حقيقتها، ومن ذلك مثلا˸ الجرائم الاقتصادية أو الجرائم
المرتبطة بالغش و التهرب الضريبي...
- المفهوم
المعتمد عند علماء الإجرام
لا شك أن جميع المفاهيم التي تم عرضها في ما تقدم تبقى
عاجزة عن شرح السلوك المنحرف و تفسيره بشكل شمولي، ولذلك تبنى غالبية الباحثين
المفهوم القانوني للجريمة، فما يعد جريمة في القانون الجنائي، هو أيضا كذلك في علم
الإجرام، وما يخرجه القانون الجنائي من نطاق التجريم، يستبعد أيضا من مجال علم
الإجرام.
أما ما اخذ على المفهوم القانوني للجريمة من تقلب و عدم
استقرار، فانه يرد عليه بتطور الواقع الاجتماعي في حد ذاته، ثم إن التطور أو
التغير، لا يشمل الجرائم الرئيسية التي ترتكب بدافع( العنف-العدوانية- الجشع- الطمع-
غلبة الشهوة...) وهي بالتحديد موضوع بحث علماء الإجرام، إما الجرائم الفرعية والتي
لها أهمية ضئيلة فهي التي تختلف في الزمان والمكان. ولذلك، فان كانت الجريمة
بمفهومها القانوني لا تتمتع بالثبات المطلق، فهي على الأقل تتسم بثبات نسبي يكفي لٲن
يؤسس عليها علم كعلم الإجرام.
المطلب الثاني: دراسة الجرم
أولا˸حسب القانون الجنائي
المجرم هو كل شخص يرتكب جريمة بمفهومها القانوني، ومن
الناحية القانونية دائما، لا تطلق هذه الصفة على الشخص إلا إذا صدر حكم قضائي يقضي
بإدانته و صيرورة هذا الحكم نهائيا غير قابل للطعن فيه، أما في مرحلة التحقيق
وطوال فترة المحاكمة، فلا يعتبر الشخص مجرمًا، بل هو مهتم (Inculpé)
وظنين.
والقاعدة أن المهتم بريء حتى تثبت إدانته، هذه القاعدة
التي تبنتها و نصت عليها إعلانات الحقوق العالمية، والوثائق الحقوقية، و الدساتير
والقوانين الجنائية. والتساؤل الذي يطرح هنا هو˸ هل يعتمد علماء الإجرام التحديد
القانوني للمجرم عند دراساتهم له؟
ثانيا˸ حسب علماء الإجرام
اختلف علماء الإجرام في تحديدهم للمجرمين بسبب اختلافهم
في تصنيفهم حيث رفض بعضهم اعتماد التعريف القانوني للمجرم، بحجة انه لا يلبي حاجة
البحث العلمي التي تستوجب دراسة كل من يرتكب سلوكا منحرفًا، وبغض النظر عما إذا
تمت إدانته قضائيا أو لم تتم، فعدم التقيد بالوصف القانوني للمجرم لا يرتب أي ٲثر
في مجال علم الإجرام؛ باعتباره علمًا يهدف كشف حقيقة الظاهرة الإجرامية. وبذلك
فالمجرم في علم الإجرام «هو كل شخص ارتكب فعلا مجرمًا سواء أدانه القضاء بحكم
نهائي أم لم يدنه بعد، وسواء قبض عليه، أو عجزت السلطات عن الوصول إليه، وسواء
عرفت حقيقة أمره أو ظل سره مجهولا».
في ما صنف بعض آخر المجرمين ضمن طائفتين، الأولى تضم
المجرمين الأسوياء بينما تشمل الأخيرة المجرمين غير الأسوياء (عديمي الأهلية و
ناقصيها).
ويذهب أنصار هذا التوجه إلى أن دراسات علم الإجرام
وأبحاثه يجب أن تتناول أسباب الجريمة وآثارها التي تقع من الفئة الأولى (الأسوياء)
دون غيرهم (غير الأسوياء)؛ إذ يجب أن تدخل الدراسات المتعلقة بهم في مجال الطب
العقلي لا في مجال علم الإجرام باعتبارهم يعانون من أمراض عقلية.
و قد تعرض هذا الرأي للنقد، انطلاقا من أن التفرقة بين
الأسوياء و غير الأسوياء أمر صعب و دقيق، كما انه لم يثبت علميا انحراف غير
الأسوياء جميعًا، وإنما يقدم بعضهم فقط على الإجرام، ولذلك يتعين أن تشمل دراسات
علم الإجرام كافة المجرمين، سواء كان أسوياء(بمفهوم الصحة العقلية) أو غير أسوياء.
المبحث الثاني: أساليب البحث المعتمدة في علم الإجرام
تتوزع مناهج البحث في علم الإجرام بين نوعين˸ الأولى
يطلق عليها الأساليب الفردية، والأخيرة تعرف بالأساليب الجماعية.
المطلب الأول: الأساليب الفردية
وتتمركز حول الأسباب التي دفعت مجرمًا بالذات إلى ارتكاب
جريمة معينة، وتشمل دراسة الجانب العضوي للمجرم، والجانب الوظيفي، وكذا الجانب
النفسي و أخيرا تاريخ حياة المجرم، و عن الأدوات المستخدمة في هذا الأسلوب المعتمد
في الدراسات الإكلينيكية في علم الإجرام، فإنها تبدأ بالملاحظة، ليعقبها فحص متعدد
الأبعاد (طبي/بيولوجي، نفسي،عصبي...) لينتهي كل ذلك بتقرير شامل، يقيم حالة المجرم
المعني بالأمر ووضعه الصحي والنفسي والاجتماعي...
والملاحظة (L’observation) يجب أن تشمل الجريمة والمجرم، من
خلال تحديد نوع الأولى (سرقة، اغتصاب،قتل...) وشخصية الثاني من خلال شكل أعضائه،
التشوه أو النقص الذي يشويها مدى تناسبها؛ فوجود هذا التناسب من عدمه، يكون له
كبير الأثر في سلوك الفرد، وكذلك حالته النفسية والعصبية ومستوى ذكائه...).
والفحص كمرحلة أو خطوة ثانية، متعدد الأبعاد والنتائج؛
إذ يأخذ صيغة الأخصائي الذي يقوم به؛ فالأخصائي البيولوجي يقوم بفحص المجرم من
الناحية العضوية/ البيولوجية ويصل إلى نتائج معينة، والأخصائي النفسي يقوم بدراسة
الحالة النفسية للمجرم، ومدى تأثيرها في سلوكه، أما الأخصائي الاجتماعي، فدراسته
تركز على الزاوية الاجتماعية للمجرم(بيئته الأسرية، المدرسة، العمل، الأصدقاء...).
وكذلك الأمر بالنسبة إلى مختلف التخصصات التي تشترك في
تناول السلوك الإجرامي، إذ كل يعنى بتحليل سلوك المجرم من زاوية تخصصه.
ثم تأتي مرحلة تفسير أو تأويل L’interprétation/ مختلف المعطيات المتعلقة بالمجرم، ما يُمكن في نهاية المطاف من
الوقوف على دوافع سلوكه الإجرامي. ولعله ما يوصل إلى تشخيص كريمينولوجي Diagnostique criminologique معقول، يساعد في معرفة درجة خطورة المجرم.
المطلب الثاني: الأساليب الجماعية
و تشمل˸
أولا˸ الأسلوب الإحصائي
يهدف الإحصاء في علم الإجرام، إلى جمع المعلومات
والبيانات، والوقائع المتعلقة بالظاهرة الإجرامية وترجمتها إلى أرقام، وقد ظهر على
يد الباحث الفرنسي Guerry والعالم البلجيكي Quetelet خلال القرن التاسع عشر، كما يفيد في المقارنة بين المجرمين وغيرهم
ممن يعيشون في الظروف نفسها، للوقوف على الأسباب والدوافع التي أدت إلى إجرام
هؤلاء دون الآخرين.
و يعتمد في الإحصاء الجنائي على طريقتين˸
الأولى˸ يطلق عليها
الإحصاء المكاني ، وتعني بدراسة الجريمة في أمكنة معينة (دولًا أو أقاليم) وعقد
مقارنةً بينها لتحديد أسباب الجريمة فيها.
أما الأسلوب الثاني فيطلق عليه الإحصاء الزمني، ويتم من
خلاله دراسة الجريمة في مكان واحد، في فترات زمنية متعددة، والمقارنة بينها للوقوف
على مدى تأثير تغير الظروف الزمنية في الظاهرة الإجرامية.
وقد وجهت مجموعة من الانتقادات إلى الأسلوب الإحصائي؛ إذ
لا يمكن الاعتماد عليه بصفة نهائية في
تحديد الظاهرة الإجرامية لعدم دقته؛ فمثلا قد يؤكد أن جرائم الاعتداء على الأشخاص
تكثر مع ارتفاع الحرارة، إلا انه لا يفسر هذه النتيجة، وهل تعود إلى التأثير
المباشر الذي تحدثه الحرارة في المزاج العصبي للأفراد، ا والى تزايد الاختلاط والاتصال
بين الناس في الجو الحار إلى شيء آخر.
كما أن الأسلوب الإحصائي لا يعد تعبيرًا صادقا عن
الإجرام الحقيقي، فالإحصاءات المعتمدة، غالبا ما تكون رسمية؛ فهي إما إحصاءات
بوليسية تصدرها وزارة الداخلية أو قضائية تصدرها وزارة العدل، أو عقابية تصدرها
المؤسسات السجنية لتبين عدد الوافدين إليها سنويا لتنفيذ الأحكام السالبة للحرية
الصادرة في حقهم.
فكل هذه الإحصاءات –سواء أكانت بوليسية أو قضائية أو
عقابية- لا يمكن أن تعبر عن الرقم الحقيقي للجريمة، ما دامت جرائم كثيرة لا تصل
إلى علم السلطات العامة لأسباب مختلفة؛ منها عدم إلقاء القبض على الجناة، أو عدم
التبليغ عنها خوفا من الفضيحة و العار(كالجرائم الجنسية، الإجهاض، الاغتصاب....)
ولذلك تبقى دائما هذه الأرقام – باختلاف الأزمنة و الأمكنة – أرقامًا سوداء Des chiffres noirs تجعل من الدراسة
الموضوعية و الصادقة للظاهرة الإجرامية أمرًا صعبًا.
وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للأسلوب الإحصائي،
فانه لا يزال يتصدر المكانة الأولى بين باقي الأساليب المعتمدة في علم الإجرام.
ثانيا˸ أسلوب البحث الاجتماعي أو المسح الاجتماعي
ويراد به تجميع الحقائق عن الظروف الاجتماعية في بيئة
ما، أو عن ظاهرة معينة في مجتمع ما؛ وذلك من خلال بيان خصائصهما ثم تعميم ما يمكن
بلوغه من نتائج على أفراد المجتمع عامة أو على فئة منه، وفي مجال علم الإجرام،
يعني بوجه خاص تجميع الحقائق المرتبطة بطائفة، أو فئة معينة من الناس (كالمتشردين
أو المدمنين على المخدرات أو محترفي الدعارة...) وذلك خلال فترة زمنية محددة. آو
في وسط اجتماعي معين (قرية- مدينة- حي شعبي...) وفي فصل خاص أو موسم خاص. ولذلك،
فهو كأسلوب للبحث، يتطلب جهدا كبيرا و بحثًا ميدانيًّا قد يتجاوز قدرات الباحث
الفرد، لذا يتعاون في إجرائه فريق من الباحثين مستعينين بوسائل أخرى كالاستبيان و
المقابلة و دراسة الحالة. فهو بذلك يقوم بدراسة الجريمة من خلال الواقع؛ أي من
خلال نزول الباحث إلى مواطن الإجرام، و يعتمد في ذلك أسلوبين˸
فأما الأسلوب الأول يقوم على الاستجواب، ويتم من خلال
وضع مجموعة من الأسئلة حول ظروف حياة المجرم ومعيشته (ظروفه الصحية، النفسية،
الاجتماعية، الاقتصادية، الدينية، مستوى التعليم، المهنة...) فتوزع هذه القائمة من
الأسئلة على مجموعة من المجرمين في مكان واحد، أو منطقة واحدة تتميز بأسلوب إجرامي
معين ومن خلال الأجوبة المختلفة، يستطيع الباحث الربط بين مخلف أنواع الجرائم،
وبين الظروف المشتركة السائدة في تلك المنطقة. ويؤخذ على هذه الطريقة إمكانية
الكذب وعدم الصدق في الأجوبة، وهو ما يعدم الدراسة مصداقيتها.
كما أن هذه القائمة من الأسئلة. قد تتميز بالطابع الشخصي
للباحث، فتتأثر بفكرة معينة تجول في خاطره مسبقًا، وهو ما يفقد الدراسة موضوعيتها.
وأما الأسلوب الثاني فيطلق عليه المسح البيئي آو المنهج
الايكولوجي˸ من خلال هذا الأسلوب، يقوم الباحث بتقسيم المكان الذي يجري بحثه فيه
إلى عدة مناطق، تختلف في ظروفها الاقتصادية و الثقافية والعقديّة ... ثم يحاول
بيان مدى تأثير وجود مختلف هذه العوامل أو تخلفها في الظاهرة الإجرامية.
ثالثا˸ أسلوب المقارنة
تبرز أهمية هذا الأسلوب، كأسلوب مكمل للإحصاء الجنائي،
في انه يقوم بالربط بين النماذج المدروسة، التي من خلال مقارنتها ببعضها بعض،
تستخلص القواعد العامة في علم الإجرام.
كما أن المقارنة يمكن أن تشمل المجرمين وغير المجرمين
لاستخلاص نقط التلاقي والاختلاف بينهما في مرحلة أولى، تمهيدًا لاستخلاص الصفات
المشتركة بين المجرمين وحدهم والتي تعتبر دوافع إجرامية.
المطلب الثالث: الأسلوب التكاملي
لم تستطع المناهج العلمية المطبقة في علم الإجرام تحقيق
المعادلة العلمية الوحيدة لشرح الظاهرة الإجرامية؛ فلا الأساليب الفردية المعتمدة
من قبل المدارس البيولوجية والنفسية، ولا الأساليب الجماعية المعتمدة من قبل
المدارس الاجتماعية، استطاعت تفسير السلوك الإجرامي بشكل منفرد، ولذلك نادى بعض
العلماء بتطبيق منهج يسمح بالإلمام بالظاهرة الإجرامية (المركبة)، وهذا المنهج هو
المنهج التكاملي؛ إذ يمتاز الأخير بأخذه بعين الاعتبار العوامل المتعددة للسلوك
الإجرامي، بما في ذلك العوامل المقنعة والمقبولة التي اعتمدتها المدارس السابقة
(البيولوجية والاجتماعية والنفسية). ولذلك، تميزت الدراسات التي اعتمدته بالكياسة
والحذر، بل والمصداقية، وهو ما جعل منها دراسات علمية ناجحة في علم الإجرام.
المرجع:
- د. سميرة أقرورو، الوجيز في أسس علم الإجرام وأهم مدارسه، الناشر صوماديل، طبعة 2015 ، المغرب، ص29 إلى ص38.