تعریف الإثبات الجنائي أهمیته، وخصائصه
للإثبات الجنائي سمات تمیزه، فهناك مبادئ عامة تحكمه،
وأظهر هذه المبادئ هو حریة القاضي الجنائي في تكوین عقیدته، وحریته في هذا المقام
بالغة السعة، فالأدلة عنده لا تتفاضل فیما بینها لأسباب تخصها في ذاتها، وٕإنما
تتفاضل الأدلة بمقدار ما تحدثه في نفسه من أثر وفي وجدانه من ارتیاح واطمئنان، وهو
من جهة أخرى لا یتقید بما یقدمه الخصوم له من أدلة بل أن القانون یجیز له السعي وراء
أي دلیل یراه ذي جدوى من إنارة طریقه والكشف عن الحقیقة غیر أن هذه الحریة لیست
مطلقة، فثم ضوابط تحكمها، وقیود ترد علیها.
وسوف نتناول في هذا البحث مفهوم الإثبات الجنائي في مطلب
أول، وفي مطلب ثاني أظهر أهمیته وخصائصه.
المطلب الأول: مفهوم الإثبات الجنائي
یتمحور الإثبات عموما حول البحث عن الأدلة التي تؤكد
وجود واقعة أو صحة ادعاء ویعرف الإثبات الجنائي بأنه إقامة الدلیل علي وقوع الجریمة
أو عدم وقوعها وعلي نسبتها إلـي المشـتكي علیـه طنینـا كـان أو متهمـا، فهـو
عبـارة عـن الـدلیل أو الحجـة أو البرهـان لإثبـات الوقائع لدى السلطات المختصة
وذلك بـالطرق التـي حـددها القـانون، ووفـق القواعـد التـي أخضـعها لها.
ویهدف الإثبات في المجال الجنـائي إلـي ضـبط الجریمـة ومرتكبیهـا،
وٕإسـنادها إلیـه إسـنادا مادیا ومعنویا.
وعلـي هـذا یختلـف نطـاق الإثبـات الجنـائي فـي كونـه لا
یقتصـر علـي إقامـة الـدلیل أمـام المحكمـة فقـط، بـل أنـه یتسـع لیشـمل أیضـا
إقامـة الـدلیل أمـام سـلطات التحقیـق، وأمـام سـلطات جمع الأدلة أیضا، وهذا یعني
أن نطاق نظریه الإثبات الجنائي أوسع من أن ینحصر في مرحلة المحاكمـة، فإقامـة
الـدلیل فـي المـواد الجزائیـة هـو تعبیـر یشـتمل علـى معنـى التنقیـب عنـه، ثـم
تقدیمه إلي الجهة المختصة، ثم تقدیره، ومن ثم جاز القول بأن الإثبات الجنائي هو
البحث عـن الدليل وتقديمه وتقديره.
وعلي هذا فإن طرح الدعوي الجزائیة أمام القضاء یكون إما
بعد جمع الاستدلالات، وٕإما بعد التحقیق الذي جرى بمعرفة جهة مختصة، وٕإما بعد
تمام الأمرین معا، وهذان الأمران هما مرحلة أولیة من مراحل الإثبات في الأمور الجزائیة.
ولما كان الإثبات الجنائي قد یشمل في نطاقه كل مراحل
الدعوي الجزائیة، وهذا تقدیرا من المشرع الإجرائي أن الحقیقة لا تعرف في المواد
الجنائیة من خلال مرحلة واحدة، هي مرحلة المحاكمة، إذ تحتاج إلى مرحلة التحقیق
الأولي، أو مرحلة التحقیق القضائي، أو كلاهما معا، خلافا لما هو علیه الحال في
المواد المدنیة.
المطلب الثاني: أهمیة الإثبات الجنائي وخصائصه والهدف منه
للإثبات الجنائي أهمیة بالغة في الإجراءات الجزائیة، كما
له سمات وخصائص یتصف بها تجعله متمیزا .
الفرع الأول: أهمیة الإثبات الجنائي
أولا/ الجریمة واقعة
تنتمي إلى الماضي، فیكون على المحكمة أن تستعین بوسائل تعید أمامها روایة و تفاصیل
ما حدث، وهذه الوسائل هي أدلة الإثبات.
ثانیا/ عدم التوافر
أدلة الإثبات أو الإسناد یترتب عنه عدم نسبة الجریمة إلى المتهم، وبالتالي إطلاق سراحه،
لأنه في غیاب هذه الأدلة لا تثبت الجریمة، وبالتالي لا تستطیع الدولة أن تطبق
سلطتها في العقاب.
ثالثا/ یساعد نظام
الإثبات الجنائي في أي تشریع في فهم مدي دیكتاتوریة سیاسة الدولة الإجرائیة أو دیمقراطیتها،
مثلا في ظل النظام الأول، فإن البحث عن الأدلة یتم دون ضمانات حقوق الدفاع، عكس
الثاني الذي یحترم الحریة الفردیة.
الفرع الثاني: خصائص الإثبات الجنائي
تتصف أدلة الإثبات الجنائي بعدة خصائص نذكر منها:
أولا/ یجب أن یكون
الدلیل متضمنا أكبر قدر من الحقیقة لكي یكون الحكم المعتمد علیه أقرب إلي العدالة.
ثانیا/ یتعین أن یتعارض
البحث عن الدلیل مع الحریات العامة والكرامة البشریة للمتهم، وتطبیقا لذلك تعین
استبعاد التعذیب والاحتیال للحصول علي اعتراف المتهم.
ثالثا/ لم یخصص
قانون الإجراءات الجزائیة الجزائري موضعا على حدى لنظریة الإثبات في المجال
الجنائي، وٕإنما تناثرت قواعدها بین المواضع المخصصة لمراحل الاستدلال والتحقیق
والمحاكمة، وهذا راجع لصعوبة تجمیعها في موضوع واحد، كما هو الشأن لوسائل الإثبات
في المواد المدنیة.
الفرع الثالث: الهدف من الإثبات في الإجراءات الجزائیة
إن قاعدة الأصل في الإنسان البراءة هي یقین، وعلیه فإن
الهدف الأخیر لقواعد الإثبات الجنائي الإتیان بیقین آخر مناقض لیقین البراءة، وهو
الیقین بأن المتهم (الذي یفترض بأنه بريء) هو المرتكب للجریمة.
وبهذا تكون وسائل الإثبات هي الأدوات التي یتحول بها الیقین من النقیض إلي النقیض وتبدأ عملیة التحول هذه في صورة شك فیما إذا كان الشخص قد ارتكب الجریمة، وأنه مسئول عنها، فیوجه له الاتهام وتساق الأدلة لتأكد من صحة هذا الاتهام، وهذه الأدلة هي التي تعرف بالإثبات، أما إذا لم یكن الوصول من خلالها إلي مثل هذا الیقین، فیبقي الشك على ما هو علیه، ومن ثمة تستحیل الإدانة، لأن الحكم بالإدانة هو أمر خطیر، إذ یؤدي إلى معاقبة من أدین بارتكاب الجریمة ومجازاته في شخصه أو حریته أو في ماله أو فیهم معا، فیصیبه من هذا وذاك ضرر بالغ حاضرا ومستقبلا، فكان من اللازم وتحقیقا للعدالة وجوب أن یكون ثبوت إسناد الفعل الجرمي إلى المتهم مؤكدا، أي مبنیا على الجزم والیقین لا على الظن و الاحتمال.
المرجع:
- د. نسيم بلحو، محاضرات في مقياس الإثبات الجنائي، ملقاة على طلبة السنة الأولى ماستر، تخصص قانون جنائي، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، قسم الحقوق، السنة الجامعية: 2017/2018، ص5 إلى ص8.