قواعد التنازع المتعلقة بالإلتازمات التعاقدية
يقصد بالإلتزامات
التعاقدية التصرفات القانونية التي تتم بين الأحياء دون التصرفات المضافة إلى ما
بعد الموت والتي تصنف ضمن الأحوال الشخصية، كما نقصد بها أيضا التصرفات ذات الطابع
المالي، دون تلك التي تدخل ضمن طائفة الأحوال الشخصية.
وسندرس الالتزامات
التعاقدية من حيث القانون الواجب التطبيق على موضوع العقد، وشكله.
المبحث الأول: القانون الواجب التطبيق على موضوع الالتزامات التعاقدية
تنص م 18 ق.م.ج
على أنه: "يسري على الالتزامات التعاقدية القانون المختار من المتعاقدين إذا
كانت له صلة حقيقية بالمتعاقدين أو بالعقد.
وفي حالة عدم
إمكان ذالك قانون الموطن المشترك أو الجنسية المشتركة.
وفي حالة عدم
إمكان ذلك يطبق قانون محل إبرام العقد.
غير أنه يسري
على العقود المتعلقة بالعقار قانون موقعه".
فيحكم موضوع
العقد إذن أربعة ضوابط، الإرادة، الجنسية المشتركة، الموطن المشترك، وموضوع العقد.
غير أن أكثر الضوابط أهمية هو قانون الإرادة، لذا سنخصه بالدراسة في المطلب الأول،
وباقي الضوابط في المطلب الثاني.
المطلب الأول: الإرادة كضابط إسناد لتحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع الالتازمات التعاقدية
لا يمكن لأحد أن
ينكر ما للإرادة من سلطان في إبرام العقود، فهي تنشئ، تنفذ، تعدل ،وتنهي العقود
دون تدخل الغير، إلا في حالات معينة نص عليها القانون، وتبعا لذلك يكون من المنطقي
أن تطلق إرادة المتعاقدين ليختارا القانون الذي سيحكم عقدهما، والذي من شأنه كذلك
أن يحل أي نزاع ينشب بينهما فيما يتعلق بتنفيذ العقد.
بتاء على ذلك
سنتطرق في هذا المطلب إلى نشأة ضابط قانون الإرادة في فرع أولأ ،ومضمونه في فرع
ثاني.
الفرع الأول: نشأة قانون الإرادة وتطوّره
كانت قاعدة خضوع
العقد لمكان إبرامه شكلاً وموضوعَا معروفة لدى المدرسة الإيطالية القديمة التي كان
يتزعمها الفقيه Bartol، حيث أنه لم
يفرّق بين شكل العقد وموضوعه، وهذا على أساس أنّ المتعاقدان عند إختيارهما للمكان
الذي سيبرما فيه عقدهما، قد إتجهت إرادتهما ضمنيا إلى إختيار قانون محل إبرام هذا
العقد ليحكم علاقتهما العقدية، وقد عرفت هذه القاعدة تحت تسمية Locus régit Actum
ويرجع الفضل إلى
الفقيه Dumoulin في الفصل بين موضوع العقد وشكله، حيث
أستشير سنة 1525م في قضية القانون الواجب التطبيق على النظام المالي للزوجين،
فإعتبر النظام المالي عقدا وبالتالي وجب خضوعه للقانون الذي إختاره الزوجان، وأنه
لا معنى لأن نفترض أنّ المتعاقدين بإختيارهما لمكان لإبرام العقد قد إختارا تطبيق
قانون مكان الإبرام، إذ يمكن أن تكون إرادتهما قد إتجهت إلى إختيار قانون
آخر، ومنذ هذا التاريخ ظهرت قاعدة خضوع
العقد من حيث موضوعه لقانون إرادة المتعاقدين دون الشكل، وهكذا ظهر مبدأ سلطان الإرادة
في القانون الدولي الخاص لأوّل مرّة.
وقد وجهت عدة
إنتقادات لقاعدة مكان إبرام العقد أهمّها ما ذكره الفقيه
Batiffol من أنّ
مكان إبرام العقد، غالبا ما يكون عرضيا ولا علاقة له بمصالح المتعاقدين، وأنّ
عبارة مكان إبرام العقد تحتمل عدّة مفاهيم، فهل يقصد منها المكان الذي تمّ فيه
الإتفاق على جميع شروط العقد، أو المكان الذي تمّ فيه التوقيع على العقد، بإعتبار
أنّ المكانين قد يختلفان، ما جعل معظم التشريعات تأخذ بقاعدة قانون الإرادة كأصل
عام.
وعلى الرغم من
النجاح الذي لاقاه قانون الإرادة، وجّهت له عدّة إنتقادات أهمّها:
- إذا كان يحق للمتعاقدين إختيار القانون الذي
يحكم عقدهما، فكيف يكون الحل إذا إختارا قانونا يظهر من قواعده بأنّ هذا العقد
باطل، فكيف يمكن القول بأنّ مبدأ سلطان الإرادة يحقق مصلحة المتعاقدين إذا جعل
العقد باطل بسبب جهل المتعاقدين للقانون الذي إختاراه.
- إنّ تحديد سلطان القانون من حيث المكان من
إختصاص المشرع، لكن إذا أعطي للمتعاقدين الحرية في اختيار القانون الذي يحكم
عقدهما، ألا نكون في هذه الحالة قد أعطينا اختصاص للمتعاقدين في تحديد سلطان القانون
من حيث المكان.
- إذا لم يختر المتعاقدين صراحة القانون الذي
يحكم عقدهما، فعلى القاضي البحث عن الإرادة الضمنية مما قد ينتج عنه أنّ القاضي قد
ينسب إلى المتعاقدين قانونًا لم تتجه إرادتهما إليه إطلاقا، مما يفتح المجال
لإحلال إرادة القاضي محل إرادة المتعاقدين.
لكن ومع توجيه
كل هذه الإنتقادات، إلاّ أنّ معظم التشريعات أخذت بقانون الإرادة كقاعدة إسناد
فيما يخص القانون الواجب التطبيق على موضوع العقد، وان كان القضاء في فرنسا وانجلترا
والولايات المتحدة الأمريكية قد أحاطه بقيود، وضيّق عليه، كما حدّت التشريعات التي
أخذت به من حرية المتعاقدين في إختيار القانون الذي يطبق على عقدهما ،خاصة بعد
إعمال نظرية الغش نحو القانون.
والملفت
الإنتباه أنه على الرغم من ظهور مبدأ قانون الإرادة على يد الفقيه الفرنسي Dumoulin، إلاّ أنّ هذه القاعدة لم تظهر في القضاء الفرنسي إلاّ سنة 1910 أين
ذكرت محكمة النقض الفرنسية أنّ "القانون الذي تخضع له العقود من حيث تكوينها،
أو منحيث آثارها أو شروطها هو ذلك الذي تبناه الطرفان"
غير أنّ الأخذ
بمبدأ سلطان الإرادة في اختيار القانون الذي يحكم العقد بشكل مطلق سيؤدي إلى
النتائج التالية:
- يحق للمتعاقدين أن يختارا أيّ قانون يحكم
عقدهما حتى لو كان هذا القانون ليست له علاقة لا بالعقد ولا بالمتعاقدين، وهي
نتيجة مرفوضة فقها وتشريعا، وقضاء.
- يحق للمتعاقدين أن يشترطا عدم تطبيق التعديلات
التي ستطرأ على القانون المختار واللاحقة لإبرام العقد، فلا تسري هذه التعديلات
التي بأثر رجعي على العقد.
- يحق للمتعاقدين إختيار بعض أحكام هذا القانون،
واستبعاد البعض الآخر، خاصة تلك التي يترتب على تطبيقها بطلان العقد.
- يمكن للمتعاقدين أن يختارا عدم إخضاع عقدهما
لأيّ قانون وقد أكّدت هذا الأمر محكمة باريس في حكمها الصادر بتاريخ 24/04/1940، ولكن محكمة النقض الفرنسية عارضت هذا الإتجاه
في الحكم الصادر في 21/06/1950 أين ذكرت بأنّ "كل عقد دولي يستند إلى قانون
دولة ما"
و قد أراد بعض
الفقهاء الفرنسيين تجنب ما وجّه من إنتقادات لمبدأ سلطان الإرادة، وقالوا أنّ المتعاقدين لا يختاران القانون الواجب
التطبيق على العقد، إنّما يختاران مكان تركيز العقد، حيث نطبق على العقد قانون
البلد الذي ركّز فيه العقد، بالتالي فإيجاد القانون الذي يحكم العقد يكون بالبحث
عن تركيز العقد، والذي يقصد به المكان الذي تمت فيه أكثر أو أهم عناصر العقد، مثل
مكان المفاوضات، إجراءات التنفيذ، وغيرها من المظاهر الخارجية الملموسة التي يمكن
تحديد مكانها، وقالوا بأنّ أهم عنصر يؤخذ به لتركيز العقد هو الإبرام، فيجوز أن
يكون محل إبرام العقد هو مكان التركيز.
غير أنّه وكما
هو معلوم، يمكن أن يكون محل إبرام العقد عرضيا لا صلة له بمصالح أطراف العقد، كما
أنّ العقد قد يبرم بين غائبين عن طريق الهاتف أو بالمراسلة أو عبر الأنترنت، فيجب
على المتعاقدين أن يعتمدا على عنصر آخر لتركيز العقد، مثل محل التسليم، أو الوفاء
بالثمن، وهذا يعني أن المتعاقدان هما اللذان سيختاران محل تركيز العقد، أي قانون
محل تركيز العقد، وبالتالي فلإرادتهما سلطان في إختيار القانون الذي يحكم العقد
،أي أنّه لا فرق بين نظرية قانون الإرادة، ونظرية تركيز العقد، خاصة أنّه إذا لم
يظهر في العقد أنّ إرادة الأطراف إتجهت إلى تركيز العقد في مكان معيّن، فسيتولى
القاضي تركيزه، مما يعني تحكم القاضي في العقد وتمكينه من إخضاعه لقانون لم تتجه إرادة
الأطراف إليه.
وتجنبا لهذا
النقد ذهب فريق آخر من الفقهاء إلى إخضاع كل جزء من أجزاء العقد إلى قانون معيّن
كالآتي:
- تخضع الأهلية لقانون الجنسية.
- يخضع الشكل لقانون الشكل.
- يخضع وجود الرضا لقانون القاضي، واذا كان واجبا
إفراغه في شكل معيّن لابدّ من خضوعه لقانون الشكل.
- عيوب الرضا تخضع لقانون الجنسية أو الموطن.
- موضوع الإلتزام وسببه يخضعان لقانون القاضي من حيث المشروعية،
ولقانون محل التنفيذ من حيث كون الموضوع ممكن أو لا.
ولقد عيب هذا الرأي
أنّه جزأّ العقد بينما هو وحدة متكاملة غير قابلة للتجزئة.
الفرع الثاني: ضوابط تحديد قانون الإرادة:
الإرادة الصريحة
- الإرادة الضمنية.
أولا: الإرادة الصريحة:
يتم التعرف على
قانون إرادة المتعاقدين بالإستناد إلى الكيفية التي يعبّر بها المتعاقدين عن إرادتهما،
فإذا كانت صريحة، أي أنّ المتعاقدين قد إتفقا صراحة على أن يكون قانون دولة معينة
هو الواجب التطبيق على العقد فيجب العمل بذلك، أما إذا كانت الإرادة ضمنية، وفي
هذه الحالة هي أيضا إرادة حقيقية للمتعاقدين، إلاّ أنّهما لم يعتبرا عنها صراحة،
كأن يتفق المتعاقدان على أن يرفع أيّ نزاع ينشأ بينهما إلى قاضي دولة معيّنة، ففي
هذه الحالة تكون إرادتهما متجهة إلى تطبيق قانون هذه الدولة على عقدهما.
ثانيا: الإرادة
الضمنية:
في حال غياب الإرادة
الصريحة، يستنتج القاضي الإرادة الضمنية من خلال الإطلاع على شروط العقد وبنوده، أي يعتمد على القرائن المرتبطة بالعقد.
ويضيف الفقهاء
الإنجليز إلى أن الإرادة الضمنية، الإرادة المفترضة، غير انّه بما أنّ القرائن
التي تستنبط منها الإرادة المفترضة هي نفسها القرائن المعمول بها قصد التعرف على
الإرادة الضمنية، قد إستبعدها الفقهاء الفرنسيين وكذا الكثير من التشريعات، وقد
أخذ المشرع المصري بالإرادة الضمنية، حيث نص في المادة 19 من قانون المدني المصري
على ما يلي:
"أو يتبّن من الظروف أنّ قانونا آخر هو
الذي يراد تطبيقه"
أمّا المشرع الجزائري
فلم ينص على الأخذ بالإرادة الضمنية ولم يشر إليها ولا حتى بشكل غير مباشر، حيث
نصّ في المادة 18 من قانون مدني الجزائري على الرجوع مباشرة إلى الجنسية المشتركة
للمتعاقدين، أو موطنهما المشترك، في حال غياب الإرادة الصريحة الدالة على القانون
الواجب التطبيق.
والمسألة الأخرى
التي أثيرت من طرف الفقه والقضاء الفرنسيان أنّه بعد ما يتم إختيار القانون الذي
يحكم العقد، هو مدى محافظة هذه النصوص القانونية المختارة على صفتها القانونية
الإلزامية، حيث يذهب إتجاه في الفقه إلى أنّ نصوص القانون المختار تصبح جزءًا من
العقد، فتفقد صفتها القانونية وتعتبر بنود في العقد، بالتالي فإنّ أيّ تعديل أو
إلغاء ينصب على هذا القانون لا يكون له أيّ تأثير على بنود العقد، وهذا هو الرأي
الذي أخذ به القضاء الفرنسي.
بينما يذهب
إتجاه فقهي آخر يتزعمه الفقيه Batifol إلى القول بأنّ نصوص القانون المختار
لا تفقد صفتها القانونية ولا تعتبر جزء من العقد ونحافظ على قوّتها الإلزامية بحيث
أنّ أيّ تعديل أو إلغاء يلحق بالعقد ويؤثر
فيه. وهذا هو موقف القضاء السويسري.
نشير هنا إلى
مسألة هامة وهي أن المشرع الجزائري يأخذ بقانون الإرادة إذا كانت له صلة
بالمتعاقدين (الجنسية أو الموطن)، أو بالعقد (محل الإبرام أو محل التنفيذ)، فإن لم تكن الصلة موجودة
،قامت قرينة على التهرب من القانون الواجب التطبيق، بحيث يمكن للقاضي إستبعاد
تطبيق القانون المختار وتطبيق قانون الجنسية المشتركة أو الموطن المشترك
للمتعاقدين.
المطلب الثاني: الضوابط الأخرى التي تحكم موضوع العقد
يطبق على العقد
القانون الذي يختاره الأطراف صراحة شرط أن تكون له صلة بهما أوبعقدهما، فإذا لم
يختارا قانونا أو كان القانون الذي اختاراه بلا صلة بهما أو بعقدهما طبق قانون
موطنهما المشترك(فرع أول)، أو جنسيتهما المشتركة (فرع ثاني)، فإذا لم يكن لديهما
موطن أو جنسية مشتركة، طبق قانون محل إبرام العقد (فرع ثالث).
الفرع أول: الموطن المشترك للمتعاقدين
إتحاد
المتعاقدين في الموطن يعتبر قرينة على أنّهما إختارا قانون موطنهما المشترك لتطبيقه
على العقد القائم بينهما، وقد أخذ به المشرع المصري، كما نصّت عليه إتفاقية Lahay المنعقدة في 15/06/1955 بشأن بيع المنقولات المادية، بحيث تأخذ
بقانون موطن البائع عند سكوت المتعاقدين.
غير أن المشرع
الجزائري لم يأخذ به كقرينة للتعرف على الإرادة الضمنية، لأنه يعتبر ضابط إسناد في
حال غياب الإرادة الصريحة من طرف المتعاقدين، أي في حالة عدم اختيار المتعاقدين
لقانون يحكم عقدهما، أو أنهما اختارا قانون لا علاقة له بهما أو بعقدهما.
الفرع ثاني: الجنسية المشتركة للمتعاقدين
إذا كانت جنسية
المتعاقدين مشتركة وكانا لم يصرحا بالأخذ بقانون معيّن يحكم عقدهما، أو أنهما اختارا
قانون لا علاقة له بهما أو بعقدهما، فإنّ قانون الدولة التي يحملا جنسيتهما هو
القانون الواجب التطبيق على العقد.
نشير هنا أن
ضابطي الموطن والجنسية اختياريان لأن المشرع الجزائري استعمل عبارة "أو"، مما يعني أن للقاضي الذي
يعرض عليه النزاع أن يختار القانون الذي سيعتمده لحل النزاع
.
الفرع الثالث: محل إبرام العقد كضابط لتحديد القانون الواجب التطبيق على العقد:
في حال غياب الإرادة
الصريحة من طرف المتعاقدين، أي في حالة عدم اختيار المتعاقدين لقانون يحكم عقدهما،
أو أنهما اختارا قانون لا علاقة له بهما أو بعقدهما، ولم تكن لهما جنسية مشتركة أو
موطن مشترك، يكون قانون محل إبرام العقد هو الواجب الطبيق.
لا يثور أيّ
إشكال في تحديد مكان إبرام العقد عندما يتم هذا الأخير بين حاضرين، أمّا إذا أبرم
العقد بين غائبين، كما لو تمّ عن طريق المراسلة فإنّ تحديد مكان إبرام العقد يكون
بحسب الزمن الذي يعتبر فيه العقد مبرم أي لابدّ من تحديد وقت إقتران الإيجاب
بالقبول.
وفي هذا الصدد
هناك من الفقه من يعتبر بأنّ العقد قد تمّ في الزمان والمكان اللذين يعلن فيهما
القابل عن قبوله، ويذهب إتجاه آخر إلى
الأخذ بزمان ومكان تصدير القبول، واتجاه ثالث يذهب إلى الأخذ بزمان ومكان صول القبول، بينما يأخذ المشرع الجزائري
بنظرية العلم بالقبول، بحيث يعتبر العقد قد تمّ في الزمان والمكان الذين علم فيهما الموجب بالقبول المادة
67 من قانون المدني الجزائري، ويعتبر هذا هو الضابط في تحديد محل إبرام العقد.
وتظهر أهمية
تحديد زمان ومكان إبرام العقد بحسب النظريات المذكورة أعلاه في أنّ كل نظرية تشير
إلى مكان معيّن، بالتالي فمكان إبرام العقد سيختلف بحسب النظرية المأخوذ بها، مما
يستتبع إختلاف القانون الذي يحكم العقد.
وتجدر الإشارة
إلى أنّ التشريعات العربية والغربية قد إعتمدت على محل إبرام العقد كضابط إسناد
إحتياطي في حال غياب الإرادة الصريحة، أو صعوبة التوصل إلى الإرادة الضمنية، وذلك
على الرغم من إحتمال كون مكان إبرام العقد عرفي لا علاقة له بمصالح المتعاقدين.
ولكن نلاحظ أنّ
المشرع الجزائري قد أعطاه أهمية بالغة عند عدم إختيار المتعاقدين لقانون يحكم
عقدهما، ولم يكن لهما جنسية أو موطن مشترك.
المطلب الثالث: نطاق تطبيق القانون الذي يحكم العقد
لا تخضع كل
العقود إلى قانون الإرادة إنّما هناك من العقود ما يخضع إلى قانون آخر، كما أنّ
ليست كل عناصر وأركان العقد تخضع لقانون
الإرادة.
الفرع الأوّل: العقود المستثناة من تطبيق القانون الذي يحكم العقد
لا يخضع بيع
المنقول في المزاد العلني للقانون الذي يحكم الالتزامات التعاقدية، سواء تمّ تنظيم
المزاد من طرف إدارة عمومية أو خاصة، أو من طرف موظف مختص، فإنّ القانون الواجب
التطبيق عليه هو قانون البلد الذي نظم المزاد.
وتخضع العقود
الواردة على العقارات لقانون موقع العقار حسب المادة 18/ 4 ق.م.ج. كما تخضع عقود
الأحوال الشخصية لقانون الجنسية حسب المادة 16 ق.م.ج. كذلك تخضع الأهلية لقانون
الجنسية (المادة 10 من قانون المدني الجزائري). ويسري على شكل العقد القواعد
الواردة في المادة 19 ق.م.ج.
بالنسبة لعقود
العمل فإن الفقه يختلف حول القانون الواجب التطبيق عليها بين مؤيد لقانون مكان إبرام
العقد أو قانون المركز الرئيسي للمؤسسة، أو قانون مكان تنفيذ العقد (أي تنفيذ
العمل)، غير أن المنطق القانوني يقتضي خضوع عقد العمل لقانون مكان العمل ،ذلك أن
ممارسة الشخص المعنوي لنشاط في الجزائر يجعله خاضعا للقانون الجزائري ،وكذلك عقود
العمل التي يبرمها.
الفرع الثاني: جوانب تطبيق القانون الذي يحكم العقد
يطبق قانون
العقد على تكوين العقد، آثاره، وأسباب إنقضائه.
أولا: تكوين
العقد:
يتكوّن العقد بتوافر أركانه: الرضا- المحل- السبب.
1-
الرضا: يحدد لنا قانون الإرادة، أي يخضع
لقانون الإرادة كل من:
- كيفية التعبير عن الإرادة، هل تكون صريحة أو
ضمنية، حكم الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة.
- متى يتطابق الإيجاب بالقبول.
- زمان
ومكان إنعقاد العقد.
أمّا بالنسبة لعيوب الرضا فرأى Bartin إخضاعها لقانون الجنسية بإعتبارها تهدف إلى حماية إرادة الشخص، بينما
يفرّق الفقهاء عمومًا بين عيوب الإرادة (نقص الأهلية ،السفه، العته، الجنون،
الغفلة) فيعتبرونها خاضعة لقانون الجنسية لأنها تدخل ضمن الأحوال الشخصية، وبين
عيوب الرضا (الغلط، التدليس، والإكراه)
فهي ليست عيوب في الشخص إنّما عيوب في العقد لذا فتخضع لقانون الإرادة.
وبالنسبة للإستغلال وبإعتبار أن التشريع الجزائري يقيمه على الطيش
والهوى تارة وعلى النقص في ثمن العقار تارة أخرى، ففي الحالة الأولى يعتبر عيب في
الشخص بالتالي يخضع لقانون الجنسية، أمّا في الحالة الثانية فيعتبر عيب في العقد
فيخضع بالتالي لقانون الإرادة.
2- محل العقد: كل المسائل القانونية المتعلقة بالمحل
تخضع لقانون العقد، أيّ أنّ هذا القانون هو الذي سيحدد متى يكون المحل موجودًا أو
لا، معينًا أو قابلاً للتعيين، مشروعًا أو لا. غير أنّ الفقه يرى أنّه فيما يخص
قابلية المحل للتعامل فيه فيجب الرجوع إلى قانون موقع المال إذا كان المحل مال، أو
إلى قانون مكان التنفيذ إذا كان المحل عمل.
3- السبب: يبيّن لنا قانون العقد متى يكون السبب
موجود أو لا، مشروع أو غير مشروع، غير أنّه إذا كان السبب غير مشروع طبقا لقانون
القاضي، يمكن لهذا الأخير إستبعاد قانون الإرادة لتعارضه مع النظام العام.
ثانيا: آثار العقد: قانون العقد هو الذي يحدد لنا أشخاص العقد الذين تنصرف إليهم (آثاره المتعاقدين، الخلف العام، الخلف الخاص التعهد عن الغير، الإشتراط لمصلحة الغير). كما يحدد لنا الدعاوى التي يحق للدائنين رفعها ضد المدين، وكذلك يبيّن لنا موضوع التعاقد بين الطرفين والإلتزامات المتولدة عن العقد.
كذلك قانون العقد هو الذي يحدد
المسؤولية العقدية في حالة ما إذا إمتنع المدين عن تنفيذ إلتزامه وكذا أركان
المسؤولية العقدية، كما يخضع تفسير العقد لقانون العقد. أما حق الحبس فبإعتباره حق
شخصي في القانون الجزائري فهو يخضع لقانون العقد، بينما يخضع لقانون موقع المال
عند من يعتبرونه حقا عينيًا.
ثالثا: تنفيذ العقد: يحدد قانون العقد الإلتزامات الواردة في العقد والواجب تنفيذها، كما يحدد أحوال تنفيذ العقد هل يكون عينيًا أو بمقابل، كيف يقدر التعويض، وعناصره، كما يحدد أحكام الشرط الجزائي والفوائد، كذلك جزاء عدم التنفيذ، وحالات استحالة التنفيذ وأحكامها.
غير أنّ المسائل
المتعلقة بالغرامة التهديدية والتنفيذ الجبري، وبإعتبارهما من النظام العام فهما
يخضعان لقانون القاضي.
أمّا الكفالة
وحوالة الحق، فيخضعان للقانون الذي يختاره الأطراف، أمّا إذا لم يختر الأطراف
قانون فقد درج القضاء الفرنسي على إخضاعها للإلتزام الأصلي الذي ترتبطان به.
رابعا: إنقضاء الإلتازم التعاقدي: يحدد قانون العقد طرق إنقضاء الإلتزام التعاقدي سواء رجع ذلك إلى إنقضاء الإلتزام بطريق الوفاء، التجديد، إستحالة التنفيذ، أو الإبراء، أمّا المقاصة فهي تخضع لقانون العقد إذا كانت إتفاقية، واذا كانت قضائية فهي تخضع لقانون القاضي، أمّا المقاصة القانونية فقد ذهب جانب من الفقه إلى إخضاعها لقانون العقد، والبعض الأخر أخضعها لقانون القاضي، وفريق آخر قال بتطبيق القانون الذي أدّى إلى تحقيق المقاصة، وقال فريق رابع بتطبيق القانون الذي يحكم الإلتزام المنقضي بالمقاصة.
أمّا فيما يخص إنقضاء الإلتزام عن طريق
التقادم المسقط فإنه يخضع في الدول الأنكلوسكسونية إلى قانون القاضي، أمّا أغلب
دول أوربا، وأغلب الفقه فيخضعه لقانون العقد.
يحدد قانون
العقد ما إذا كان الجزاء المترتب عن تخلف شرط أو ركن هو البطلان المطلق أو
القابلية للإبطال، بحيث يخضع البطلان المطلق للقانون الذي يحكم الركن المتخلف،
أمّا القابلية للإبطال فهي تخضع لقانون جنسية الشخص إذا نتجت عن تخلف شرط الأهلية
أو عن عيب من عيوبها مع الإشارة إلى الإستثناء الوارد في المادة 10 من قانون
المدني الجزائري، وتخضع لقانون العقد إذا
نتجت عن عيب من عيوب الرضا (الغلط أو
التدليس أو الإكراه( .
أمّا الفسخ لعدم التنفيذ فيخضع لقانون
العقد.
المبحث الثاني: القانون الواجب التطبيق على شكل الا لتزامات التعاقدية
يأخذ المشرع الجزائري
فيما يخص القانون الواجب التطبيق على شكل التصرف القانوني بقاعدة Locus حيث تنص المادة 19 من قانون المدني الجزائري على أنّ العقود ما بين
الأحياء تخضع في شكلها لقانون محل الإبرام،
وفي حالة ما إذا كان للمتعاقدان جنسية مشتركة أو موطن مشترك، جاز إخضاع شكل
العقد لقانون الجنسية أو الموطن. كما يجوز أن يخضع للقانون الذي يحكم الشروط
الموضوعية للعقد.
المطلب الأول: نشأة قاعدة Locus
ظهرت قاعدة Locus بمناسبة مناقشة صحة وصية أبرمها أحد سكان مدينة مودين وهو في مدينة
فينيس، حيث يستلزم قانون المدينة الأولى لصحة الوصية حضور 07 شهود، بينما يستلزم
قانون المدينة الثانية حضور 03 شهود فقط،
وقد قرر القضاء في مدينة فنيس صحتها لأنّها تمت بالشكل المطلوب في هذه
المدينة.
وقد توسّع فقهاء
المدرسة الإيطالية في هذا الحكم وجعلوا
قاعدة Locus مطبقة حتى على موضوع العقد، إلى غاية
القرن 16 أين فصل Dumoulinبين شكل العقد فبقي خاضعا لقانون
المحل، وموضوع العقد الذي أصبح خاضعا لقانون الإرادة.
ويرجع الأخذ
بقاعدة Locus إلى عدة مبرارت نذكر منها:
- إستقرار المعاملات، وضمان صحتها.
- تسهيل تعاملات المتعاقدين، بحيث قانون المحل هو
الأقرب إليهما، سيما إذا تطلب الأمر إبرام العقد لدى موظف معيّن وفي شكل خاص.
المطلب الثاني: إلازمية قاعدة Locus
إختلف الفقه
والقضاء في مدى إلزامية قاعدة قانون المحل، سيما أنّ معظم التشريعات تنص على قواعد
أخرى إلى جانب قاعدة Locus مثل التشريع المصري الذي ينص على خضوع
شكل التصرف للقانون الذي يحكم الموضوع، أو قانون موطن المتعاقدين ،أو قانون
جنسيتهما المشترك، وكذلك ينص المشرع الجزائري.
لقد إتجه القضاء الفرنسي في بداية
الأمر ومعه جانب من الفقه إلى إعتبار
قاعدة Locus إلزامية، بحيث يلزم المتعاقدين بإفراغ
عقدهما في الشكل الذي يستوجبه قانون المكان الذي أبرما فيه عقدهما، أي أنّ قاعدةLocus قاعدة آمرة لا يجوز مخالفتها.
غير أنّ القضاء
الفرنسي تراجع عن هذا الإتجاه حيث أصدرت محكمة النقض الفرنسية حكم في 28/05/1963
قالت فيه بجواز خضوع شكل التصرف إلى القانون الذي يحكم موضوعه، أي أنّ قاعدة Locus إختيارية بحيث يجوز للمتعاقدين إختيار
قانون آخر يخضع له شكل عقدهما ،مما يضمن التيسير على المتعاقدين.
وتختلف التشريعات
من حيث الأخذ بالطابع الإلزامي أو الإختياري لقاعدة Locus، أمّا المشرع
الجزائري فقد منح المتعاقدين حق الخيار بين تطبيق قانون المحل على شكل العقد أو
قانون جنسيتهما إذا إشتركا في الجنسية، أو موطنهما المشترك، أو القانون الذي يحكم
العقد من حيث موضوعه.
غير أنه ثمة
إشكالية إذا كان بالإمكان استعمال الضوابط الأربعة لتحديد القانون الواجب التطبيق،
وكان شكل العقد صحيحا طبقا لإحدى القوانين، وباطلا طبقا لقوانين أخرى، وتمسك
أحدهما بالبطلان، فما هو القانون الذي سيطبقه القاضي؟
تقتضي مبادئ
تطبيق القانون بحسن نية، أن يطبق القاضي القانون الذي يجعل العقد صحيحا من حيث الشكل،
لأن هدف المتعاقدين هو إبرام عقد صحيح وليس باطل. لذا فإن اختيار القانون الواجب
التطبيق عند نشوب نزاع، هو من صلاحيات القاضي وليس المتعاقدين.
المطلب الثالث: مجالات تطبيق القانون الذي يحكم شكل التصرف القانوني
لا تخضع للقواعد
الواردة في م19 ق.م.ج كل الأشكال التي تفرغ فيها التصرفات القانونية إنّما هناك
حالات لا نطبق فيها قانون المحل إنّما قوانين أخرى.
الفرع الأوّل: الحالات التي لا يطبق فيها القانون الذي يحكم شكل التصرف القانوني
يستثنى من تطبيق
قاعدة Locus régit actus أي قاعدة قانون المحل، الأشكال التالية:
- الأشكال
المتعلقة بالتصرّفات الواردة على العقار بحيث تخضع لقانون موقع العقار 18/ 4 ق.م.ج.
- الأشكال المتعلقة بالشهر، تخضع لقانون موقع
المال محل الشهر، أمّا بالنسبة للسفن والطائرات فتخضع هذه الأشكال لقانون العلم.
- الأشكال المتعلق بالمرافعات، حيث أنّ إجراءات
التقاضي تخضع لقانون الدولة التي ترفع فيها الدعوى أو تباشر فيها الإجراءات (م21 مكرر
ق.م.ج).
- الأشكال المكملة للأهلية، كالإذن اللازم لمزاولة
التجارة لمن لم يبلغ سن الرشد بعد ،أو الإذن بالتصرف في أموال القاصر، فهي
بإعتبارها مقرّرة لحماية القاصر أو الشخص المحمي، فإنها تخضع لقانون جنسية هذا
الشخص، على أنّ الإجراءات القضائية المتعلقة بها تخضع لقانون القاضي.
ونشير إلى أنّه
في الحالة التي يؤدي فيها تطبيق القانون الذي يحكم الشكل إلى مخالفة النظام العام
في دولة القاضي، أو إنطوى تطبيقه على تحايل تجاه القانون الواجب التطبيق، فإنّه
يتم إستبعاده وتطبيق قانون القاضي (م24 ق.م.ج(.
الفرع الثاني: الحالات التي يطبق فيها القانون الذي يحكم شكل التصرف القانوني
يطبق القانون
الذي يحكم شكل التصرف القانوني على ما يلي:
- حالة الأشخاص، بحيث أنّ كل الحوادث التي تقع
للشخص منذ ميلاده إلى غاية وفاته والتي تثبت في محررات رسمية، فإنها من حيث شكلها
تخضع لقانون المكان الذي حرّرت فيه الوثائق المثبتة للحوادث (المادة 95 من قانون
الحالة المدنية( .
- شكل عقد الزواج، أي أنّ وثيقة إثبات عقد الزواج
تحرّر وفق قواعد قانون البلد الذي تمّ فيه تسجيل عقد الزواج (المادة 95 قانون
الحالة المدنية)
- شكل الوصية.
- شكل الأعمال التجارية، سيما ما يتعلق منها
بالسّفتجة حيث يجب أن تحرر وفقا للأوضاع المنصوص عليها في القانون البلد الذي تمّ
فيه إنشاؤها.
- الشكل اللازم لإثبات التصرف، ويقصد به الشكل المادي
الخارجي الذي تفرغ فيه إرادة المتعاقدين، كإشتراط الكتابة، وثبوت التاريخ، ووجوب
وضع بيانات معيّنة،أو لزوم التصديق، وعدد النسخ التي يجب أن يتم فيها العقد،
وتوقيع الشهود، فقانون المحل هو الذي ينظّم هذه المسائل.
- الشكل اللازم لإبرام التصرّف، وهنا نميّز
حالتين:
- إذا كان الشكل لازم لإنعقاد العقد ففي هذه
الحالة يعتبر الشكل ركن في العقد بالتالي يخضع هذا الشكل للقانون الذي يخضع له
موضوع العقد، كالشكل اللازم في الرهن الرسمي.
- أمّا إذا كان الشكل ضروريا للإثبات، فإنه يخضع
لقانون محل إبرام التصرف.
ونشير هنا إلى
أن القاضي هو الذي يكيّف موضوع النزاع، فإما أن يعتبره متعلق بشكل العقد، بالتالي
يطبق نص م 19 ق.م.ج إن كان له محل، أو يعتبره متعلق بالموضوع فيطبق نص م 18 ق.م.ج
إن كان لها محل.
المرجع:
- د. بشور فتيحة، محاضرات في القانون الدولي الخاص تنازع القوانين، محاضرات لطلبة السنة الثالثة ليسانس تخصص القانون الخاص، جامعة آكلي محند أولحاج – البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسة، قسم الحقوق، السنة الجامعية 2016/ 2017، ص52 إلى ص67.