المنهج الجدلي
مقدمة
يعتبر
المنهج الجدلي قديما في نشأته، حديثا في صياغته وبنائه كمنهج علمي، ويرجع الفضل في
نشأة الجدلية إلى الصراع الذي قام بين الفلاسفة لتحديد ما إذا كانت المادة سابقة
على الوعي أم لاحقة له، ومعرفة ما إذا كان الوجود ثابت أم متغير؟ الشق الأول من
التساؤل أدى بانقسام الفلاسفة إلى قسمين، قسم وهم الماديون الأحاديون يعتبرون أن
المادة سابقة عن الوعي (التفكير) وهذا الأخير هو خاصية من خصائصها. في حين أن
القسم الثاني، فهم فلاسفة المثالية أو الثنائية الذين يرون أن الوعي سابق عن
المادة، فهذه الأخيرة تصدر عنه.
أما
الشق الثاني، فقد قسمهم هو الآخر إلى قسمين لكن القلة منهم تدعو إلى ثبات الوجود
والأغلبية أكدت على صيرورته منهم هرقليط، هيجل (من المثالية)، ماركس (من المادية).
بعيدا
عن هذا الصراع، فإن الجدلية قائمة منذ العصر اليوناني إذ تصور فلاسفتها الطبيعة
ككل وهذا الكل يتحول، بعبارة أدق كل شيء متحرك فهو متغير غير ثابت أو جامد. وأبرز
مثال على ذلك تجربة هرقليط حينما قال: "لا ندخل أبدا في نفس النهر
مرتين". وقد احتلت فكرة نضال الأضداد عندهم مكانة كبيرة خاصة عند أفلاطون الذي
يرى أن الأضداد يولد كل منها الآخر.
والدياليكتيك
تطور على يد العديد من الفلاسفة أبرزهم الفيلسوف أرسطو الذي أسس منطقا جامدا يبتعد
تماما عن التناقض ويدرس كل موضوع على حدة دون تدخل مراحل وسطى (قانون التماثل،
التناقض، استبعاد المراحل الوسطى)، إلا أن منطقه هذا تعرض للنقد الشديد، حيث أنه
عجز عن التعبير عن الوقائع، فتبلورت فكرة ومنطقا آخر على يد الفيلسوف هيجل الذي
يرى أن التناقض والصراع هما السبب الرئيسي وراء كل تغير فخالف بذلك القوانين التي
وضعها أرسطو، فالمنهج الجدلي الهيجلي يتضمن 03 أمور القضية ونقيضها والمركب منهما
مثلا (الوجود والعدم والصيرورة)، وهو من أنصار الفلسفة المثالية كونه يعتبر أن
حركة الحياة وتطورها ليست سوى نتاج لحركة الفكرة الشاملة، فالواقع يعتمد عليها لأنها
خالقة وصانعة (الوعي يسبق المادة).
جدلية
هيجل عرفت على أنها جدلية روحية مثالية وهو ما رفضه الماديون أو الماركسيون الذين
لا يقرون بالنظرية المثالية للعالم التي ترى أن الكون المادي هو تمرة للفكرة. حيث
ذهب كارل ماركس إلى القول أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس الحركة الواقعية منقولة
إلى دماغ الإنسان في شكل أفكار (أي أن المادة سابقة على الوعي)، وقد دعم موقفه هذا
إنجلز بقوله: "لم يعد دياليكتيك المفاهيم سوى الانعكاس الواعي لحركة العالم
الواقعي الجدلية، وبذلك أوقف جدل هيجل على رجليه بعد أن كان يقف على
رأسه".
وإذا
يكون كل من ماركس وإنجلز قد رفض المثالية في فلسفة هيجل واحتفظا باللباب العقلي أي
الجدلية، وقد توصلا إلى القول بأن للجدلية أساسا موضوعيا مع بداية القرن 19 ويرجع
الفضل في ذلك إلى الاكتشافات الثلاثة المتمثلة في اكتشاف الخلية الحية واكتشاف
تحول الطاقة ونظرية التحول عند داروين التي أثبتت أن جميع الكائنات الحية بما فيها
الإنسان هي ثمرات للتطور الطبيعي.
وهكذا
وجد المنهج الجدلي أرضية خصبة عند ماركس وإنجلز، فطبقت الجدلية المادية على
التاريخ الإنساني، وازداد هذا المنهج دقته بازدياد معرفة العالم اتساعا وعمقا وحظي
برضا العديد من العلماء الذين اعتنقوا الماركسية.
أولا: مفهوم المنهج الجدلي
الجدل
كلمة إغريقية تعني لغويا: "المحادثة أو الحوار" وهي تعبر عن صراع
الأفكار المتناقضة. أما اصطلاحا، فعرفت في القديم على أنها: "فن إدارة الحوار
والمناقشة أو حوار يرتفع به العقل من المحسوس إلى المعقول، أو استدلال ينطلق من
المتناقضات ليصل إلى عملية تركبية".
أما
حديثا، فلها معنيين: الأول عام مدلوله أن الجدل: "علم يتناول القوانين العامة
التي تتحكم في سير الطبيعة وتطورها في المجتمع وتحولاته". أما الثاني، فهو
خاص ومعناه: "المنهج الذي يدرس التناقضات والتفاعلات والتداخلات المتبادلة
القائمة في ماهية الأشياء ويؤكد على مبدأ التطور الذاتي للأشياء".(1)
ثانيا: قوانين الجدلية
للجدلية
قوانين أساسية، وأخرى غير أساسية أو ثانوية.
المقصود
بالقوانين الأساسية مجموعة القوانين التي تمارس التأثير في كل القوانين والجوانب
الأخرى في الظاهرة.
وتحدد
– بدرجة تزيد أو تنقص– وظيفة تطور الظاهرة ككل.
وهذا
التمييز بين القوانين الأساسية، وغير الأساسية، أي التي ذات أهمية ثانوية يشمل
الفلسفة والعلوم معا لدى الجدليين، والقوانين الأساسية في الجدل هي: قوانين تحول
التغيرات الكمية على كيفية، ووحدة وصراع الأضداد، ونفي النفي. وأما القوانين
الجدلية غير الأساسية فتشمل قانون العليا، وقانون تحديد المضمون للشكل، وقانون
تأثير الشكل على المضمون، وقوانين وجود أو تجلي الضروري من خلال العرضي، والترابط
الداخلي بين العام والخاص، وبين الجزء والكل ... الخ.
1. القوانين الجدلية الأساسية:
أ. قانون التحول من الكم الى الكيف، والعكس: كل شيء يمثل كلية العام والخاص، أي الخصائص التي تجمعه بغيره، والخصائص التي تميزه من غيره، وكلية الخصائص التي تجعل من الشيء ما هو عليه هي كيفه، وكلية الخصائص التي تحدد ابعاده هي كمه، والخصائص اما أساسية، واما غير أساسية، والخصائص الأساسية الباقية، في كل علاقة، وتحت أي شرط هي الكيفية الأساسية الشيء، على عكس الكيفيات غير الأساسية، المميزة للشيء في علاقة محددة. والتغيرات الكيفية في شيء، هي نتيجة تغيرات كمية متراكمة حين تصل الى حد لابد معه من تتحول بعدها الى تغيرات كيفية، والعكس صحيح.
ب. قانون وحدة وصراع الاضداد: الاضداد اتجاهات مختلفة في وظائفها وتطورها، واتجاه مختلف للتغير، فكل منها ارد للآخر، ولكنهما يتعايشان في وحدة تبادل الاعتماد ولا ينفصمان، وبينهما شيء مشترك، فيطابق حدوث عدد من الخصائص، حال قطبي المغناطيس مثلا، والتناقض من حيث تفاعل الاضداد يشمل صراعها ووحدتها مع، ولكن هذين الجانبين من جوهر التناقض ليسا متكافئين، فالصراع يلعب دورا أساسيا، وهو مطلق مثل الحركة التي تسببه، والوحدة – من الناحية الأخرى– نسبية.
ووحدة
الاضداد موقوتة، فهي بعد نشاتها بالصراع، توجد لفترة معينة حتى تنضج الشروط
الملائمة، ثم تنحل. ويجب الانتباه الى ان أي خلاف ليس تناقضا بالضرورة. والتناقض
أنماط نميز منها التناقض الداخلي، والتناقض الخارجي، والتناقض الجوهري، وغير
الجوهري، والتناقض الأساسي، وغير الأساسي.
ج. قانون نفي النفي: النفي الديالكتيكي غير النفي الذي يأخذ به المثاليون، فالنفي الديالكتيكي الجدلي، موضوعي، وهو نفي حالة كيفية معينة وتشكيل حالة جديدة. وهو يرتبط بالتطور، ويشمل أيضا صور النفي الكامنة في التغيرات النكوصية، أو الحركات الدائرية. فهو النفي كلحظة تطور واستبقاء كل ما هو إيجابي. فالظاهرة أو الحالة الكيفية الناشئة حسب هذا القانون بصورة جديدة. تعيد المرحلة التي تم تجاوزها على أساس جديد أكثر رقيا وفي الحالات البسيطة فان تكرار الحالة الكيفية الأصلية، بحدث بعد عمليتي نفي. ولكن في حالات أخرى كحال التحول من الملكية الخاصة إلى الملكية الاشتراكية، يحتاج الأمر إلى ثلاث عمليات نفي حسبما يؤكد تاريخ المجتمع الإنساني.
تنبيه: القوانين الأساسية للديالكتيك لا توجد مستقلة عن القوانين الخاصة،
التي تعمل في مجالات خاصة من الواقع، بل هي توجد معا ومن خلالها، والقوانين الخاصة
محددة بجانب معين من الواقع، وتؤثر في القوانين العامة الأساسية.
ثالثا- ميزات المنهج الجدلي
يتميز المنهج الجدلي من المناهج الأخرى بقوانينه
وشموليته، وباستغراقه تطبيقات المناهج الأخرى، حتى ليكاد المنهج التجريبي يكون
مرحلة أو خطوة من خطوات تطبيقه، على نحو ما هو واضح من خطواته التي سبق ذكرها.
ولأنه كذلك فانه يتميز بعلميته وموضوعيته من جهة،
وبفلسفيته من جهة أخرى والى جانب كونه منهجا يصلح للأبحاث النظرية فانه علمي أيضا،
ولكنه بتهجمه على المنطق الصوري، مع عنايته بالاستدلالات، وعدم إمكانه تجنب
استخدامها، وقع في تناقض لا يخرج عما وضعه لنفسه من مقومات. ولهذا فانه منهج يصلح
البحث في مختلف العلوم، التي تقع خارج نطاق الاستدلال الصوري.
رابعا- تطبيقات المنهج الجدلي القانونية
حسب
الجدلية، فان الدولة والقانون لا يمكن فصل احدهما عن الآخر، فهما ينشآن معا،
ويوجدان دائما معا. والقواعد القانونية، بخلاف القواعد الأخلاقية، لابد أن تصدق
عليها إرادة الدولة، والنشاط الواعي للحكومة.
يطبق
المنهج الجدلي تطبيقا واسعا في العلوم الاجتماعية: في اكتشاف وتفسير النظريات،
والقوانين العلمية، والتنبؤ بها، وفي تفسير الظواهر الاجتماعية بصورة موضوعية
وعلمية. وانه كذلك في مجال العلوم القانونية، ويظهر تأثيره الكبير في دراسة فلسفة
القانون، ونظرية القانون، والقانون الدستوري ونظرية الدولة، والعلوم السياسية، وفي
تأصيل وتفسير السلطة وتحليل وظائفها وعلاقتها بالقانون والحرية، والطبقات
الاجتماعية، والصراع الطبقي، وهو يفعل مثل ذلك في تأصيل وتفسير ظاهرة الثورة،
وعلاقتها بالملكية، والصراع الطبقي، وفي دراسة التغير والحراك الاجتماعيين، وغير
ذلك كثير.
وعلى
هديه بنيت القوانين السوفياتية، وقوانين دول المنظومة الاشتراكية سابقا، والصين،
وكوريا الشمالية وكوبا حتى الآن. مع بعض الدول العربية التي عنيت بتطعيم قوانينها
بالقوانين الاشتراكية، كقانون الإصلاح الزراعي في سورية، مثلا.(2)
المرجع
- د. خدام هجيرة، محاضرات مناهج البحث العلمي، السنة الأولى، ص1-2.
- د. صلاح الدين شروخ، منهجية البحث العلمي، دار العلوم للنشر والتوزيع، الجزائر، ص139-145.