الإرادة المنفردة
العقد
مصدر للإلتزام، بوصفه يقوم على تعبيرين لإرادتين متطابقتين، إلى جانب هذا المصدر
ظهر في القانون الحديث مصدرا آخرا ينشأ الالتزام فيه بإرادة واحدة، أو بمعنى آخر
يصبح الشخص ملتزما من الناحية القانونية (مدينا) دون الحاجة إلى تطابق إرادته مع
إرادة أخرى، ونخصص في هذه الدراسة الإرادة المنفردة على مراحل، الأولى نخصصها
للمرحلة التي اعترف فيها بالإرادة المنفردة كمصدر للإلتزام، حيث كانت محل خلاف
فقهي قبل الأخذ بها من قبل المشرعين، المرحلة الثانية نخصصها لموقف المشرع
الجزائري من الإرادة المنفردة، وتطبيقها في التشريع الجزائري، وذلك في ما يلي:
المبحث الأول: الاعتراف بالإرادة المنفردة كمصدر للالتزام
لقد
ساهم بروز الإرادة المنفردة إلى الوجود في اتساع نطاق الالتزام الإرادي، فبعد أن
كان محصورا في العقد، ظهر مصدر إلى جانبه، مع اختلاف المشرعين في الأخذ به وتحديد
نطاقه، وقبل أن يتبنى القانون الحديث فكرة الإرادة المنفردة، كانت محل انتقاد من
قبل جانب من الفقهاء، الذين لم يستطيعوا تصور التزام لا يقوم على إرادتين، ونلخص
فيما يلي مضمون النظريتين المعارضة للفكرة والمؤيدة لها:
المطلب الأول: النظرية الفرنسية
تقوم
هذه النظرية على عدم الاعتراف بالإرادة المنفردة كمصدر للالتزام، ذلك أن العمل
القانوني الوحيد المنشى للالتزام هو العقد، والذي يبنى على تطابق إرادتين، وهذه
الفكرة ورثها القانون الفرنسي عن القانون الروماني.
ويرى
الفقهاء الفرنسيون أن نظرية الإرادة المنفردة غير قائمة على أساس صحيح، إذ انه قد
يفهم أن يلزم المدين نفسه بإرادته المنفردة، لكن من غير المفهوم كيف يصبح الدائن
متمتعا بهذه الصفة دون إرادته، كما انه إذا كانت للإرادة المنفردة القدرة على
إنشاء الالتزام، فذلك أيضا يجعل لها القدرة على إنهائه بالإرادة المنفردة، وهذا ما
يهدد استقرار معاملات لأنه يجعل بقاء الالتزام مرتبطا بمشيئة الملتزم.
المطلب الثاني: النظرية الألمانية
ذهب
الكثير من فقهاء الألمان إلى وجوب الأخذ بالإرادة المنفردة كمصدر للالتزام، وكان
على رأس هؤلاء الفقيه "سيجل"، وقد نادوا بضرورة جعلها مصدرا عاما
للالتزام، وذلك على أساس أن تقاليد القانون الجرماني تدعم هذه الفكرة، ويذهب
الفقهاء الألمان إلى ابعد من هذا حينما اعتبروا أن العقد في حقيقته يقوم على
التزامين بإرادتين منفردتين، فالإيجاب وحده ملزم دون أن يقترن به قبول.
ولم
تلقى نظرية الإرادة المنفردة كمصدر عام للالتزام، أذانا صاغية في كثير من
التشريعات، حتى القانون الألماني نفسه لم يجعل منها سوى مصدر استثنائي إلى جانب
المصدر العام المتمثل في العقد، وقد اتبعه في هذا الشأن القانون المصري.
مدى وجود الإرادة المنفردة في الفقه الإسلامي:
لعل
الصورة التي تقترب من الالتزام بالإرادة المنفردة (وفق المفهوم القانوني) في إطار
الفقه الإسلامي، هي العهد المقطوع على النفس، حيث يتوجب على المسلم أن يف بما وعد
به فردا أو مجموعة من الأفراد، وفي هذه الصورة نلاحظ بأن الالتزام ينشأ بإرادة من
صدر منه إذ الغالب ألا ينبع هذا التعهد عن اتفاق بين الأطراف، والتعهد الذي يجب
الوفاء به في الفقه الإسلامي يتعين أن تتوفر فيه شروط، ألا يكون متعارضا مع
أحكام الشريعة الإسلامية، والثاني أن تكون
الإرادة حرة عندما التزمت به، والثالث أن يكون العهد واضحا لا لبس فيه كي لا يترك
مجالا للتأويل الذي يثير الخلاف بين
الناس، ونقض العهد منهي عنه في الإسلام.
المبحث الثاني: الإرادة المنفردة في التشريع الجزائري
إن
حديثنا عن الإرادة المنفردة، إنما ينصرف إلى تلك التي يترتب عنها حق شخص أو بمعنى
أوضح التزام، ذلك أن هناك عدة أعمال نابعة عن الإرادة المنفردة ولكنها لا تنشا
التزاما، ومثالها الابراء الذي يعد وسيله لانقضاء الحق الشخصي، وكذلك الإجازة
والتي يترتب عنها تصحيح العقد القابل للإبطال، وكذلك الوصية التي تعتبر تصرفا
بإرادة منفردة يؤدي إلى نشوء حق عيني، أما التصرفات النابعة من الإرادة المنفردة
والتي يترتب عنها نشوء التزام فمن قبيلها الإيجاب الملزم والتطهير.
المطلب الأول: موقف المشرع الجزائري من الإرادة المنفردة
أما
موقف المشرع الجزائري من الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام، فيبدو انه اعتنق
النظرية الألمانية، اعتناقا لا شبهة فيه، إذ اعتبر المشرع الجزائري أن الإرادة
المنفردة هي بمثابة مصدر عام للالتزام، وهذا ما نصت عليه المادة "123
مكرر": "يجوز أن يتم التصرف بالإرادة المنفردة للمتصرف مالم يلزم
الغير" كما قرر المشرع الجزائري، انه
يسري على الإرادة المنفردة ما يسري على العقد من أحكام باستثناء أحكام القبول.
المطلب الثاني: الوعد بالجائزة كتطبيق للإرادة المنفردة
الوعد
بالجائزة الموجه إلى الجمهور، هو تصرف بإرادة منفردة يلتزم فيه الواعد بإعطاء
جائزة قد تكون شيئا له قيمه ماليه كما قد تكون شيئا له قيمه معنوية، وذلك لمن يقوم
بعمل معين، وشروط الوعد بالجائزة وأحكامه تناولها على التفصيل الآتي:
الفرع الأول: شروط الوعد بالجائزة
أولا: شروط الوجود:
1. الإرادة والتعبير عنها: شروط وجود الوعد بالجائزة هي ضرورة وجود إرادة باتة موجهة إلى جمهور، وتنطبق على أهلية الواعد القواعد التي تنطبق على العقد، فإذا كان العمل الذي يقوم به الغير تعود منفعته على الواعد، كانت الأهلية المطلوبة هي ما يتطلب للمعاوضات، ومثال ذلك من يعد الجمهور بإعطاء جائزة لمن يعثر على حلي مفقودة، فهنا نلاحظ بأن العمل الذي يقوم به الغير تعود منفعته على الواعد، أما إذا كان العمل الذي يقوم به الغير تعود منفعته على هذا الغير حصريا، كانت الأهلية الواجبة في الواعد هي أهلية التبرع، كمن يعد الجمهور بإعطاء جائزة لمن يكتشف علاجا لمرض معين.
ويجب
أن يوجه الإعلان إلى أشخاص معينين بصفاتهم لا بذواتهم، لأن تحديد الأشخاص بذواتهم
يجعل من الوعد إيجابا، إذا اقترن به قبول انعقد العقد، ولن أكون حينئذ بصدد وعد
بالجائزة مصدره الإرادة المنفردة، ويجب أن يتم التعبير عن الارادة بصفه علنية تمكن
الجمهور من الاطلاع على الوعد.
ثانيا: المحل:
محل
الوعد بالجائزة هو الجائزة التي يتعهد الواعد بإعطائها لمن يقوم بعمل معين، ويشترط
في الجائزة آن تتوفر فيها شروط المحل من وجوب الإمكان، والتعيين، والمشروعية.
ثالثا: السبب:
سبب
التزام الواعد بمنح الجائزة هو العمل الذي يقوم به الغير، فإذا ثبت عدم وجود هذا
العمل، فإن الوعد يكون باطلا، من قبيل ذلك أن تكون الجائزة مستحقة لمن يحتل مركزا
معينا، مثل من يلتزم بإعطاء جائزة لمن تحوز على لقب ملكه الجمال في منطقة معينه،
ففي هذه الصورة لا نكون بصدد وعد بالجائزة، وإنما قد نكون بصدد عقد الهبة.
الفرع الثاني: أحكام الوعد بالجائزة
تختلف
أحكام الوعد بالجائزة بحسب ما إذا كانت قد حددت مدة يتعين انجاز العمل خلالها من
عدم ذلك، ومنه سوف نعالج هذه الأحكام في الحالتين الآتيتين:
أولا: حالة الوعد محدد المدة:
إذا
كان الواعد قد حدد مدة يتعين انجاز العمل خلالها لاستحقاق الجائزة، فإنه وجب على
الواعد أن يبقى على وعده طيلة هذه المدة، حتى إذا قام أحد الأشخاص بإنجاز العمل
خلالها استحق الجائزة، وقد يحدث أن يقوم أحد الأشخاص بالعمل خلال المدة من باب
الصدفة دون علمه بوجود الوعد، فإن ذلك لا يمنع من استحقاق الجائزة، بل حتى ولو قام
بالعمل قبل الإعلان الوعد بالجائزة، فإنه يصبح مستحقا لها من تاريخ الإعلان.
وإذا
انتهت المدة المحدد دون أن يقوم احد العمل المطلوب، انقضى التزام الواعد، ولا
يلتزم الواعد بتعويض من بدا في العمل خلال المدة اخفق في انجازه خلالها، ويرى
الفقيه "السنهوري" أن من قام بالعمل بعد انتهاء المدة، يستطيع الرجوع
على الواعد لا وفقا للوعد بالجائزة، وإنما وفقا للإثراء بلا سبب.
ثانيا: حالة الوعد غير محدد المدة:
قد
يكون الوعد غير مقيد بمدة معينة، وجب انجاز العمل خلالها، في هذه الحالة يستطيع
الواعد أن يعدل عن وعده، فإذا قام أحد بإنجاز العمل المطلوب قبل العدول فإنه يستحق
الجائزة، أما أذا كان هناك من بدأ في العمل ولم يحققه إلا بعد العدول، أو لم ينتهي
منه بتاتا، فإنه لا يستحق الجائزة، ولكنه يستطيع المطالبة بالتعويض على أساس قواعد
التعسف في استعمال الحق، إذا تحققت حالة من حالاته.
وبالنسبة
للشخص الذي أنجز العمل قبل عدول الواعد، فإن المشرع حدد له مدة للمطالبة بالجائزة،
وهي ستة أشهر من تاريخ العدول، وإلا سقط حقه فيها، انظر المادة "123
مكرر01" من القانون المدني.
أما
بالنسبة للوعد محدد المدة، ولأنه لم يرد في شأنه نص خاص، فإن مدة تقادم الالتزام
الواعد بمنح الجائزة هي 15 سنة، ونفس الأمر ينطبق على حالة الوعد غير محدد المدة
إذا أنجز العمل ولم يكن هناك عدول في جانب الواعد.
- حاله تعدد المستحقين للجائزة: إذا تعدد من قام بالعمل المطلوب فانه وجب التمييز بين حالتين:
الحالة الأولى: إذا قام بالعمل المطلوب عدة أشخاص على انفراد، فإن الجائزة تكون من
حق اسبقهم في الانجاز، فإذا أنجز من طرفهم في وقت واحد وجب تقسيم الجائزة عليهم
بالتساوي.
الحالة الثانية: إذا تعاون عدة أشخاص في انجاز العمل، فإنه وجب تقسيمها بينهم وفقا
لما بذله كل واحد من جهد.
المرجع:
- د. زكريا سرايش، الوجيز في مصادر الالتزام العقد والإرادة المنفردة، دار هومة، الجزائر، ص161-170.