القانون الدولي الاقتصادي (التعريف، الخصائص والمبادئ)
ماهية القانون الدولي الاقتصادي
لقد
تطورت القاعدة القانونية المنضمة للعلاقات بين أعضاء المجتمع الدولي بشكل سريع،
فلم يعد القانون الدولي مجرد قانون للتعايش بين الدول فحسب، بل أصبح قانون غايات
يؤطر السياسات الاقتصادية، فأصبحت قواعد القانون الدولي الاقتصادي تشكل الجزء
الأكبر من قواعد القانون الدولي.
ان
دراسة ماهية القانون الدولي الاقتصادي تقتضي منّا دراسة تعريف هذا الفرع من
القانون، وإبراز علاقته ببعض الفروع الاخرى (المطلب الأول)، ثم إبراز أهم خصائصه
وتحديد معايير نطاق تطبيقه (المطلب الثاني)، وصولا الى اظهار المبادئ التي يقوم
عليها هذا القانون (المطلب الثالث).
المبحث الأول: تعريف القانون الدولي الاقتصادي وعلاقته بفروع القانون الأخرى
سنحاول
البحث في تعريف القانون الدولي الاقتصادي (الفرع الأول)، ثم تبيان علاقته ببعض فروع
القانون الأخرى (الفرع الثاني).
المطلب الأول: تعريف القانون الدولي الاقتصادي
ظهرت
عدة محاولات لتعريف القانون الدولي الاقتصادي الا أنّها تنصب كلّها في صنفين:
التعريف الموسّع والتعريف الضيّق.
الفرع الأول: التعريف الموسّع
يرى
أصحاب المنهج الموسع أن القانون الدولي الاقتصادي هو:"قانون المعاملات
الدولية الاقتصادية" لذلك فإن هذا التعريف يجعل من القانون الدولي الاقتصادي
يتضمّن جميع المعاملات الاقتصادية التي تتعدى حدود الدولة الواحدة مهما كان
أطرافها.
كما
عرّفه الأستاذ Paul
Reuter
بأنّه: "جزء من القانون الدولي الذّي يهدف الى تنظيم الجوانب القانونية
الخاصة بالإنتاج والاستهلاك وتداول الثروات".
الفرع الثاني: التعريف الضيّق
يعرّف
القانون الدولي الاقتصادي بأنّه: "أحد فروع القانون الدولي الذي ينظم من
ناحية انتقال عناصر الانتاج المختلفة ذات المصدر الخارجي الى أقاليم الدول، ومن
ناحية أخرى المعاملات الدولية الواردة على الممتلكات والخدمات ورؤوس الاموال".
رغم
أن هذا التعريف نجح في تحديد المواضيع التي تدخل في نطاق القانون الدولي
الاقتصادي، الا أن ما يعاب عليه هو عدم تحديده لأشخاص هذا القانون، حيث -حسب هذا
التعريف- تدخل ضمن نطاق هذا القانون انتقال عناصر الانتاج التي يقوم بها الافراد،
وهذا غير صحيح لأن هذه الأخيرة تدخل في نطاق القانون الدولي الخاص الذّي يهتم
بالعلاقات الاقتصادية الدولية الخاصة.
المطلب الثاني: علاقة القانون الدولي الاقتصادي ببعض فروع القانون
سنبرز
فيما يلي علاقة القانون الدولي الاقتصادي ببعض فروع القانون:
الفرع الأول: علاقته بالقانون الدولي العام
يعتبر
القانون الدولي الاقتصادي فرع من فروع القانون الدولي العام، لذلك نجد عدة مبادئ
في هذا الاخير كان مصدرها العلاقات التجارية الدولية، فقاعدة الحد الادنى لمعاملة
المواطنين في الخارج مستمدة من الاتفاقيات المتعلقة بمعاملة التجار الاجانب، اضافة
الى مبدأ حسن الجوار الذي ورد في ميثاق الامم المتحدة بشكل غير واضح، ترجم في نصوص
واضحة في القانون الدولي الاقتصادي بالخصوص في اتفاقية الجات.
الا
أن هذان الفرعان يختلفان في كون القانون الدولي العام ذو طبيعة حمائية، ويقوم على
مبدأ المساواة بين الدول، أما القانون الدولي الاقتصادي فهو يقوم على تحقيق
الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للدول، ولا يعترف بفكرة المساواة بينها.
الفرع الثاني: علاقته بالقانون الدولي الخاص
يلتقي
القانون الدولي الاقتصادي مع القانون الدولي الخاص في عدة مواضيع كوضعية الاجانب
والشركات متعددة الجنسيات والاستثمارات الدولية والعقود الدولية، الا ان تزايد
تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية عن طريق التوجيه والتخطيط أدى الى اتساع نطاق
القانون الدولي الاقتصادي، وانكماش نطاق القانون الدولي الخاص، اذ أصبحت عدة
مواضيع كانت تدرس في نطاق هذا الاخير، تدخل في نطاق القانون الدولي الاقتصادي.
الا
انّهما يختلفان في كون قواعد القانون الدولي الخاص يتضمن قواعد موضوعية اضافة الى
قواعد الاسناد التي تحدد القانون الاكثر ملاءمة لحكم العلاقات الدولية ذات العنصر
الاجنبي، في حين لا نجد في القانون الدولي الاقتصادي سوى القواعد الموضوعية.
المبحث الثاني: أهم خصائص القانون الدولي الاقتصادي ومعايير تحديد نطاق تطبيقه
سنقوم
في هذا المطلب بدراسة أهم الخصائص التي يتميز بها القانون الدولي الاقتصادي (الفرع
الأول)، ثم سنحاول البحث في معايير تحديد نطاق القانون الدولي الاقتصادي (الفرع
الثاني).
المطلب الأول: أهم خصائص القانون الدولي الاقتصادي
تتميز
قواعد القانون الدولي الاقتصادي بكونها قواعد واقعية ومرنة (أولا)، كما أنّها
قواعد تخلّت عن فكرة المساواة المطلقة بين الدول (ثانيا)، وتتميّز بجزاء من نوع
خاص (ثالثا).
الفرع الأول: مرونة وواقعية قواعد القانون الدولي الاقتصادي
ان
مرونة وواقعية قواعد القانون الدولي الاقتصادي تتجسد في مصادرها اذ أنّها قواعد
تخلّت عن الشكليات التقليدية المعروفة في خلق القاعدة القانونية، فالعرف مثلا
يتطلب وقتا كبيرا لكي يشكل لنا قاعدة قانونية، وهذا ما لا يتناسب مع سرعة تطور
العلاقات الاقتصادية، كما أن المعاهدات الدولية تأخذ وقتا وتتطلب شكليات معيّنة
تستغرق وقتا كبيرا، لذلك نجد بعض قواعد القانون الدولي الاقتصادي كان مصدرها مجرد
برقيات تتبادلها البنوك المركزية للدول لتوقيع اتفاقيات مقايضة، كما ظهرت قواعد
قانونية كان مصدرها اتفاق بين الشركات عبر الوطنية، اضافة الى ظهور مصادر مستحدثة
في هذ المجال كقرارات المنظمات الدولية الاقتصادية، والتي أصبحت تلعب دورا كبيرا
في تكوين قواعد هذا القانون.
كما
تتجسد مرونة وواقعية هذه القواعد في اعتماد الاطراف في وضعها وفي تطبيقها على مبدأ
التشاور المستمر، إذ نجد مثلا الاتفاقية المنشئة لمنظمة التعاون والتنمية
الاقتصادية.
الفرع الثاني: التخلي عن مبدأ المساواة المطلقة بين الدول
ترتكز
أغلب مؤسسات القانون الدولي على مبدأ المساواة بين الدول والذي يترجم الى قاعدة
لكل دولة صوت واحد خلال عمليات التصويت، الا ان هذا المبدأ لا يتناسب مع طبيعة
العلاقات الاقتصادية الدولية، لذلك نجد أن
القوة الاقتصادية للدولة هي التي تحدد مركز الدولة ومكانتها في المؤسسات
الاقتصادية الدولية، وهذا ما يتجسد من خلال الاخذ بفكرة الصوت الموزون الذّي
بموجبه تتمتع كل دولة بعدد من الأصوات يتناسب مع قوتها الاقتصادية، وحجم مساهمتها
في المنظمة الاقتصادية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير،
وكلّما كانت مساهمة الدولة أقل كلّما قلّت قوتها التصويتية.
الفرع الثالث: خصوصية الجزاء في القانون الدولي الاقتصادي
ان
قواعد القانون الدولي الاقتصادي ليس لها نظرة نزاعية، لذلك لا تهتم بمن يخالف
قواعدها بقدر ما تهتم باستمرار روح التعاون بين الأطراف الذين اختلفوا مؤقتان ممّا
جعل الجزاء لا يتعدى شكل الضغط السيكولوجي في البداية ثم الضغط الاقتصادي في مرحلة
لاحقة، فالجزاء في القانون الدولي الاقتصادي حسب الأستاذ REUTER لا يتعدى الجزاء الذّي تفرضه الكنيسة على من
ارتكب معصية، حيث يعاقب بالفصل أو المقاطعة،
فتعاقب الدول في إطار المنظمات الدولية الاقتصادية بالتوقيف المؤقت أو
الفصل النهائي منها، كما هو الحال في المنضمة العالمية للتجارة.
كما
نصت الاتفاقية المنشأة لصندوق النقد الدولي على حرمان الدولة العضو من الاستفادة
من مزايا العضوية، كالحرمان من المساعدات والخدمات التي يقدمها الصندوق.
ان
تغليب أسلوب التشاور بين أطراف القانون الدولي الاقتصادي، أدى الى تجسيد طرق بديلة
لحل النزاعات بينها كالوساطة والتوفيق والتحكيم الدولي، وعادة ما يتم الفصل في هذه
النزاعات دون اللّجوء الى القضاء، مما جعل من الجزاء في القانون الدولي الاقتصادي
يختلف عن الجزاء التقليدي الذي يهدف الى ردع ومعاقبة كل من يخالف القاعدة
القانونية.
المطلب الثاني: معايير تحديد نطاق القانون الدولي الاقتصادي
يقصد
بذلك البحث عن ضابط أو ضوابط لتحديد ما يدخل في نطاق القانون الدولي الاقتصادي وما
يخرج عن نطاقه، إذ تطبق أحكام القانون الدولي الاقتصادي إذا كانت العلاقة
القانونية دولية، وهو ما يتحقق بإعمال ضابطين:
الفرع الأول: الضابط الشخصي للدولية
ومضمونه
أن يتمتع أطراف العلاقة القانونية بالشخصية القانونية الدولية كالدول والمنضمات
الدولية، وبالتالي يجب البحث وفق هذا الضابط في اشخاص العلاقة القانونية، فإذا
كانت من أشخاص القانون الدولي الاقتصادي كانت العلاقة من مواضيع القانون الدولي
الاقتصادي، أما إذا لم تكن من أطراف القانون الدولي الاقتصادي فلا تدخل ضمن مواضيع
هذا الأخير.
الفرع الثاني: الضابط الاقتصادي للدولية
ويقصد
به أن تكون العلاقة القانونية علاقة اقتصادية، فلا يدخل ضمن نطاق القانون الدولي
الاقتصادي كل العلاقات غير الاقتصادية كالعلاقات السياسية والرياضية والثقافية.
ان
غالبية فقهاء القانون الدولي الاقتصادي يذهبون الى ضرورة تطبيق الضابطين معا
لكونها يكملان بعضهما، اذ نأخذ بالمعيار الشخصي بداية حتى نتأكد من أن أطراف
العلاقة القانونية هم أشخاص القانون الدولي الاقتصادي، ثم نلجأ بعد ذلك الى البحث
في طبيعة العلاقة القانونية ما ام كانت اقتصادية ام لا.
المبحث الثالث: أهم المبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي الاقتصادي
يقوم
القانون الدولي الاقتصادي على عدة مبادئ الا أننا سنحاول التركيز على أهمها، كمبدأ
القوّة الاقتصادية السياسية (المطلب الأول)، ومبدأ التنسيق (المطلب الثاني)، ومبدأ
المعاملة بالمثل (المطلب الثالث).
المطلب الأول: مبدأ القوة الاقتصادية السياسية
يتأثر
كل نظام اقتصادي وطني بالواقع الاقتصادي والسياسي للدولة -قوّة أو ضعفا- لذلك نجد
أن قواعد القانون الدولي الاقتصادي تتحدد وفقا لقوة أطراف العلاقات الاقتصادية
التي ينظمها، مما جعل من قواعد القانون الدولي الاقتصادي تظهر متوازنة ومحايدة في
الفترات التي تنتشر روابط التعاون بين الدول وفي أوقات السلم، في حين تظهر قواعده
منحازة لمصلحة الأقوياء كلّما انتشرت أفكار السيطرة والاستعمار بكل أشكاله، لذلك
يتأكد تأثير القوى السياسية الاقتصادية الدولية على قواعد القانون الدولي
الاقتصادي.
المطلب الثاني مبدأ التنسيق
يقوم
القانون الدولي الاقتصادي على التعاون والتنسيق بين الدول خاصة في الظروف
الاستثنائية، فالمصلحة الاقتصادية المشتركة بين الدول هي التي فرضت ضرورة التعاون
بينها، فلا يمكن لأية دولة أن تستغني عن باقي الدول مهما كانت قوتها الاقتصادية،
وهذا كنتيجة لفكرة تقسيم العمل بين الدول، ولعل الامثلة كثيرة ولا يمكن حصرها،
وسنسرد مثالين عن التنسيق والتعاون بين الدول، الأول يتعلق بترتيبات اصدار القمح
من الصوامع البريطانية بين دولة الصين من جهة وبريطانيا من جهة أخرى، وكان ذلك في
القرن السادس ميلادي، أما الثاني فيتعلق باتفاقيات شبكات الكهرباء بين عدة دول،
والتي تهدف الى الامداد بالطاقة الكهربائية واستخدامها.
المطلب الثالث مبدأ المعاملة بالمثل
تقوم
العلاقات الاقتصادية الدولية أساسا على فكرة الاخذ والعطاء بين الدول في الروابط
المادية، لذلك فقد تم التغلب في ضل القانون الدولي الاقتصادي على سلبيات العيش في
ظل مجتمع منفرد لا يخضع لسلطة عليا مشتركة بين الدول، اذ ان المصالح الاقتصادية المتبادلة
بين الدول جعلها تقتنع بأنّه لا بديل عن التعاون فيما بينها في إطار المعاملة
بالمثل، وصولا الى تحقيق الاهداف المشتركة فيما بينها.
وعادة
ما يتم تكريس مبدأ المعاملة بالمثل عن طريق الاتفاقيات الثنائية ومثال ذلك
الاتفاقيات الثنائية المتعلقة بالاعتراف بالأحكام الأجنبية أو بقرارات التحكيم، أو
تلك الاتفاقيات التي تتعلق بالازدواج الضريبي أو بمعاملة الاستثمارات الأجنبية.
المرجع:
- د. عسالي عبد الكريم، محاضرات في القانون الدولي الاقتصادي، لطلبة ماستر 1 -تخصص القانون العام للأعمال والقانون العقاري، جامعة عبد الرحمان ميرة -بجاية-، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم قانون أعمال، السنة الجامعية: 2015-2016، الجزائر، ص2 إلى ص12.