صندوق النقد الدولي
نتيجة
للفوضى التي سادت نظام النقدي الدولي قبل وخلال الحرب العالمية الثانية فقاد اندفعت
الدول إلى البحث عن نظام نقدي جديد يحقق لها أهدافها والمتمثلة في خلق تجارة دولية
متعددة الأطراف وثبات أسعار الصرف وإمكانية التحويل بين العملات... على أن تحقق
هاذه الأهداف دون العودة إلى نظام الذهب على أن يتمتع هذا النظام الجديد بمرونة
كافية فيكون بمقدور هذه الدول بإتباع السياسة النقدية الملائمة لظروفها الاقتصادية
في الداخل وبالتالي فقد أجمعت الدول على الدول تسليم أمرها لمنظمة دولية تأخذ على
عاتقها مهمة الإشراف على النظام النقدي الدولي ككل، وكان ذلك من خلال انعقاد مؤتمر
بريتون وودز في العام 1944م والذي انبثق عنه مشروع تأسيس صندوق النقد الدولي.
المبحـث الأول: ظهور صنـدوق النقـد الدولـي
في
مؤتمر بريتون وودز والذي عقد في العام 1944م في مدينة نيوهامشير في الولايات
المتحدة الأمريكية وذلك من اجل مناقشة وبحث السلوك النقدي الذي يتعين على دول
العالم الامتثال له في الفترة المقبلة وكذا ضرورة الاتفاق على نظام نقدي جديد يوفر
حرية التجارة ويمد الدول الأعضاء بالسيولة الكافية، عرض في هذا المؤتمر أهم مقترحين
وهما لكل من اللورد كينز الانجليزي وهاري هوايت الأمريكي من أجل تحقيق الأهداف
التي عقد المؤتمر من أجله وفيما يلي نستعرض أهم النقاط التي تعرض إليها كل من هذين
المقترحين.
المطلـب الأول: مشـروع كيـنز
وقد
ذهب كينز في مشروعه إلى أن إدارة وضبط النظام العالمي الجديد تتطلب تكوين مؤسسة
دولية ذات طابع مركزي عالمي، ويكون لكل دولة مشتركة بها حصة تحدد مسؤولياتها في
إدارة شؤون هذه المؤسسة، وقد قصد كينز بذلك إنشاء إتحاد للمقاصة الدولية تكون
مهمته البنك المركزي في النظام النقدي المحلي، مع ترك الحرية لكل دولة عضو في تحديد
سياستها بما يتناسب بما يتناسب وظروفها.
كما
تضمن مشروع كينز اقتراح قيام هذه المؤسسة الدولية المقصودة بمنح القروض إلى الدول
الأعضاء على غرار ما تقوم به البنوك التجارية عند تقديم القروض لعملائها، أن يتم
منح هذه القروض حسب أهمية كل دولة في التجارة الخارجية.
واقترح
كينز أن تتكون النقود في هذه المؤسسة من وحدات أطلق علبها اسم بانكور وهي عبارة عن
وحدة نقدية حسابية قياسية تستخدم في تسوية المدفوعات بحيث ترتبط قيمتها بالذهب،
وترتبط العملات بوزن معين من الذهب وقد أعطى هذا النظام مرونة كبيرة من حيث زيادة
السيولة في حال ارتفعت الأسعار العالمية كما أن كمية النقد الدولي تتحدد ليس على
أساس احتياط الذهب وإنما على أساس التجارة الدولية.
كما
وقد اقترح كينز فرض عقوبات على الدول الأعضاء التي تتمتع بفوائض في موازين
مدفوعاتها وكذلك على الدول التي تعاني من عجز في موازين مدفوعاتها وكذا أن تعمل
هذه المؤسسة الدولية على تقديم النصح والمشورة للدول الأعضاء.
وفي
الواقع فإن هذا المشروع كان يحاول إلغاء دائنية ومديونية الدول اتجاه بعضها البعض
بحيث تصبح مع اتحاد المقاصة الدولي وهو في الواقع كان يدافع عن مصلحة بريطانيا.
المطلـب الثـاني: مشـروع هـاري هـوايت
أما مشروع هاري هوايت فلم يكن يستهدف إيجاد سلطة
دولية نقدية تحل محل السلطات النقدية المحلية، بل تصور إمكانية التعاون بين هذه
السلطات. وكان جوهر اقتراحه يتلخص في أن نظام النقد الدولي الجديد يجب أن يستهدف
العمل على استقرار أسعار الصرف ومحاربة مختلف أشكال القيود على المدفوعات الخارجية
التي تحد من حرية التجارة وحرية انتقال رؤوس الأموال والتخفيضات المستمرة في
العملة.
وقد
اقترح لذلك تكوين صندوق دولي لتثبيت قيمة العملات للدول الأعضاء المشتركة فيه
واقترح أن تكون وحدة التعامل الدولي هي اليونيتاس والتي ترتبط قيمتها بوزن معين من
الذهب وعلى الدول أن تحدد قيمة عملتها بالذهب أو اليونيتاس وليس لها الحق في تغيير
هذه القيمة إلا بعد موافقة أربعة أخماس أصوات الدول الأعضاء في الصندوق.
وتودع
الدول الأعضاء حصصا تتكون جزئيا من الذهب ومن عملاتها المحلية وبعض أذون الحكومات،
كما اقترح هوايت أن يكون حجم الحصة لأي دولة على أساس دخلها القومي وما في حوزتها
من ذهب وعملات أجنبية، واقتراح كهذا إنما يعبر عن مصالح الولايات المتحدة
الأمريكية التي كانت تملك آنذاك أكبر كمية من الذهب وتنتج أعلى دخل في العالم.
المبحـث الثـاني: تعـريف صنـدوق النقـد الدولـي والهيكـل التنظيـمي له
بعدما
تطرقنا فيما سبق إلى مؤتمر بريتون وودز وفكرة إنشاء صندوق النقد الدولي سنحاول
فيما يلي التعرض إلى تعريف صندوق النقد الدولي وكذا الهيكل التنظيمي لهذه المؤسسة
الدولية.
المطلـب الأول: تعريـف صنـدوق النقـد الدولـي
صندوق
النقد الدولي هو وكالة متخصصة من وكالات منظمة الأمم المتحدة والذي نشأ بموجب
معاهدة دولية في العالم 1945 للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي و يقع مقر
الصندوق في واشنطن العاصمة و يديره أعضاءه الذين يمثلون جميع بلدان العالم تقريبا
بعددهم البالغ 184 دولة و قد بدأ نشاطه الفعلي في مارس 1947.
ولا
يشترط للعضوية فيه أن تكون الدولة عضوا في منظمة الأمم المتحدة ويضم الصندوق
للأعضاء الأصليين وهي الدول التي حضرت مؤتمر بريتون وودز والتي أودعت الوثائق
الخاصة بالانضمام حتى آخر ديسمبر من العام 1946، أما الدول التي انضمت بعد ديسمبر
1946، فلا تعتبر أعضاء أصليين وقد صدر قبول عضويتها قرارات من قبل مجلس محافظي
الصندوق ولا يوجد فرق في الحقوق والالتزامات بين كل من الأعضاء الأصليين و الأعضاء
الجدد و لكل دولة الحق في الانسحاب من الصندوق و ذلك بعد إبلاغه أو إذا ما عجز أحد
الأعضاء عن الوفاء بالتزاماته المحددة في اتفاق فإنه يمكن أن يحرم من الحقوق في
السحب من موارد الصندوق أما إذا استمر عجزه بعد فترة معينة فإنه يرجى منه الانسحاب
من الصندوق.
ويمثل
صندوق النقد الدولي إحدى مؤسسات النظام الاقتصادي العالمي وهو يفوق بذلك البنك
العالمي للإنشاء والتعمير في الأهمية و يرجع السبب في ذلك أن صندوق النقد الدولي
قد عهد إليه بأخطر مهمة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهي العمل على
استقرار أسعار الصرف وحرية تمويل العملات فضلا على أنه ظل لفترة غير قصيرة معنيا
بأمور الدول المتقدمة، في حين كان البنك الدولي منشغلا بأمور الدول النامية وهي
أقل على المستوى الإستراتيجي.
المطلـب الثـاني: الهيكـل التنظيـمي لصنـدوق النقـد الدولـي
صندوق
النقد الدولي مسؤول أمام بلدانه الأعضاء وهي مسؤولية تمثل عنصرا لتحقيق فعاليته، و
يتولى القيام بأعمال الصندوق أربعة أجهزة و هي:
الـفـرع الأول: مجلـس المحـافظيـن
يضم
مجلس المحافظين ممثلين لكل البلدان الأعضاء وهو صاحب السلطة العليا في إدارة صندوق
النقد الدولي ويقوم كل بلد عضو بتعيين
محافظ له عادة ما يكون وزير المالية أو محافظ البنك المركزي في ذلك البلد و كذا
محافظ مناوب له و يبت مجلس المحافظين في قضايا السياسات الكبرى، و لكنه يفوض
المجلس التنفيذي في اتخاذ القرارات المتعلقة بأعمال الصندوق اليومية.
ويتمتع
مجلس المحافظين بكافة السلطات اللازمة للإشراف على كافة شؤون الصندوق ومن بين هذه
السلطات، قبول الأعضاء الجدد، مراجعة الحصص وتعديل قيمة العملات والتعاون مع
المنظمات الأخرى و توزيع صافي الدخل ومطالبة عضو بالانسحاب و تصفية الصندوق و كذا
النظر في الاستخدامات... و يجتمع المجلس مرة كل سنة و قد جرت العادة أن تكون
الاجتماعات مجلس محافظين البنك الدولي للإنشاء و التعمير وكذلك وكالة التمويل
الدولية وهيئة التنمية الدولية.
الفـرع الثـاني: المجلـس التنفيـذي
ويتألف
المجلس التنفيذي من 24 مديرا ويرأسه المدير العام للصندوق و يجتمع المجلس التنفيذي
عادة ثلاث مرات في الأسبوع في جلسات تستغرق كل منها يوما كاملا، ويمكن عقد
اجتماعات إضافية إذا لزم الأمر و ذلك في مقر الصندوق في واشنطن العاصمة وتخصص
مقاعد مستقلة في المجلس التنفيذي للبلدان المساهمة الخمسة الكبرى وهي الولايات
المتحدة الأمريكية و اليابان و ألمانيا و فرنسا و المملكة المتحدة، إلى جانب كل من
الصين و روسيا والمملكة العربية السعودية، أما المديرون الستة عشر الآخرون فيتولى
انتخابهم مجموعات من البلدان تعرف بإسم الدوائر الانتخابية ( Constituencies) لفترات مدتها عامين.
ويختص
هذا المجلس بتسيير أعمال الصندوق وإدارة شؤونه اليومية وله كل الصلاحيات في هذا
الصدد ما عدا تلك التي تدخل صراحة في اختصاص مجلس المحافظين، كما يقوم كل مدير
بتعيين كاتب له يمارس كافة سلطاته في حالة غيابه ويجب على المدير التنفيذي أو
نائبه أن يكون متواجدا في المقر الرئيسي للصندوق و أن يخصص كل وقته و اهتمامه
لأعمال الصندوق.
ويقوم
موظفو صندوق النقد الدولي بإعداد معظم الوثائق التي تمثل الأساس لمداولات المجلس
التنفيذي وهو ما يتم في بعض الأحيان بالتعاون مع البنك الدولي وتقدم الوثائق بعد
موافقة إدارة الصندوق عليها، وإن كان هناك وثائق يقدمها المديرون التنفيذيون
أنفسهم.
وعلى
عكس بعض المنظمات الدولية الأخرى التي تعمل على أساس تمتع كل بلد بصوت واحد مثل
الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن صندوق النقد الدولي يطبق نظاما للتصويت المرجح،
فكلما زادت حصة بلد عضو في الصندوق، كان عدد أصواته أكبر، غير أن المجلس التنفيذي
نادرا ما يتخذ القرارات بالتصويت الرسمي وإنما يتخذ معظم قراراته استنادا إلى
توافق الآراء بين أعضاءه و يجري تأييد هذه القرارات بالإجماع.
الفـرع الثـالث: مديـر الصنـدوق
ويتم
انتخابه بمعرفة المديرين التنفيذيين، وهو بحكم منصبه يعتبر رئيس هيئة الموظفين
بالصندوق و ذلك بنص اتفاق الصندوق وهو الذي يرأس المجلس التنفيذي و لكنه لا يملك
صوتا فيه و ذلك فيما عدا التصويت المرجح في حالة انقسام عدد الأصوات داخل المجلس
ومدة عقده خمس سنوات قابلة للتجديد، وعادة ما يتم تعيين مديرا للصندوق رجل ذو خبرة
واسعة في مجال النقد و الائتمان و المال و يساعده في عمله نائب أو نائبان آخران.
الفـرع الـرابع: هيئـة موظفـي الصنـدوق
بحيث
يقوم مدير الصندوق بتعيين مجموعة منتقاة من الموظفين الفنيين يكونون الهيئة
العاملة بالصندوق ويراعي في انتقاءهم أقصى درجات الكفاءة والتخصيص الفني مع توسيع
القاعدة التي يختار من بين مواطنيها هؤلاء الموظفين إلى أكبر حد ممكن و يتعين أن
يقر عضو هيئة موظفي الصندوق عند تعيينه أنه لن يقبل أية تعليمات فيما يتعلق
بممارسة واجباته في الصندوق من أية حكومة أو سلطة خارجية عن الصندوق.
أي
أن العاملين في صندوق النقد الدولي موظفون مدنيون دوليون مسؤولون أمام الصندوق و
ليس أمام سلطاتهم الوطنية، و يعمل بالصندوق حوالي 2800 موظف ينتمون إلى 133 بلد
ويشكل الاقتصاديون ثلثي الموظفين الفنيين في الصندوق تقريبا ويضم الصندوق 22 إدارة
و مكتبا يرأسها مديرون مسؤولون أمام المدير العام.
و
يتمتع محافظو الصندوق و مديروه و مديروه التنفيذيون و نائبوهم وأعضاء هيئة
الموظفين بعدد من الحصانات والامتيازات التي نص عليها اتفاق الصندوق، وبصفة خاصة
فإنهم محصنون ضد المسائلة القضائية عن الأعمال التي قاموا بها بصفتهم الرسمية وذلك
إذا لم يرفع الصندوق عنهم هذه الحصانة، كما أنه لا تفرض ضرائب على المرتبات التي
يصرفها الصندوق للمديرين التنفيذيين ونائبيهم وأعضاء هيئته من غير المواطنين
المحليين.
المرجع:
- د. عسالي عبد الكريم، محاضرات في القانون الدولي الاقتصادي، لطلبة ماستر 1 -تخصص القانون العام للأعمال والقانون العقاري، جامعة عبد الرحمان ميرة -بجاية-، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم قانون أعمال، السنة الجامعية: 2015-2016، الجزائر، ص13 إلى ص22.