مفهوم الحق
الحق
مصطلح شائع بين العامة والخاصة بشكل جعل البعض يخال أنه لا حاجة لوضع تعريف له٬
غير أن الفقه القانوني قد اختلف اختلافا واسعا في تعريفه٬ حتى وصل بعضهم إلى
التقرير باستحالة الوصول إلى هذه الغاية٬ بل إن فريقا منهم أنكر وجوده تماما٬
ويأتي على رأس هؤلاء الفقيه (Léon Duguit)
الذي ينسب إليه مذهب التضامن الاجتماعي وكذا الفقيه النمساوي (كلسن).
ولعل
منشأ الخلاف حول تعريف الحق هو اختلاف آراء الفقهاء حول ما يعتبر عنصرا جوهريا له٬
حيث ظهرت في هذا الصدد مذاهب متعددة اقتصرت معظمها على التركيز على أحد جوانب فكرة
الحق دون أن تعن بتحليلها وإبراز عناصرها المختلفة٬ ويمكن رد هذه المذاهب إلى
ثلاثة تتمثل في:
- المذهب الشخصي: الذي عرف الحق بالرجوع إلى صاحبه.
- المذهب الموضوعي: الذي عرف الحق بالنظر إلى موضوعه.
- المذهب المختلط: الذي حاول فيه أصحابه التوفيق بين المذهبين
المتقدمين.
وثمة
مذهب حديث في تعريف الحق حاول تلافي ما وجه من انتقادات للنظريات التقليدية ينسب إلى الفقيه البلجيكي جان دابان (Jean Dabin)٬ حيث ركز فيه على عنصري
الاستئثار والتسلط٬ لذا سنتناول هذه المذاهب ببيان مضمونها مع تقديرها على النحو
الآتي:
المطلب الأول: تعريف الحق وفقا للمذهب الشخصي
الفرع الأول: المقصود بالحق
يتزعم
هذا المذهب الفقه الألماني ويمثله كل من
الفقيه (سافينيSavigny ) والفقيه (وندشايد Windsheid)
والفقيه (Gierke) وهو ينظر إلى الحق من
زاوية شخص صاحبه حيث يعتبرونه صفة تلحق هذا الأخير٬ ولهذا سمي بالمذهب
الشخصي٬ وعلى هذا الأساس يعرف الحق بأنه:
((قدرة إرادية يتسلط بها الشخص على أعمال الغير بموافق السلطات العامة ومساعدتها))
اوبتعبير آخر هو٬ (( قدرة أو سلطة إرادية يخولها القانون للشخص تمكنه من القيام
بعمل معين)).
يتضح
من خلال تحليل التعريفين المتقدمين أن للحق عنصران:
الأول: أنه لا يمكن تصور وجود الحق من غير وجود شخص صاحب إرادة
يستحقه من جهة ويباشر من جهة أخرى: الحق عند أنصار المذهب الشخصي عبارة عن صفة
تلحق الشخص٬ و تجعله قادرا على القيام بعمل معين٬ وبالتالي فإن إرادة هذا الأخير
تكون لها كلمة الفصل في إنشاء الحق أو تعديله أو زواله أو مباشرته٬ بمعنى أن الشخص
الذي لا يريد لا ينشئ له حق ولا ينتقل إليه٬
أي أن القانون لا يفرد حقا على شخص لا يريده.
الثاني: عدم وجود الحرقة إلا إذا أراد شخص في حدود القانون: ومعنى هذا إن الحق قدرة يستمدها الشخص
من القانون٬ فهذا الأخير هو الذي يحدد
شروط التمتع بأي حق من الحقوق.
بعبارة
أخرى أن تعريف المذهب الشخصي للحق يعني أن الشخص إذا أراد وكانت إرادته متفقة
ومنسجمة مع القانون فإنه يصبح صاحب حق٬ وذلك أنه لا وجود للحق إلا إذا أراده الشخص
في حدود القانون.
الفرع الثاني: الانتقادات الموجهة للمذهب الشخصي
تعرض
المذهب الشخصي بين الحق والشخص صاحبه لانتقادات كثيرة من لدن شرح القانون وفقهائه لاسيما منهم
أنصار المذهب الموضوعي لعل من
أبرزها:
01. لا يمكن ربط التمتع بالحق دائما بوجود الإرادة
يلاحظ
أن كافة التشريعات الوضعية والشرائع السماوية تقرّ بثبوت الحقوق للكثير من الأشخاص
رغم عدم توفر الإرادة لديهم٬ على غرار الصبي غير المميز والمجنون والمعتوه٬ فهؤلاء
ليست لديهم قدرة إرادية يعتدّ بها القانون٬ كما تثبت الحقوق للشّخص الغائب حتى ولو
لم يكن عالما باكتسابها٬ وتثبت أيضا للحمل المستكنّ وهو غير ذي إرادة قطعا٬
وبالتالي لا يمكن ربط التمتع بالحق بإرادة صاحبه٬ لأنّ هذا يؤدي إلى نفي أي حقّ
لمن لا إرادة له.
وقد
ردّ أصحاب هذا المذهب على هذا النقد بالقول أن القانون يعوض انعدام الإرادة عند هؤلاء بواسطة نائبهم القانوني وليا كان أو وصيا أو
مقدما٬ غير أنّه لا يمكن التّسليم بهذا أيضا لأنه لو تصورنا أحد هؤلاء عديمي الإرادة من غير نائب
فمعنى هذا أنّه لا تثبت له إي حقوق٬ وكذلك لو تصورنا له نائبا لأمكن القول أنّ النائب هو
صاحب الحق٬ إن سلمنا في الحالين بأنّ جوهر
الحق هو الإرادة٬ إذ المعتد به في هذه الحالة إرادة النائب وليس عديم الإرادة.
02. إمكان ثبوت الحق دون تدخل الإرادة رغم وجودها
إن
القول بأنّ الحق قدرة إرادية يستلزم التّسليم بأنّ إرادة الشخص تتدخل في ثبوت الحق
له وهذا غير صحيح مطلقا لأن ثمّة الكثير من الحالات الّتي تثبت فيها الحقوق لشخص
دون إن تتدخل إرادته رغم تمتّعه بالقدرة الإرادية الكاملة ومن أمثله ذلك نذكر:
- الحق
في الميراث والحق في الوصية اللّذان يثبتان لكلّ من الوارث والموصى له دون إرادة
منهما٬ بوفاة المورث أو الموصي (المادتان 127 و 184 من قانون الأسرة الجزائري).
- الحق
في الحياة التي يثبت للإنسان بمجرد ميلاده دون أن يكون إرادته دخل في ذلك.
- حق
المضرور في مطالبه مسبب الضرر بالتعويض عما لحقه من ضرر٬ الذي يثبت له طبقا لأحكام
العمل غير المشروع دون أن تكون لإرادته دخل في ثبوته.
- كما
أن ثمّة حقوقا تثبت للشّخص حتى وإن رغب عنها كالحق المخوّل للأب في تأديب أولاده٬
فهو ثابت له و لا يمكنه التّنازل عنه.
03. إمكان ثبوت الحق للشخص المعنوي
إن
اعتبار الحق سلطة أو قدرة إرادية من شأنه أن يحول دون الاعتراف بنشوء الحق للشخص
الاعتباري أو المعنوي (خاصا كانت أو عامّا) كالجمعيات والمؤسسات٬ لأنّ هذا الأخير
لا يتمتع بإرادة حقيقية كالإنسان.
04. إمكان ثبوت الحق للشخص حتى مع عدم علمه
يقتضي القول بأن الحق قدرة إرادية علم الشّخص
بالحق الّذي يثبت له٬ وهذا يعترض مع التسليم بثبوت الحق للأشخاص دون علمهم أو دون
إرادتهم٬ فالغائب٬ والمفقود قبل صدور حكم يقضي باعتباره ميتا حكما تثبت لها الحقوق
حتى ولو لم يكونا عالمين باكتسابها٬ ويستحق الموصى له الوصية بوفاة الموصي حتى وإن
لم يكن عالما بوجود الوصية أصلا٬ ونفس الأمر بالنسبة للوارث الّذي يثبت له الحق في
الميراث حتى وإن كان يجهل وفاة مورثه.
05. الخلط بين نشوء الحق ومباشرته
يقضي
اعتبار الحق سلطة أو قدرة إرادية للخلط بين مرحلتي: نشوء الحق ومباشرته٬ وهذا
الخلط لا مبرر له٬ ذلك أن الحق يثبت لصاحبه دون أن يتوقف ذلك على قدر
إرادي من جانبه٬ غير إن استعماله أو مباشرته لا يتحقق إلا عن طريق هذه
الإرادة٬ أو بتعبير أخر أن الإرادة لا
تكون لازمة إلا لمباشرة الحق بعد وجوده٬ ومثال ذلك أن عديم الأهلية كالقاصر غير
المميز تثبت له أهليه الوجوب دون أهليه
الأداء٬ فتثبت له الحقوق بيد أنّه لا
يمكنه مباشرتها بنفسه٬ فينوب عنه وليّه أو
وصيّه أو مقدّمه٬ ولو كان أساس ثبوت الحق هو وجود الإرادة لأمكن القول أن الحق
يثبت للنّائب لا لعديم الإرادة.
وعليه
يمكن القول أن نشوء الحق لا يتوقّف على وجود إرادة صاحبه٬ إذ أن هذه الإرادة لازمة
لمباشرة الحق٬ أي أن يوضع موضع التنفيذ (Sa mise a exécution).
المطلب الثاني: تعريف الحق وفقا للمذهب الموضوعي
الفرع الأول: الحق مصلحة مادية أو معنوية
من
أهم أنصار هذا الاتّجاه الفقيه الألماني اهرنج (Ihering)٬ وقد سمي هذا المذهب بالمذهب الموضوعي لأنه
يعرّف الحق بالنظر لموضوعه وغايته التّي تتحقّق من مباشرته٬ ويرى أصحابه أن دور
الإرادة في الحقّ ليس جوهريّا٬ وبناء على ذلك عرّفوا الحق بأنه: ((مصلحة ماديّة أو
أدبيه يحميها القانون)).
ويحلل
زعيم هذا الاتّجاه الحقّ إلى عنصرين: الأول مادي أو موضوعيّ يتمثّل في الغاية
العملية الّتي يحققها الحقّ لصاحبه٬ وهذه الغاية هي منفعة أو مزيّة أو مغنم معيّن٬
أما العنصر الثاني فهو العنصر
الشّكلي المتمثّل في الحماية المقررة قانونا لهذا الحق عن طريق الدّعوى
القضائية (L'action
en justice)٬
فكلّ حقّ له غاية معينة يحققها لصاحبه (
مصلحة مادية أو أدبية) كما هو الحل في
المصلحة الّتي يتضمّنها حقّ الملكية الّتي تتمثّل في قيمة ماليّة٬ أو
مصلحة الإنسان في احترام حياته الخاصة٬
ومصلحته في حماية شرفه وسمعته٬ يضاف إلى ذلك إن هذه المصلحة تتمتّع
بالحماية القانونية٬ وإلا أدى ذلك التّعدي على الحقوق دون جزاء.
الفرع الثاني: الانتقادات الموجهة للمذهب الموضوعي
ورغم
هذا التحليل المنطقيّ للحق٬ والتمييز بين ثبوت الحق ومباشرته٬ إلا أن تعريف الحق
وفقا للمذهب الموضوعيّ لم يسلم من سهام النّقد الّتي طالته من عدة أوجه:
- أن
تعريف الحق باعتباره مصلحة محمية قانونا يقتصر على بيان غاية الحق٬ فالمصلحة غاية
الحق٬ ولم يشر التّعريف إلى بيان ماهيّة الحق و معناه٬ فليست المصالح أو المزايا
التي تحصل من الحقّ هي الحقّ ذاته٬ بل هي غيات تحصل منها٬ فليس من المنطقي تعريف الشيء بالغاية منه٬ فلا
يصح مثلا تعريف بالجامعة بأنها: تثقيف
الطلبة٬ ولا القضاء بأنه العدل.
- يرى
أنصار هذا المذهب أن المصلحة هي معيار وجود الحقّ٬ بمعنى أن كل مصلحة تقوم على
حقّ٬ وهذا أمر لا يمكن التّسليم به٬ فلئن كان الحقّ مصلحة من المصالح في العكس ليس
صحيحا دائما٬ فثمّة الكثير من المصالح الّتي تتحقق لبعض الأشخاص لا ترتفع لمرتبة
الحقّ٬ ومثال ذلك فرض الرسوم الجمركية على
الواردات الأجنبيّة من باب حماية الصناعة
الوطنيّة٬ حيث يكون لأصحاب المؤسسات الوطنية مصلحة في ذلك باعتبار انّها وقية تخفف
من منافسة السلع المستوردة لسلعهم٬ دون ان تعطيهم هذه المصلحة الحقّ في فرض هذه
الرّسوم٬ بل هم يستفيدون منها اذا فرضت فعلا.
- ليس
صحيحا انّ الحماية القانونية عن طريق الدعوى القضائية شرط شكلي لا يقوم الحقّ
بدونه٬ بل هذه الاخيرة لا تعدو كونها وسيلة قانونية لحمايه حقوق موجوده فعلا٬ بما
يحمله ذلك من معنى التّسليم بوجود الحقّ اولا٬ ومن كون الدّعوى تالية في
الوجود لوجود الحق٬ وفي هذا المعنى يقول
الفقيه البلجيكي (دابان): ((لا يسوغ القول بأنّ الحقّ لا يعتبر حقا لأن القانون
يحميه بدعوى٬ بل انّ القانون يحميه لانّه حق٬ اي ان القانون يحميه سلفا لانه حقّ)).
المطلب الثالث: المذهب المختلط
جاء
هذا الاتجاه نتيجة ما وجه للمذهبين السّابقين من انتقادات حيث حاول جانب من فقهاء
القانون التوفيق بينهما٬ وهنا نظروا الى الحقّ من كلتا الزاويتين (القدرة الاراديّة
والمصلحة)٬ غير انهم بعد ان اتفقوا على الجمع بين عنصري الارادة والمصلحة اختلفوا
في ايهما يمكن تغليبه على الاخر:
الفرع الاول: تغليب عنصر الارادة على عنصر المصلحة
ذهب
فريق من الفقهاء الى اعلاء شأن الارادة على المصلحة فعرفوا الحق بانّه: (( قدرة
للارادة الانسانيّة يعترف بها القانون
ويحميها٬ محلّها: مال او مصلحة))٬ فالحق يقوم بصفة اساسيه على الارادة الّتي تحرّكها وتحكمها
المصلحة٬ هذه الاخيرة ليست في الواقع جوهر الحقّ وإن كانت هي اساس الحماية
القانونيّة٬ امّا الارادة فهي الوسيلة القانونية التي يخولها القانون لاجل بلوغ
هذه المصلحة٬ وقد اعتبر جانب من الفقهاء العرب في هذا الشّأن انّ الحق سلطة او
قدرة يمنحها القانون لشخص من الاشخاص تحقيقا لمصلحة مشروعة معترف بها ومحميه
قانونا.
الفرع الثاني: تغليب عنصر المصلحة على عنصر الارادة
ذهب
اتّجاه ثاني في هذا المذهب يتزعمه الفقيه ميشو (Michoud) الى تغليب عنصر المصلحة على عنصر الارادة
ومن ثمّ عرّف الحق بانّه: ((مصلحة لشخص او لمجموعة من الاشخاص يحميها القانون عن
طريق الاعتراف لارادة ما بالقدرة على
تمثيل هذه المصلحة والدّفاع عنها)).
وفي
نفس المعنى عرف الفقيه كابيتان (Capitan)
الحقّ بانّه: (( مصلحة ماديّة او ادبيّه يحميها القانون بتخويله صاحبها سلطة القيام بالاعمال اللاّزمة لتحقيق هذه
المصلحة)).
الفرع الثالث: انتقاد المذهب المختلط
على
الرّغم من انّ انصار هذا المذهب حاولوا تلافي ما وجه للمذهبين الشّخصي والموضوعي
من انتقادات الا انّ تعريفاتهم تعرّضت لسهام النقد٬ فوجهت لها نفس الانتقادات
السابقة حيث انّ الحق ليس ارادة وحدها ولا مصلحة وحدها٬ وليس من المستساغ الجمع
بينهما للتعذّر بين النقيضين ٬كما انّهم لم يعرفوا الحق بذاته ولم يقفوا على
جوهره٬ ما دعى الى ظهور نظرية حديثة حاولت الوقوف على جوهر الحقّ٬ وخصائصه الذاتيّة
المميّزة له.
الفرع الرابع: المذهب الحديث (مذهب الاختصاص أو الاستئثار)
أولا: مضمون المذهب الحديث
ينسب
هذا المذهب إلى الفقيه البلجيكي دابان في كتابه "الحق" المنشور سنة
٬1952 حيث حاول أن يتلافى الانتقادات الموجهة للمذاهب السابقة٬ وتوصّل إلى أن جوهر
الحقّ يقوم على أربعة عناصر: عنصران رئيسيان يتمثلان في: الاستئثار والتّسلط٬
وعنصران ثانويان يتمثّلان في: حجية الحق في مواجهة الغير، والحماية القانونية٬
وعليه عرّف الحقّ بأنّه: ((ميزة يمنحها القانون لشخص ما ويضمنها بوسائله، ويكون
له بمقتضاها الحقّ التصرّف متسلطا على مال، معترف بثبوته له بصفته مالكا أو
مستحقا له في ذمّة الغير)).
أ. العنصران الرئيسيان: الاستئثار والتسلّط
1) الاستئثار
فالحق
ينشئ علاقة بين الحق وصاحبه٬ ويكون لهذا الأخير الانفراد دون غيره من النّاس بمال
معين٬ أو بقيمة معينة٬ فالحق بالنسبة لدابان ليس هو التمتع أو الانتفاع بالشيء٬ بل
هو الاستئثار والانفراد به٬ بمعنى الاختصاص بالميزات التي يخولها الحقّ٬ والتّفرد
بها دون سائر النّاس.
فالاستئثار
عند دابان يحقق المصلحة المقصودة٬ وليس هو المصلحة في حدّ ذاتها٬ فالمصلحة هي هدف
الحق وليست الحق في حد ذاته٬ أما الاستئثار فهو جوهر الحقّ وهو ما يميّز هذا الأخير
عمّا سواه.
والاستئثار
قد يكون مباشرا أو غير مباشر٬ فيكون
مباشرا متى زاول صاحب الحقّ اختصاصه بشكل
المباشر دون تدخّل الغير٬ ويكون ذلك في مجال الحقوق التي تكون فيها سلطة صاحب
الحقّ مباشرة بينه وبين القيمة الّتي يرد عليها حقّه٬ كما في حقّ الملكية الّذي يتيح
لصاحبه مباشرة السلطات المخولة له قانونا (الاستعمال٬ الاستغلال٬ والتّصرّف) دون
واسطة٬ فمن ملك أرضا زراعية مثلا كان له الحق في استغلالها شخصيا من خلال زراعتها
والانتفاع بما تدره من محاصيل٬ أو تأجيرها للغير والانتفاع ببدل الإيجار٬ أو نقل
ملكيتها بمقابل كبيعها أو بدون مقابل
كهبتها بلا عوض.
إما
الاستئثار غير المباشر فيستدعي تدخل شخص آخر للوصول إلى ما يمثله حق صاحب الحق من
قيمة ويكون ذلك في مجال الحقوق الشخصية
التي تقوم على وجود علاقة بين شخصين يسمى أحدهما دائنا والآخر مدينا٬ والتي يلتزم
بموجبها الثاني اتجاه الأول بالوفاء بما عليه من دين.
ومثال
ذلك أنه لو أقرض زيد مبلغا من المال للعمر فيكون للمقرض (زيد) وحده دون غيره من
النّاس اقتضاء دينه من المقترض (عمر)٬ بيد أن هذا الاقتضاء لا يكون إلا عن طريق تدخل شخص آخر٬ قد يكون هو المدين نفسه (عمر)
الذي يلتزم برد المبلغ المقترض٬ أو ممثل السلطة العامة الذي يلزم الكافة باحترام
القانون٬ فيكون اختصاص صاحب الحق هنا غير مباشر.
2) التّسلط
وهو
نتيجة طبيعية للاستئثار بل هو لازمة من لوازمه٬ ويراد به السلطة المخولة لصاحب
الحقّ على ماله٬ أو بتعبير آخر سلطته في التصرّف بكلّ حرية في الشيء محلّ الحق
(ماديا كان أو معنويا) بصفته سيدا عليه٬ ويعرف دابان التّسلط بأنه: ((سلطة التصرف
بحرية في الشيء موضوع الحقّ))٬ بمعنى القدرة على التّصرف سواء كان هذا التّصرف بعوض أو بدون عوض.
مع
الإشارة إلى أن اعتبر أن قيام التّسلط لا يتوقف على وجود الإرادة٬ وهنا ميز بين
التّسلط (La
maitrise)٬
واستعمال الحق (La
disposition)٬
وقال أن توافر الإرادة أمر لازم عند استعمال أو مباشرة الحق.
وإذا
كان التسلط يتقرر لصاحب الحقّ فقط٬ فإن الاستعمال قد يكون لشخص آخر٬ وعليه فإنّ
عنصر التسلّط قد يثبت حتى لعديم الأهلية٬ أما استعمال الحقّ فلا يثبت له٬ بل يثبت
لنائبه القانوني (الوليّ٬ الوصيّ٬ القيّم).
ويسمّى
عنصر التسلط عنصرا شخصيّا لأنه يتعلق بشخص صاحب الحقّ٬ بخلاف الاستئثار الّذي يتعلّق بموضوع الحقّ.
ب. العنصران المساعدان في تكوين الحقّ
يتمثّلان
في حجية الحق في مواجهة الغير والحماية القانونية.
1) حجية الحقّ في مواجهة الغير
ومعناه
أن يلتزم الكافة بالامتناع عن أي عمل من شأنه أن يحول دون قدرة صاحب الحقّ على
الاستئثار به والتّسلّط عليه٬ و بفضل هذا العنصر يستطيع صاحب الحقّ الدّفاع عن
حقّه٬ ولا يمكن تصور وجود الحقّ دون وجود الغير.
وتعني
حجية الغيرة في مواجهة الغير أمرين:
- وجوب
احترام كافة النّاس حق صاحب الحق.
-
إذا ما صدر أي اعتداء من الغير كان لصاحب الحق قهوة رضا أو قضاء.
ويعتبر
دابان أن احترام الغير للحقّ لا يعدّ نتيجة لوجود الحقّ٬ بل عنصرا لازما لضمان
وجوده.
2) الحماية القانونية
يعتبر
دابان الحماية القانونية عنصرا لازما لوجود الحقّ٬ ذلك أن صاحب الحق ليس بوسعه
حمايته بنفسه٬ فلا وجود لحقّ دون حماية قانونيّة تضمنها السلطة ألعامة.
ثانيا: تقدير نظرية دابان
أ. المزايا
- عدم
الخلط في التعريف بين مرحلتي ثبوت الحقّ لصاحبه واستعمال هذا الحقّ٬ حيث لم يشترط
توافر الإرادة إلا في المرحلة الثانية.
- أنّه
لم يجعل المصلحة التي هي غاية الحق جوهرا لهذا الأخير كما زعم أنصار المذهب
الموضوعي٬ فالمصلحة لا يمكن أن ترقى لمرتبة الحقّ إلا إذا استأثر شخص معين بها.
ب. العيوب
من
أهم المأخذ التي أخذها الفقه على تعريف دابان للحقّ
- الاستئثار
يمثل كل معنى الحقّ وليس مجرّد عنصر داخلا في تكوينه٬ بمعنى أن الاستئثار مرادف
للحقّ٬ أي هو الحق ذاته وليس عنصرا منه٬ أما باقي العناصر فهي مترتبة على
الاستئثار.
- عدم
صحة اعتبار الحماية القانونية المتحققة عن طريق الدعوى القضائية عنصرا من عناصر
وجود الحقّ٬ لأنها لا تتأتى الحق إلا بعد أن تكون كلّ عناصره قد اكتملت٬ وهي تالية
على نشوئه.
- من
غير المنطقي الفصل بين عنصر احترام الغير الحقّ٬ وعنصر الحماية القانونية٬ لأنّ
واجب احترام الغير للحق٬ يحمل في طياته معنى أمكانية اقتضاءه صاحب الحق المعتدى
على حقّه عن طريق اللّجوء للطريق القضائي.
المطلب الرابع: التعريف المختار
ليس
من اليسير إيجاد تعريف جامع مانع للحقّ٬ ولذا رأينا الاختلاف الكبير بين المذاهب
السابقة في هذا الشأن٬ ولكن لا ضير في ترجيح التعريف الذي نعتقد أنّه أقرب للصّواب
لأنه يبرز عنصر السلطة المخولة لصاحب الحقّ التي تخوله القيام بأعمال معينّة٬ كما
يبيّن أن هذه السلطة منحت لصاحب الحق بغية تحقيق مصلحة معينّة يقرها القانون
ويعترف بها٬ ومن هنا عرف البعض الحقّ بأنه: ((الحقّ سلطة يقررها القانون لشخص
معيّن يستطيع بمقتضاه القيام بأعمال معينّة٬ تحقيقا لمصلحة يقرّها القانون)).
المطلب الخامس: تمييز الحق عن المفاهيم القانونية المقاربة له
قد
يحصل خلط بين الحقّ وبعض المفاهيم القريبة منه كالرخصة والحرية والسلطة لذا يتعين
تمييزها عنها.
الفرع الأول: الحق والرّخصة
يمكن
تعريف الرخصة بأنها مكنة الاختيار بين بدائل محددة نتيجة قيام سبب معيّن جعله
القانون مناطا لهذه المكنة٬ ومثال الرخصة اكتساب الملكية بالشفعة٬ فالمادة 795 من
التقنين المدني الجزائري تتيح للمالك على الشيوع في حالة بيع شريكه لنصيبه في
العقار الشائع أن يحل محل المشتري في تملك العقار المبيع بالشفعة٬ مقابل دفع الثمن
المتفق عليه بين البائع والمشتري٬ والمادة 722 من ذات القانون تتيح للمالكي على
الشيوع الاختيار بين البقاء في الملكية على هذا النحو أو طلب القسمة وبهذا يصبح
مالكا لجزء مفرز.
وممارسة
الرخصة تقضي إلى نشأة حق لصاحب الخيار٬ ففي مثالنا السابق يصبح للشريك في الشيوع
حق ملكية على الجزء الّذي آل إليه بعد القسمة.
وعليه
لا يكون للشخص صاحب الرخصة اختصاص حاجز كما هو الحال بالنسبة لصاحب الحقّ٬ ولا
تكون له مجرّد حرية في السلوك بحيث يستعملها متى وكيفما شاء٬ إنما تكون له مكنة
الاختيار بين بدائل محددة.
الفرع الثّاني: الحق والحرية
الحرية
مكنة يعترف بها القانون لكافة أفراد المجتمع بلا تمييز بينهم٬ ويكرسها دستور
الدولة مثل: حرية العقيدة٬ وحرية التعبير٬ وحرية التنقل٬ وحرية التملك٬ وحرية
الاجتماع وغيرها٬ وثمة العديد من الفروق بين الحقّ والحرية لعلّ من أهمها:
- الحرية
لا يختص بها فرد دون غيره من النّاس٬ بل يتمتع بها الكافة٬ وليس من شأنها أن تضع
أحدا من الناس في مركز ممتاز بالنسبة لغيره٬ لأنها لا تعرف فكرة الاستئثار أو
الانفراد٬ عكس الحق الّذي يعدّ ميزة ينفرد بها صاحبه٬ ولتقريب الفكرة يمكن تشبيه
الحرية بالطريق العمومي الّذي يكون متاحا للكافة المرور عليه٬ والحقّ بالطريق
الخاص الذي يكون خاصا بشخص معيّن أو بأشخاص معينين دون سائر النّاس٬ وتسمى الحريات
بالعامة (Les
liberé public)
لتساوي الناس في التمتع بها.
وينبغي
التنويه أن الحرية وإن لم تخول لصاحبها استئثارا أو انفرادا إلا أنها قد تصبح حقا
في حالة الاعتداء على تمتع شخص بها٬ إذ أن القانون يقرر للمعتدى عليه الحق في
مطالبة المعتدي بالتعويض.
* إن الحقّ يرد على محلّ محدّد أو قابل للتّحديد٬
ويترتب على ذلك جملة من النتائج منها:
-
عدم نشوء الحق إذا كان الشيء غير معيّن٬ أو حال كون العمل الّذي يرد عليه الحقّ
غير قابل للتّعيين.
- لا
يجوز الخروج عن الغاية التي بموجبها أقر القانون الحقّ لصاحبه.
- إمكان
مساءل صاحب الحق في حالة خروجه على حدود حقه وفي حالة التعسّف في استعماله.
أما
الحرية فلا ترد على محلّ محدّد بطبيعته أو قابل للتّحديد بأية طريقة٬ فهي تتميز
بعدم تحديد أو عدم وضوح موضوعها٬ إذ هي ليست سوى مكنة معترف بها لشخص في أن يفعل
ما يروق له٬ ويترتب على عدم تحديد أو قابلية محل الحرية للتحديد ما يلي:
- عدم
وضوح هدف الحرية وعدم انضباطه٬ فالشخص المتمتع بالحرية لا يلتزم بإتباع سلوك
معيّن٬ بل له سلوك لا يمنعه القانون.
-
لا يمكن القول بالإساءة في استعمال الحرية٬ أو التعسف في استعمالها٬ أو أنّه تجاوز
حدودها٬ على عكس الحق٬ فلا يجوز مثلا مساءلة شخص لأنه يسافر إلى بلد مجاور عن طريق
البرّ ولا يسافر عن طريق الجو٬ أو لأنه تزوج فتاة معينّة ولم يتزوج ابن خاله أو
عمّه٬ بينما جوهر الحق هو سلوك طريق دون أخر.
- الحقّ
المخوّل لشخص معيّن يقابله دوما التزام يلقى على عاتق غيره٬ سواء كان هذا الأخير
شخصا أو أشخاصا معينين أو كافة النّاس ٬ بينما لا يقابل الحرية أي التزام من أي
كان.
- الحق
ينشأ بموجب واقعه قانونيه مع توافر شروط تطبيقها٬ أما الحرية فلا تستند لنصّ
قانوني معيّن ٬بل تستند للقواعد والمبادئ العامة التي تعتبر وليد تراث المجتمع
وحضارته٬ ما هي متوافقة مع العقل والمنطق السّليم٬ فحرية الزّواج تستند إلى
المبادئ العامة٬ إذ ليس ثمة حاجه لنص يقرّر أن للشّخص أن يتزوّج أو لا يتزوّج.
- الحق
قد يقبل التنازل كالحقّ الشخصي والحقّ العيني ٬وقد لا يقبل التنازل عنه كالحقّ في
الحياة والحقّ في سلامه الجسد٬ بينما الحرية وهي لضيقه بالشخصية فلا يجوز التنازل
عنها٬ ينص في هذا الصدد المادة 43 من التقنين المدني الجزائري: ((ليس لأحد التنازل
عن حرّيته الشخصية)).
ثالثا: الحق والسلطة
يخول
القانون في بعض القروض لأشخاص معينين سلطة إدارة شؤون غيرهم من باب رعاية مصالح
هؤلاء٬ كسلطة الولي على المولى عليهم وسلطة الوصي على الموصى عليه٬ وسلطة الرئيس
الإداري في مراقبة مرؤوسه٬ ففي هذه القروض يخول القانون الولي أو الوصي أو الرئيس
الإداري سلطة تجعله يقترب من مركز صاحب الحق٬ رغم هذا فثمة عدة فروق بين الحق
والسلطة منها:
- إن
السلطة المشار إليها سابقا منحت للشخص رعاية لمصالح الغير (المولى عليهم٬ الموصى
عليهم٬ عديمو الأهلية…)) بينما ينبغي صاحب الحق تحقيق مصلحته الخاصة.
-
إن الحق يختص بها صاحب الحق ويترتب على ذلك إمكانية انتفاعه بما يدره عليه استعمال
حقه من منافع٬ وإمكانية نزوله عن حقه٬ أما السلطة فلا تعد حقا بل واجبا يقع على
عاتق المكلف بها٬ فلا تكون سببا للانتفاع المباشر٬ ولا يمكن النزول عنها٬ فلا يحق
مثل للأب كولي النزول عن سلطته في إدارة شؤون أولاده القصر.
المرجع:
- د. الصادق ضريفي، مطبوعة في مقياس التعسف في استعمال الحق، ألقيت على طلبة السنة الأولى ماستر تخصص عقود ومسؤولية، جامعة آكلي محند أولحاج البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم قانون خاص، الجزائر، السنة الجامعية: 2016/2017، ص4 إلى ص18.