نظرية التعسّف في استعمال الحقّ
المبحث الأول: نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه القانوني الحديث بين الرفض والتأييد
اتّجه
الفقه القانوني في أواخر القرن التاسع عشر إلى محاولة التوفيق بين النزعتين
الفردية والجماعية٬ من خلال خلق التوازن بينهما٬ فكانت نظرية التعسّف في استعمال الحقّ
مظهرا لهذا التوازن٬ غير أنّه ظهر خلاف بين الفقهاء حول هذه النظرية وانقسموا في
هذا الصّدد بين معارض ومؤيّد.
المطلب الأول: المعارضون لنظرية التعسّف في استعمال الحقّ
يأتي
على رأس هؤلاء الفقيه بلانيول الذي يعتقد أن نظرية التعسّف في استعمال الحقّ تنطوي
على تناقض واضحة٬ وتفسير ذلك أن من يستعمل حقه لا يمكن أن يكون فعله غير مشروع٬
لأنه لا يكون كذلك إلا إذا حدث تجاوز صاحب الحق لحدوده٬ أو كان لا يستند إلى حقّ٬
فالحقّ ينتهي عندما يبدأ التّعسّف (le droit cesse ou l'abus commence).
و
ينبغي التّنويه إلى أن الحق عند بلانيول مقيّد بالغاية الّتي تقرّر من أجلها٬ وانّ
استعماله في غير ذلك لا يسمى تعسّفا (L'abus)٬ بل خروجا عن الحقّ (Dapassement
du droit)٬
وبتحليل هذا الرأي يتبين أنه يستند على أساسين:
الأول: أنه من التناقض القول بأن الفعل مشروع غير مشروع في الوقت ذاته
الثّاني: إن ركن الخطأ الّذي تقوم عليه المسؤولية عن العمل الدار وهو أساس
التّعسّف عند بلانيول لا يتوفر إلا في فعل غير مشروع٬ أي لا يستند على حقّ٬ فكافة
حالات التعسف - حسب هذا الرأي- هي في الحقيقة خروج عن الحقّ.
الرّد على رأي بلانيول: يمكن الرّد على رأي بلانيول من عدّة
أوجه:
- ليس
ثمة تناقض لأنّ النفي والإثبات أو المشروعية وعدم المشروعية ينصبا هنا على ذات
الفعل٬ إذا المشروعية منصبه على ذات الفعل لاستناده إلى حقّ٬ أما عدم المشروعية
فتنصّب على الباعث أو نتيجة الفعل٬ والباعث عنصر نفسي باطنيّ٬ والفعل مقدمة والضرر
نتيجة٬ فعدم المشروعية تنصب على الدّافع أو الباعث أو على النتيجة وهما غير الفعل.
- أنّه
ينبغي التفرقة بين التعسف في استعمال الحقّ ومجاوزة الحقّ٬ ولهذه التفرقة أهميه
كبيرة٬ لأنّ مجاوزة الحق أمر محرّم في كافة الشّرائع٬ والفعل غير مشروع لذاته٬
سواء تنتج عنه ضرر أم لا٬ حتى أنّه يحظر ولو حقّق نفعا للغير٬ وتحصل المجاوزة أو
الاعتداء بمجرد إثبات الفعل٬ ومثال ذلك أن يغرس شخص أرض غيره أو يبني عليها بناء٬
بينما التعسّف في الفعل فيه مشروع لذاته٬ غير أن فيه إخلالا بالتوازن بين المصالح
المتعارضة٬ أو يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة٬ فيمنع الفعل بسبب ذلك٬ كما أن
نظرية التعسّف تقيم التوازن بين المصالح المتضاربة بما يتفق وروح القانون.
فضلا
عن ذلك فإن الفعل المشروع قد يشكل تعسفا من وقع ضرر للغير حتى وإن لم يتوفر عنصر
الخطأ كما في صور استعمال حق الملكية.
كما
أن انتقاد بلانيول للتسمية مجرد خلاف لفظي٬ لأنه من المسلم به أن الحقوق لم تعد
مطلقة٬ بل مقيّدة بالمصالح التي تقررت من أجلها٬ وهذا هو الأصل الّذي تقوم عليه
نظريّة التعسّف في استعمال الحقّ.
رأي اسمهان (Ismein)
يرى
هذا الفقيه أن نظرية التعسّف في استعمال الحقّ هي نظريّة خطرة وغير منطقيّة٬ فهي
خطرة لأنّ فتح المجال أمام القضاة للبحث عن النية يؤدّي إلى التحكم وإعطائهم
سلطانا فوق سلطان القانون٬ إذ يستطيع القاضي القول أن في الفعل قصد إحداث الضرر٬ أو إن فيه إساءة في
استعمال الحقّ حتّى من غير قصد.
وهي
غير منطقيّة لأنها مناقضة للمبادئ القانونية المستقرة٬ لأنّ ركن الخطأ الذي تقوم
عليه المسؤولية عن العمل الضار لا يتوافر إلا في حالة العمل غير المشروع٬ بينما
استعمال الحقّ في الحدود الّتي رسمها القانون لا يمكن عدّه عملا غير مشروع بغض
النظر عن نيّة صاحبه عند استعماله.
والخلاصة
أن الفقيه اسيان يرى أن نظرية التعسف في استعمال الحق تؤدي إلى الخلط بين القانون
والأخلاق وإنها تفضي إلى تحكم القضاة عند بحثهم عن نية صاحب الحق عند استعمال
لحقّه.
الردّ على رأي الفقيه اسمهان (Ismein)
يمكن
الرد عليه من عدّة أوجه:
- إن
المسؤولية عند التعسف لو قامت على الخطأ فليس معنى هذا أن القاضي منح سلطة جديدة٬
بل هو يمارس حقه الّذي خولته إياه النصوص القانونية المتعلقة بالمسؤولية عن العمل
غير المشروع.
- إن
القانون أعطى للقاضي في الكثير من الحالات والفروض البحث عن النية المشتركة دون
خوف من تحكم القضاة كما في حالة التفسير العبارات الغامضة في العقد.
- لا
تعارض بين القواعد الأخلاقية والقانون على الإطلاق٬ وفي هذا يقول الفقيه جوسران:
((إن الحدود بين القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية لا توجد إلا في مخيلة بعض
الفقهاء)).
- إن
القاضي لا يعمل من غير قيود فلما الخشية من تحكمه في مجال التعسف دون سائر الأحكام
المبادئ الأخرى؟
ورغم
أن الفقيه أسمهان لا يقر بنظرية التعسّف في استعمال الحقّ إلا أنّه يعترف في
المقابل بأنّ استعمال الحقّ قد يترتب عليه قيام مسؤولية صاحبه المدنية متى تنتج عن
ذلك تعطيل مصلحة شخص آخر٬ ومثال ذلك حال إضراب العمال لحمل رب العمل على طرد عمال
لا ينتمون لتنظيم نقابي معيّن٬ إذ أن في هذا الإضراب تعطيل لحق رب العمل٬ واعتداء
على حرية العمل.
المطلب الثاني: الفقه القانوني المؤيّد لنظريّة التعسّف في استعمال الحقّ
على
خلاف ما ذهب إليه الفريق المنكر لنظرية التعسف في استعمال الحق ذهبت الغالبية
العظمى من فقهاء القانون على اختلاف مشاربهم إلى تأييد هذه النظرية والاعتراف بها٬
وإن اختلفوا في الأساس الّذي تقوم عليه٬ وحالات التعسّف٬ ولعلّ ممّا قوى رأي هؤلاء
متطلبات الحياة المعاصرة الّتي أصبحت لا تتفق بتاتا مع فكرة الحق المطلق المستندة إلى المذهب الفردي٬ حيث اتّفق
أغلب الفقه على ضرورة تقييد الحقّ بالنظر لما تقتضيه قواعد العدالة والمبادئ
الأخلاقية٬ وظروف الحياة المستحدثة.
غير
أن الفقه لم يجمع على مفهوم واحد للتعسّف في استعمال الحقّ٬ أي لم يتفق فقهاء
القانون على معيار أو مقياس واحد يمكن من خلاله تمييز التعسف عن غيره٬ حيث إعداد
فريق منهم معيارا شخصيا واعتمد آخرون معيارا موضوعيا.
أولا: المعيار الذاتي أو الشخصي
ذهب
فريق من الفقهاء إلى أن التعسّف يقوم على نية الإضرار ٬أو قصد الإضرار عند استعمال
صاحب الحقّ لحقّه٬ وهنا يتعيّن البحث عن هذا القصد أو هذه النية٬ للتحقق من قيام
التعسّف من عدمه٬ فلا يقوم هذا الأخير إذا تبيّن أن الإضرار اللاحقة بالغير كانت
غير مقصوده٬ ذلك أن معيار التعسف هو قصد الإضرار٬ وتعليل ذلك أن الحقوق إنما تقررت
لأصحابها لجلب منافع ودرء مفاسد فإن هي استعملت لغير هذا الغرض٬ بأن كان استعمالها
لإلحاق الضرر بالغير فإنها تصبح غير مشروعة.
ويمثّل
هذا المعيار التعسّف في استعمال الحقّ في صورته الكلاسيكية الضيقة٬ وهو معيار يتصف
بصفة العمومية لأنه ينطبق على كافة الحقوق بلا استثناء٬ غير أن الاقتصار على هذا
المعيار دون غيره يضيّق من نطاق النظرية٬ و يشلّ عملها٬ لأنه ليس من اليسير الولوج
إلى نية صاحب الحق باعتبار أن النية مسألة نفسيّة باطنية من الصعوبة إمكان معرفتها
على وجه يقينيّ٬ هذا الأمر دفع بعض الفقهاء إلى اقتراح معايير لا تخرج عن معيار
قصد الإضرار بالغير منها:
- انتفاء المنفعة ولو لم يثبت قصد الإضرار:
وهذا
المعيار يدل على قصد الإضرار٬ ذلك أن من يستعمل حقّه دون توخي الوصول إلى مصلحة
تعود عليه بالنفع٬ ويلحق في الوقت ذاته
ضررا بالغير٬ يعدّ متعسّفا٬ لأن استعمال الحقّ دون الحصول على منفعة قرينة على قصد
الإضرار٬ فنية الإضرار مفترضة في هذا الفرض٬ ولا يلزم المضرور إلا بإثبات وجود ضرر
مع انتفاء المصلحة أو المنفعة لصاحب الحقّ لقيام حالة التعسف٬ وبالتالي قيام
مسؤولية هذا الأخير٬ ولا يمكنه دفعها إلا بإثبات العكس٬ والواقع أن هذه الحالة
أقرب للمعيار المادي لأنّ نيّة الإضرار يمكن استنتاجها من عدم حصول منفعة لصاحب
الحقّ عند مباشرته له٬ ويلحق بعض الفقه
حالة وجود مصلحة تافهة بعدم وجودها أصلا.
- استعمال الحق بإهمال وعدم تبصر:
قال
بذلك الفقيه البلجيكي (بودان) Beudant الذي يرى أن التعسف في استعمال الحق يتحقق
في حالتين اثنتين:
الأولى:
استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير.
الثانية:
استعمال الحق بإهمال أو دون تبصّر.
بحيث
لو استعمل صاحب الحق حقه استعمال الرجل العادي وفي نفس الظروف المحيطة به لما وقع
الضّرر٬ غير أن هذا المعيار هو في الحقيقة معيار مادي موضوعيّ لعدم ثبوت قصد
الإضرار بالغير.
ثانيا: المعيار المادّي أو الموضوعي
يرى
جانب من الفقه أنه من الصعوبة بمكان استخلاص نية أو قصد الإضرار لدى صاحب الحق ٬
بالإضافة إلى أن ذلك يؤدي إلى فتح الباب واسعا أمام تحكّم القضاة٬ فضلا عن أن صاحب
الحق لا يتصور أن يعترف أو يقرّ بأنه قصد الإضرار بغيره عند استعمال حقّه٬ ولذا
فإن الاعتماد على المعيار الذّاتي لوحده يضيّق من نطاق تطبيق نظريّة التعسّف في
استعمال الحقّ٬ وعليه فالأجدر الأخذ بالمعيار المادي٬ وقد انقسم هؤلاء إلى اتجاهات
مختلفة:
- حيث
ذهب الفقيه سالي (Salielles)
إلى أن الشخص يعدّ متعسفا في استعمال حقّه متى استعمله استعمالا غير طبيعيّ أو غير
عاديّ٬ ويمكن القول أن الاستعمال يكون عاديا أو غير عاديّ بالنظر إلى الظّروف
والعرف السائد٬ وعليه يكون استعمال الحق غير عادي وصاحبه متعسفا متى كان متعارضا
مع الغرض الاجتماعي والاقتصادي من الحق بصرف النظر عن نية وقصد صاحبه.
وقد
في نفس المعنى يرى الفقيه جوسران (JOSSERAND) إن التعسف في استعمال الحقّ يتمثل في
استعماله بما يتعارض مع الغرض الاجتماعي والاقتصادي الّذي شرع من أجله٬ ذلك أن
الحقّ ليس غرضا في حدّ ذاته بل هو وسيلة لتحقيق هذا الغرض.
والحق
عند جوسران يعدّ وظيفة اجتماعية٬ والحقوق اجتماعيّة في نشأتها و روحها الغرض منها٬
ولمّا كانت الجماعة قد منحت هذه الحقوق للأفراد الفلكي تكون عبارة عن وسائل لتحقيق
المصلحة الجماعية٬ ولن يتحقق هذا إلا إذا استعملت على الوجه الّذي يحقق الغرض
منها٬ وعلى النقيض لو استعملت لتحقيق غير هذا الهدف عدّ صاحب الحقّ متعسّفا في
استعماله لحقّه.
ولا
ريب أن هذا المعيار يتّصف بالمرونة وعدم التّحديد بشكل يجعل من تطبيقه في ساحة
القضاء أمرا بالغ الصعوبة٬ كما أنّه قد يؤدّي إلى فتح المجال أمام تحكّم القضاة٬
لذا اقترح جوسران أن يستعان في معرفة مدى انسجام الوجه الّذي استعمل فيه الحق مع
الغرض منه بالبحث عن الدافع المشروع فإن كان الباعث غير مشروع كان صاحب الحقّ
متعسّفا في استعمال حقّه٬ لأنه خرج عن روح الحقّ والغرض الاجتماعي له.
وممن
أخذ بهذا المعيار (الخروج عن الغرض الاجتماعي والاقتصادي للحقّ) أيضا الفقيه جيني
وربيير وهوريو وباريتي وغيرهم من الفقهاء.
نقد رأي جوسران
انتقد
رأي جوسران من عدّة أوجه
اولا: قال جوسران بأنّ الحقّ بذاته وظيفة اجتماعيّة٬ وأنّ تقريره يراعى
فيه بالدرجة الأولى مصلحة المجتمع أي المصلحة العامة٬ وفي هذا القول مساس بالمصلحة
الفردية٬ كما أن ذلك يجعل من صاحب الحق بمثابة موظّف أو وكيل يمارس صلاحيات
محدّدة٬ وتفرض عليه واجبات ايجابية وسلبية٬ وهذا في الواقع هدم لفكرة الحقّ وإلغاء
لها٬ لأن فكرة الحق بما يخوله لصاحبه من سلطات إنما يستعملها لمصلحته الشخصية
بالدرجة الأولى لا أن يكون آلة في يد المجتمع.
ثانيا: أن المعيار الّذي اعتمده جوسران يتسم بالعمومية والتجريد وعدم
التّحديد فهو فضفاض غير محدّد٬ ويثير أشكالا في التطبيق على مستوى القضاء٬ كما يفتح
المجال أمام تحكم القضاة والحكم طبقا لأهوائهم الشخصية٬ حيث يحكم كلّ قاض طبقا
لمنظاره الشخصي٬ وفي ذلك مساس بحقوق الأفراد.
ثالثا: قصور هذا المعيار عن شمول كافة حالات التّعسف٬ ذلك أنّه لا ينطبق
على مدار الجوار غير المالوفه ولا على الضرر الفاحش٬ وعلاج ذلك أن المالك قد
يستعمل حقّه استعمالا عاديا٬ قاصدا تحقيق الغاية الاجتماعية منه٬ غير أنّه يعدّ
متعسّفا متى الحق ضررا فاحشا بالغير حتى من غير قصد.
معيار انعدام المصلحة المشروعة
الواقع
أن هذا المعيار مدرج تحته حالات عدّة للتعسّف منها
- استعمال
الحق بقصد الإضرار بالغير.
- استعمال
الحق دون أن تكون لصاحبه منفعة في ذلك مع عدم ثبوت قصد الأضرار بالغير.
- أن
يختار صاحب الحق طريقا يلحق به ضرر للغير مع وجود طرق أخرى بديلة لا يلحق معها ضرر
للغير مع انعدام الفائدة بالنسبة لصاحب الحق في اختياره للطريق الأول.
- استعمال
الحق لتحقيق مصلحة غير مشروعة.
وربّما
كان هذا المعيار مشتقا من تعريف الفقيه اهرنج للحق بأنه: ((مصلحة يحميها
القانون))٬ وعلّة ذلك أن القانون لا يحمي سوى المصلحة المشروعة٬ أما استعمال الحق دون توخي تحقيق فائدة٬ أو
لمصلحة غير مشروعة فهو أمر لا يتمتع بالحماية القانونية.
المبحث الثاني: نظرية التعسّف في استعمال الحقّ في التّشريع المقارن
أخذت
معظم التشريعات المقارنة بنظرية التعسف في استعمال الحق في نهاية القرن التاسع عشر
وبداية القرن العشرين٬ وإن كان ثمة اختلاف بينها من حيث معايير وحالات التعسف
ونطاقه٬ حيث اقتصرت بعضها على المعيار الذّاتي (قصد الإضرار بالغير) في أضيق حدوده
على غرار المشرّع الألماني في القانون المدني الصادر سنة 1896م٬ وعلى العكس توسعت
بعض التشريعات المقارنة في هذا المعيار كما فعل المشرع السويسري في القانون المدني
الصادر سنة ٬1907 بينما أخذت بعض التشريعات بالمعيار المادي.
المطلب الأول: نظرية التعسّف في استعمال الحقّ في التشّريعات الغربية
حيث
نص القانون المدني الألماني في المادة (226) منه على أنه: ((لا يباح استعمال الحقّ
إذا لم يكن له من قصد غير الإضرار بالغير))٬ ويمكن القول أن هذا النّص أخذ بفكرة التعسّف في أضيق الحدود٬ والمتمثل في معيار قصد الإضرار
بالغير٬ أما إذا كان لصاحب الحق غرض آخر مع قصد الإضرار فلا نكون أمام تعسف في
استعمال الحقّ.
أما
القانون المدني السويسري فقد نصّ في المادة الثانية منه على أنّه: ((يجب على كلّ
شخص أن يستعمل حقوقه٬ وأن يقوم بتنفيذ التزاماته٬ طبقا للقواعد الّتي يرسمها حسن
النية٬ إما التعسّف الظاهر في استعمال الحقّ فلا يقرّه القانون))٬ وما يمكن
استخلاصه من هذا النّص أنّه وسع من حالات التّعسف مقارنة بالقانون المدني الألماني
ليشمل حالات أخرى له عدا في الإضرار
بالغير٬ ولو أن عبارة التعسّف الظاهر عبارة مبهمة وغامضة.
كما
أخذ القانون المدني البولوني بنظريّة التعسّف في استعمال الحقّ٬ حيث نصّت المادة
(135) منه على أنّه: ((كلّ من يلحق عن قصد أو إهمال ضررا بالغير وهو يستعمل حقّا
من حقوقه٬ يكون ملزما بضمانه٬ إذا كان قد تجاوز في استعماله حدود حسن النية٬ أو
الهدف الّذي من أجله منح هذا الحقّ))٬ يستنتج من هذا النّص إن قيام التعسّف مقترن بالضرر الّذي يلحق الغير
جراء قصد أو إهمال٬ وأنّ ثمة تضييقا
لمعايير التعسف.
وجاء
في المادة 2/74 من مشروع قانون الالتزامات الفرنسي الايطالي: ((يعتبر متعسّفا كلّ
من يلحق ضررا للغير٬ متجاوزا في استعمال حقه حدود النية الحسنه٬ أو الهدف الّذي من
أجله منح هذا الحقّ))٬ وهذا النص لم يختلف عن النص الوارد في القانون المدني سالف
الذّكر٬ ويؤخذ عليه ما يؤخذ على هذا الأخير من تضييق معايير مجال النظرية الذي ينجم عنه تضييق مجال
تطبيقها.
المطلب الثاني: نظريه التعسّف في استعمال الحقّ في التّشريعات العربية
أما
بالنسبة للتشريعات العربية فإنها في أغلبها اعتمدت جملة من المعايير مما أدى إلى
التوسّع في تطبيقات نظريّة التعسّف في استعمال الحقّ٬ ومردّ هذا تأثر هذه
التّشريعات في عمومها بالفقه الإسلامي الذي توسّع فيه الفقهاء في معايير وتطبيقات النظرية٬ باستثناء قانون
الموجبات والعقود اللبناني الّذي جاء في المادة 124 منه: ((.... يلزم أيضا
بالتعويض من يضرّ الغير بتجاوزه - أثناء استعمالها حقّه- حدود حسن النّية٬ أو
الغرض الّذي من أجله منح هذا الحقّ))٬ ويبدو أن هذا النّص يكاد يكون مطابقا للنص الوارد في مشروع قانون الالتزامات الفرنسي
الايطالي والنص الوارد في القانون المدني البولوني سالفا الذكر٬ وهو يؤخذ
بمعيارين: شخصي يتمثل في نية
الإضرار٬ وموضوعي يتمثل في مخالفة الغرض
الّذي من أجله منح هذا الحقّ سواء كان غرضا اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا أو غير
ذلك٬ وهذا المعيار كما رأينا غير محدد وواسع.
إما القانون المدني المصري فقد نص المادة 4 منه
على أنه: ((من استعمل حقّه استعمالا مشروعا لا يكون مسؤولا عمّا ينشأ عن ذلك من
ضرر)).
ما
يمكن استخلاصه من خلال قراءة هذا النصّ أن الحقوق نسبيّة مقيدة وغير مطلقة٬ غير أن
الإنسان لا يسأل عما يلحق غيره من إضرار متى استعمل حقّه استعمالا مشروعا٬ و
بمفهوم المخالفة لو كان الاستعمال غير مشروع فيسأل عن هذا الضرر٬ أو بتعبير آخر
يمكن القول أن الاستعمال التعسّفي غير مشروع ويترتب عنه قيام مسؤولية صاحب الحق عن
تعويض الإضرار التي أصابت الغير نتيجة هذا الاستعمال غير المشروع للحقّ.
ثم
حدد المشرع المصري معايير التعسّف في المادة 5 من ذات التقنين التي جاء فيها: ((يكون
استعمال الحق غير مشروع في الأحوال التيه:
- إذا
لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
-
إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما
يصيب الغير من ضرر بسببها.
- إذا
كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة)).
وهذا
ما أخذت به الكثير من التشريعات العربية ومنها المشرع الجزائري في نص المادة 124
مكرر من القانون المدني مع بعض الفوارق٬ ويلاحظ عليه أنّه اعتمد المعيارين الشخصي
من جهة الموضوعي من جهة أخرى٬ وما يلاحظ على مسلك المشرّع الجزائري أنّه خالف
المشرّع المصري في عدم النّص على القاعدة العامة الواردة في نصّ المادة 4 ق.م.م
التي مفادها أن من استعمل حقه استعمالا مشروعا لا يكون مسؤولا عن الإضرار التي قد
تلحق الغير.
- كما
يفهم من نص المادة 124 مكرر أن المشرع الجزائري جعل حالات التعسف على سبيل المثال
وليست على سبيل الحصر وهذا من خلال مصطلح ((لاسيما))٬ مما يعطي للنظرية مدلولا
أوسع ويعطي للقاضي سلطة تقديرية واسعة في استنباط حالات أخرى للتعسف غير تلك
المنصوص عليها في النّص٬ بخلاف المشرع المصري والتشريعات العربية التي سارت على نحو
حيث يفهم النص المادة 5 من ق.م.م إن حالات التعسف واردة على سبيل الحصر.
-
كما أسقط المشرع الجزائري مصطلح (البتة) من المعيار الثّاني٬ حيث جاء في نص المادة
5 من ق.م.م ((إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا
تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها))٬ بينما صاغها الجزائري على هذا
النحو: ((إذا كان يرمي للحصول على فائدة
قليلة بالنسبة إلى الضرر الناشئ
للغير))٬ فاشترط اختلال التوازن٬ بينما
يفهم من النص الوارد في القانون المدني المصري أنّه اشترط عدم التوازن مطلقا٬
وهكذا ضيق المشرع المصري مجال تطبيق النظرية.
-
ويلاحظ أيضا أن المشرّع الجزائري عالج الطبيعة القانونية للتعسّف عندما اعتبره
صورة من صور الخطأ التّقصيري.
- أن
المشرع الجزائري وفق في تلافي الانتقاد الّذي كان قد وجه له من خلال تغيير موضع
المادة من المادة 41 إلى المادة 124 مكرر٬ حيث كانت محشورة بين المواد المتعلقة
بالأهلية فأصبحت تالية المادة 124 المتعلقة بالمسؤولية عن العمل الشّخصي٬ لأنّ
التعسف في استعمال الحقّ يترتّب عنه ضرر يصيب الغير٬ ويولّد التزاما بالتعويض٬
وبالتالي فإنّه موضعها الحالي أنسب من موضعها السّابق.
المبحث الثالث: معايير التعسف في القانون المدني الجزائري
نقل المشرع الجزائري نص المادة 5 من التقنين المدني المصري
الجديد مع اختلاف في الصياغة كما رأينا٬ غير أنّه وضع نص المادة 124 مكرر بعد
المادة 124 المتعلقة بالمسؤولية عن العمل الشخصي٬ معتبرا إياها صورة من صور الخطأ
التقصيري٬ ولم يأت بنصّ مماثل لنص المادة 4 من التقنين المدني المصري المذكورة
آنفا٬ وقد وضع ثلاثة معايير للتعسف٬ بمعنى أن صاحب الحقّ يعدّ متعسفا في استعمال
حقّه في الأحوال الاتيه:
- إذا وقع بقصد الإضرار بالغير.
- إذا كان يرمي للحصول على فائدة قليلة بالنسبة إلى الضرر
الناشئ للغير.
- إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة.
المطلب الأول: استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير
تعدّ هذه الحالة أبرز حالات التعسّف وأقدمها وأكثرها شيوعا٬ لأنّ الشخص هنا يستعمل
حقه لا لتحقيق مصلحة بل لإلحاق الأذى بالغير٬ و عليه تقوم مسؤولية صاحب الحقّ في
هذه الحالة٬ و إذا رجعنا إلى نص المادة 5 من ق.م.م نجده صاغها بشكل الآتي: ((إذا
لم يقصد به سوى الإضرار بالغير))٬ بينما جاء في المادة 124 مكرر من ق.م.ج: ((إذا
وقع بقصد الإضرار بالغير))٬ والنص الأول له أصل
في الفقه الإسلامي حيث يقول الفقيه ابن رجب الحنبلي في هذا المعنى: ((
...أن لا يكون في ذلك - أي في استعمال
الحقّ- من غرض سوى الإضرار بالغير))٬ و يفهم من نص المادة 5 من ق.م.م أنّه يجب أن
يكون القصد مقتصرا على مجرّد الإضرار بالغير٬ بمعنى ألا يكون ثمّة قصد آخر٬ مثل
تحقيق مصلحة ولو كانت ضئيلة حتى نكون أمام هذه الحالة من حالات التعسّف٬ بخلاف
الحالة الأولى الواردة في المادة 124 مكرر من القانون المدني الجزائري٬ التي يفهم
منها أننا نكون بصدد حالة تعسف إذا قصد صاحب الحق الإضرار بالغير سواء كان له قصد
آخر أولم يكن له.
وهذا المعيار شخصي أو ذاتيّ محض لأنه متعلّق بنيّة صاحب
الحقّ في استعماله٬ وهو أمر ليس من اليسير استخلاصه باعتبار النية أمر باطنيّ
نفسيّ٬ ومثال هذه الحالة من يقيم جدارا عاليا أو يغرس أشجارا من أجل حجب الضوء أو
الهواء عن أحد الجيران٬ دون أن تكون له فائدة٬ من انعدام المنفعة انعدام ثمن هو في
الحقيقة قرينة على قصد الإضرار٬ وفي هذا يقول الدكتور فتحي الدرّيني:((إن استعمال
الحقّ دون منفعة قرينة على أن مستعمل الحقّ لم يقصد سوى الإضرار مفترضة في هذا
الحال)).
ويرى جانب من الفقه أن وجود إضرار مادية ملموسة تلحق الغير
دليل على توافر قصد الإضرار بهذا الأخير٬ وهذا أمر منطقي ومعقول ٬ذلك أنّه لا يمكن
مساءلة المالك عن نيته في الإضرار بجيرانه
ما لم تتجسد تلك النية في أفعال مادية ملموسة٬ خاصة مع صعوبة إثبات قصد
الإضرار لديه.
غير أن أعمال ذلك بشكل مطلق يثير إشكاليه الإضرار المعنوية
والنفسية التي قد تلحق الغير٬ كأن تصدر عن قاعة حفلات موسيقى صاخبة تلحق ضررا
معنويا ونفسيا بالجيران٬ لاسيما أن هؤلاء يصعب عليهم إثبات هذا الضّرر.
غير أن هذا المعيار لا يكف لوحده بل لابدّ من استعمال معيار
موضوعي يتمثّل في معيار الرّجل العادي٬ إذ أن مجرد نيّة الإضرار لا تكف للقول
بوجود التعسّف٬ فقد يستعمل الشخص حقّه
ويتعمّد إلحاق الضرر بالغير٬ ومع ذلك لا يعدّ متعسّفا لو كان استعمال الحقّ
على هذا النحو يحقق له فائدة قد تكون كبيرة بحيث تفوق الضرر اللاحق بالغير.
ويقع على المضرور عبئ إثبات قصد الإضرار من قبل صاحب الحق
عند استعماله لحقّه٬ مستعملا كافة طرق الإثبات٬ ومنها القرائن.
ومن التطبيقات القضائية لهذا المعيار نذكر:
- ما قضت به محكمة استئناف ليون بفرنسا سنة 1856 من أن
المالك الّذي يقوم بعمل حفرة في أرضه من أجل منع وصول الماء إلى أرض جاره يعدّ
متعسّفا في استعمال حقه٬ وكذلك مالك الطاحونة المجاورة لطاحونة مجاورة إذا قام
برفع أبواب الأحواض بغرض حجز الماء عن طاحونة جاره وتعطيلها عن العمل٬ ونفس الأمر
بالنسبة للماك الّذي يقيم جدارا لحجب الضوء عن جاره.
- قضت محكمة استئناف كولمار بفرنسا بتاريخ 1855/5/2 بمسؤولية
مالك بناء أقام مدخنة فوق منزله مقابلة لنافدة جاره من أجل إيذائه.
- قضت محكمة الاستئناف المصرية المختلطة في 17 ابريل 1917
بمسؤولية المالك في حال استعمال حقه بقصد الإضرار بجاره٬ وأنّه يترتّب على الأعمال
الّتي يباشرها المالك للإضرار بجاره بغير ما يبررها من موجبات الضرورة٬ أو بغير
منفعة حقيقية٬ تخويل الجار الحقّ في التّعويض٬ وأنّه لا يجوز استعمال الحقّ إذا
كان الغرض منه قصد الإضرار بالغير.
وأنّ استعمال الحق بقصد جلب مصلحة شخصيّة لصاحبه أمر شرعيّ
لا غبار عليه٬ ولو أدى إلى ضرر الغير٬ أما إذا كان القصد مجرّد الإضرار بالغير فهو
غير مباح قانونا٬ لأنّ قصد الإضرار بذاته سبب غير شرعيّ٬ يجرّد الحق من مشروعيته.
- وقضت محكمة الاستئناف السويسرية بأنّ المستأنف الذي يقدّم
استئنافه في المدة ولكن في آخر الوقت المحدّد٬ مع أنّه كان بإمكانه أن يقدّمها قبل
ذلك٬ إنما تأخر لآخر الوقت بقصد الإضرار بالمستأنف عليه يعدّ متعسّفا في استعمال
حقّه.
- كما قضت محكمة التمييز العراقية بقيام المسؤولية عن
استعمال الحقّ الإجرائي في رفع الدعوى ضد المدعى عليه حيث جاء في حكمها: ((إذا قدم
المدعي شكوى كيدية كاذبة ضدّ المدعى عليه٬ وسبب له إضرار مادية وأدبيه٬ فيكون
مسؤولا عن تعويض هذا الضرر ويلزمه تعويض المدعى عليه٬ عملا بالمادتين7 و 202 من
القانون المدني٬ لأنّ حقّ التّقاضي وإن كان مكفولا لكلّ مواطن لكن استعماله
استعمالا غير جائز و بقصد الإضرار بالآخرين يستوجب المسؤولية القانونية)).
المطلب الثاني: استعمال الحق للحصول على فائدة قليله مقارنه بالضرر اللاحق بالغير
وهو معيار موضوعي بحيث لا يركز فيه على النية أو القصد بقدر
ما يركز على وجوب حصول التوازن بين قيمة ما يجنيه صاحب الحقّ من منفعة جراء
مباشرته لحقّه وبين ما يلحق الغير من إضرار٬ فإن كانت تلك الفائدة يسيرة والضرر الذي
يصيب الغير كبيرا عدّ صاحب الحقّ متعسّفا وقامت مسؤوليته٬ وألزم بتعويض الغير٬ أو
بتعبير أخر لا يكف أن تكون لصاحب الحقّ مصلحة ولو كانت مشروعة في استعمال حقّه حتى
تنتفي عنه شبهة التعسّف٬ بل ينبغي أن تكون هذه المصلحة ذات قيمة تبرر ما قد يصيب
الغير من ضرر جراء استعمال هذا الحقّ٬ إما إذا كانت تافهة بحيث لا تتناسب مع الضرر
الذي يلحق الغير٬ فيكون استعمال الحق هنا أمرا غير مشروع٬ ويعدّ صاحبه متعسفا.
وهذا المعيار مبني على أصل مقرر في الفقه الإسلامي وهو (النظر
في مآلات الأفعال ونتائجها)٬ ومفاده أن الفعل لو كان له نتيجتان متعارضتان٬ وكانت
المفسدة فيها مساوية للمصلحة أو راجحة عليها٬ عدّ الفعل غير مشروع٬ فما بالك لو
كانت المصلحة ضئيلة أو تافهة مقارنة بالمفسدة المترتبة عن هذا الفعل؟ ومنه يمكن
القول في هذا الصّدد أن اختلال التوازن هو علّة التعسّف.
ومن أمثلة ذلك شخص تجاوز حدود ملكيته بحسن نية بحيث بنى على
أرضه عمارة وعلى جزء يسير جدا من أرض جاره٬ فإذا تمسك هذا الأخير بهدم البناء كلي
يكون متعسفا في استعمال حقّه٬ لأن الإضرار التي ستلحق بصاحب العمارة نتيجة هدمها كبيرة جدا بالمقارنة مع الفائدة
التي سيجنيها هذا الجار من استرجاعه تلك المساحة اليسيرة التي بنى عليها صاحب
العمارة٬ وعلى القاضي إلزام هذا الجار بالتنازل على هذا الجزء اليسير نظير تعويض
عادل.
وقد نص المشرع الجزائري في هذا الصدد في المادة 788 من
التقنين المدني على أنّه: ((إذا كان مالك الأرض وهو يقيم بناء بها قد تعدى بحسن
نية على جزء من الأرض الملاصقة٬ جاز للمحكمة إذا رأت محلا لذلك أن تجبر صاحب الأرض
الملاصقة على أن يتنازل لجاره عن ملكية الجزء المشغول بالبناء مقابل تعويض عادل)).
ومن الإشكالات القانونية التي يمكن أن تثار في هذا الصدد حالة
تساوي الفائدة التي يجنيها صاحب الحق مع الضرر الّذي يلحق الغير فهل يمكن للقاضي
أن يعتبره متعسفا؟
وقد حسم الفقه هذا الإشكال باتفاقه على عدم وجود تعسف هذا
الفرض٬ كما يظهر أن المشرع فصل كذلك في الأمر حينما اعتبر قيام حالة التعسف مقرونا
بحصول صاحب الحق على فائدة قليلة مقارنة بالضرر الّذي يلحق الغير.
وقد أورد المشرع الجزائري تطبيقات كثيرة لهذا المعيار لعلّ
من أهمها هدم الحائط الفاصل بين ملكين٬ التي وردت في الفقرة الثانية من المادة 708
من التقنين المدني على أنّه: ((... غير أنّه ليس لمالك الحائط أن يهدمه مختارا دون
عذر قانوني٬ إن كان هذا يضر الجار الّذي يستتر ملكه بالحائط)).
وهذا النص مثال واضح عن تقييد الملكية لمصلحة الغير٬ إقرارا
للوظيفة الاجتماعية لحقّ الملكية.
كما قضت المادة 881 من القانون المدني بأنه: ((يجوز لمالك
العقار المرتفق أن يتحرر من الارتفاق كلّه أو بعضه إذا فقد الارتفاق كلّ منفعة
للعقار المرتفق: أو إذا لم تبقى له سوى فائدة محدودة لا تتناسب مع الأعباء الواقعة
على العقار المرتفق به)).
ومن التطبيقات القضائية لهذا المعيار نذكر ما قضت به محكمة التمييز الأردنية في قرارها رقم (968/ 2009) الصادر بتاريخ 30/ 09/ 2009 الّذي جاء فيه: ((وحيث أن تشغيل شركة مصانع الاسمنت لمصانعها وما يتطاير منها من غبار يتساقط على الأرض المجاورة٬ يشكل فعلا ضارا بالأرض وما يتواجد فيها من أشجار وبناء٬ وأنّ هذا الفعل يوجب الضمان على الشركة طبقا لأحكام المادة ( 256) من القانون المدني٬ وحيث أثبتت الخبرة الفنية أن هناك ضررا لحق بعقار المدعية ناتج عن أعمال قامت ب المدّعى عليها٬ وانّ الغبار الناتج عن عمليات التّصنيع والإنتاج يتطاير باتجاه القطعة٬ ويلاحظ بشكل واضح على الأجزاء الإنشائية٬ وسطح البناء٬ وبالتالي فإنّ المدعية تستحق التّعويض عن هذا الضرر)).
المطلب الثالث: عدم مشروعية المصلحة التي يهدف صاحب الحقّ لتحقيقها
لا يكف أن يبتغي صاحب الحقّ تحقيق مصلحة معيّنة عند
استعماله لحقه٬ بل لا بدّ أن تكون هذه المصلحة المقصودة مشروعة٬ ذلك أن الحقوق
إنما قررت لتحقيق مصالح مشروعه فإن انحرف صاحب الحق عند استعمال حقه و أراد تحقيق
مصلحة غير مشروعة عدّ فعله هذا تعسّفا في استعمال الحق.
والملاحظ أن المشرع الجزائري استعمل عبارة (فائدة غير
مشروعة) بخلاف التشريعات العربية الأخرى التي استعملت عبارة (مصلحة غير مشروعة)
ولا ريب أن مصطلح مصلحة أشمل من مصطلح
فائدة التي توحي بأنّ المقصود بها المصلحة المادية دون غيرها من المصالح
الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية.
ويمكن اعتبار هذا المعيار أوسع المعايير من حيث التطبيقات
العملية٬ باعتبار أن استعمال الحقوق يجب أن يكون مشروعا حتى يكون جديرا بالحماية
القانونية.
وهذا المعيار يمكن عدّه معيارا موضوعيا بالنظر لكونه مرتبطا
بالنتائج والغايات من استعمال الحقّ٬ غير أن نية صاحب الحق لها أثر في الكشف عن
غايته وهي تحقيق مصلحة غير مشروعة٬ لذا اعتبر بعض الفقهاء هذا المعيار مزيجا من
العنصر الشخصي والعنصر المادي٬ لأنّ نية
صاحب الحق تثبت صفة عدم المشروعية عن استعماله لحقّه وقد تنفيها٬ وهذا المعنى
أشارت إليه المذكرة الإيضاحية للقانون المدني السوري حيث ورد فيها: ((إن معيار
المصلحة غير المشروعة إذا كان ماديا في ظاهره٬ إلا أن النية كثيرا ما تكون العلة
الأساسية لنفي صفة المشروعية عن المصلحة)).
ومن أمثلة هذا المعيار أن يطلب رب العمل من أحد العمال
القيام بأمر غير مشروع تحت طائلة فسخ عقده٬ أو فصل عامل بسبب نشاطه النقابي٬ ومنه
أيضا أن يتخذ أحدهم من داره وكرا لممارسة أفعال غير أخلاقية٬ أو أن يعمد مالك أرض
مجاورة للمطار بوضع أسلاك شائكة تعرقل حركة الطائرات هذا يجبر شركة الطيران على
شراء أرضه بثمن مرتفع.
ومن أمثلته أيضا أن يطلب المالك من مستأجر السكن إخلاءه
بحجّة حاجته لاستعماله من خلال السكن فيه٬ بعد أن حاول زيادة الأجرة بشكل مبالغ
فيه ولم يفلح في ذلك٬ فهنا يعدّ متعسفا في استعمال حقّه لأنه يهدف إلى تحقيق مصلحة
غير مشروعة.
ومن التطبيقات التشريعية ما ورد في المادة 187 من التقنين
المدني الجزائري التي ورد فيها: ((إذا تسبب الدّائن بسوء نيّته وهو يطالب بحقّه في
أطاله أمد النّزاع فللقاضي أن يخفّض مبلغ التّعويض المحدد في الاتفاق أو لا يقضي
به إطلاقا عن المدة التي طال فيها النزاع بلا مبرّر)).
ومفاد النّص أن الدائن الّذي يبتغي زيادة المبلغ التعويض من
خلال إطالة أمد النزاع عند مطالبته بحقّه٬ فيعدّ قصده هذا غير مشروع٬ والمصلحة
التي يرمي إليها غير مشروعة٬ وبالتالي يعامل بنقيض قصده حيث يخفض مبلغ التّعويض عن
الفترة التي طال فيها زمن النزاع بدون مبرر مقبول أو لا يستفيد منه كليا.
ومن التطبيقات القضائية لهذا المعيار ما قضت به المحكمة
الاتحادية العليا في دولة الإمارات المتحدة بتاريخ 27 مارس 1994 من أن: الفعل
المنسوب إلى الطاعنة يشكّل ضربا من ضروب التعسّف في استعمال الحقّ٬ فلا يؤثّر
استعمال المدرسة أو المديرة حقّها استيفاء المصروفات المدرسية٬ أن تحول دون مستقبل
الطلبة٬ إذ أنها فصلت الطالبتين في وقت معاصر لأداء الامتحان٬ ولم يعد أمامهما أن
يستدركا دراستهما٬ فاستعمال الحقّ الّذي تدّعيه الطاعنة المفوضة من المدرسة يجب أن
لا يستعمل بشكل تعسّفي٬ وأيا ما كانت
نتيجة الطالبتين نجاحا او رسوبا فلا يخلو استعمال هذا الحقّ من التّعسف٬ وامر
النجاح الرسوب يحسب في ترتيب التعويض٬ كاثر من اثار التعسّف)).
المرجع:
- د. الصادق ضريفي، مطبوعة في مقياس التعسف في استعمال الحق، ألقيت على طلبة السنة الأولى ماستر تخصص عقود ومسؤولية، جامعة آكلي محند أولحاج البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم قانون خاص، الجزائر، السنة الجامعية: 2016/2017، ص24 إلى ص43.