مفهوم التعسف في استعمال الحق
المطلب الأول: تعريف التعسف
الفرع الأول: تعريف التعسف لغة
التعسف
في اللغة مأخوذ من العسف٬ يفتح العين وإسكان السين٬ ومعناه السير بغير هداية٬
والأخذ على غير الطّريق٬ وكذلك التعسف والاعتساف.
والعسف
أيضا ركوب المفازة وقطعها بغير قصد ولا هداية٬ ولا توخي صوب ولا طريق مسلوك٬
والتّعسف السير على غير علم ولا أثر ومنه قيل: (رجل عسوف) إذا لم يقصد الحق.
وعسف
فلان فلانا ظلمه٬ وعسف السلطان يعسف واعتسف وتعسّف: ظلم٬ وفي الحديث: ((لا تبلغ
شفاعتي أمام عسوفا)): أي جائرا ظلوما.
الفرع الثاني: تعريف التعسف في استعمال الحق في الاصطلاح الشرعي
يعرف
البعض التعسف في استعمال الحق شرعا بأنه: ((أن يمارس الشخص عملا مشروعا في الأصل٬
بمقتضى حقّ شرعيّ ثبت له - بعوض أو بغير عوض- أو بمقتضى أباحه مأذون فيها شرعا٬
على وجه يلحق بغيره الإضرار٬ أو يخالف حكم المشروعية)).
الفرع الثالث: تعريف التعسف استعمال الحق في القانون
عرّف
التعسّف في استعمال الحق بتعاريف كثيرة غير أنها متقاربة منها: ((هو انحراف بالحق
عن غايته))٬ وفي نفس المعنى عرفه البعض بأنه: ((التعسف والتخلف عن غاية الحق أو
مناقضتها))٬ وعرفه آخرون بأنه:((استعمال الحق على وجه غير مشروع))٬ بينما قال
البعض انه: ((استعمال الحق على وجه غير مشروع٬ بمعنى مجاوزة الحق عند مزاوله
الإنسان له))٬ أو:((استعمال الحق في غير الغرض الّذي من اجله منح٬ أو بقصد إلحاق
الضرر بالغير٬ أو كلا الاستعمالين)). ونلاحظ أن هذه تعاريف تركّز أما على فكره
الانحراف عن الغاية أو الهدف الذي يرمي إليه الحق٬ أو إلحاق الضرر بالغير وهذا أمر
متحقق في كافه حالات التّعسّف.
ولم
تورد التّشريعات المقارنة تعريفا للتعسّف في استعمال الحقّ٬ وهذا أمر منطقّي لأنّ
هذه مهمة الفقه لا المشرّع٬ غير أنها أوردت حالاته٬ وطبيعته القانونية.
ففي
التّشريع الفرنسي بدأ التأثر بنظرية التعسّف في استعمال الحق وذلك في عدة تشريعات
منها:
- القانون
الصادر في 23/ 05 /1941 والمؤيد بالمرسوم 22 /12/ 1958 المعدل للمادة 71 من قانون
الإجراءات المدنية الذي يقضي بتوقيع غرامة على المتقاضي الذي يستأنف الحكم بغرض
إعاقة تنفيذه.
-
القانون الصادر في 04/27/ 1956 الّذي يعتبر أن رفض التشغيل أو إنهاء علاقة العمل
بسبب انتماء الشخص لنقابة معيّنة يعدّ تعسفا في استعمال الحقّ.
- القانون
الصادر في 11/ 03/ 1957 المتعلق بحق المؤلف والذي نص في المادتين 20 و 29 منه على
أنّه يعدّ تعسفا إساءة استعمال الحق من قبل ورثة المؤلف المتوفى في إذاعة أو عدم
إذاعة المؤلّف.
كما
تضمنت المادة 74 من التقنين المدني الفرنسي إلى فكرة التعسف حيث نصّت على ما يلي:
((... يلزم أيضا بالتّعويض من يضر الغير بتجاوزه في أثناء استعمال حقّه حدود حسن
النية: أو الغرض الّذي من أجله منح هذا الحقّ))٬ ولو أن هذا النص يتعلق بالتجاوز
وليس التعسّف في استعمال الحقّ٬ وثمة اختلاف بينهما كما سنرى.
ويلاحظ
أن٬ القانون الفرنسي يستعمل عبارة (Abus de droit)٬ مع أن مصطلح (Abus) يعني الإساءة وليست
التعسف.
* كما
نص المشرع الألماني على التعسف في استعمال الحق في المادتين 226 و 826 من القانون
المدني.
* نصّ
المشرع الفرنسي الايطالي لسنة 1945 على التعسف في استعمال الحقّ في المادة 74/ 2
منه٬ وكذا القانون المدني النمساوي في المادة 1295 منه٬ والقانون المدني السويسري
في المادة الثانية٬ وهذه القوانين تطرقت لحالات التّعسّف دون أن تعرّفه.
أما
القوانين العربية فبدورها لم تعرّف التعسف في استعمال الحق بل ذكرت حالاته٬ وتطرقت
إلى ذلك في نصوص منفصلة عن النصوص المتعلقة بالمسؤولية عن العمل الضّار٬ حيث نصّ
المشرع المصريّ عليها في الباب التمهيدي من القانون المدني وتحديدا في المادتين 4و
5 منه٬ وهو ما ذهب إليه التقنين المدني السوري والليبي٬ والمشرع العراقي في المادة
7 من التّقنين المدنيّ٬ والمشرع الأردني في المواد ٬61 ٬66 ٬1279 1027٬1025٬1021
من القانون المدنيّ. والمشرع الكويتي في المادة 30 من التقنين المدني الكويتي.
أما
المشرّع الجزائري فقد نصّ عليها بالمادة 124 مكرر من القانون المدني التي أضيفت
بموجب القانون (05/ 10) الّذي جاء فيها: ((يشكل الاستعمال التعسّفي للحق خطأ
لاسيما في الحالات الآتية:
-
إذا وقع بقصد الأضرار بالغير.
-
إذا كان يرمي للحصول على فائدة قليلة بالنسبة للضّرر الناشئ للغير.
-
إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة)). وما يمكن ملاحظته على النّص
أنّه:
-
لم يعرّف التعسّف بل حدد حالاته على سبيل المثال لا على سبيل الحصر٬ وهذا ما
يستنتج من العبارة ((... لاسيما في الحالات الآتيات…)).
- إن
المشرّع ربط التعسّف بفكرة الخطأ التقصيري الّذي تقوم عليه المسؤولية عن الفعل
الضّار٬ حينما نص على أنّه: ((يشكّل الاستعمال التّعسفي للحق خطأ..))٬ لذا أورد
هذا النّص بعد المادة 124 المتعلقة
بالمسؤولية عن العمل غير المشروع والّتي جاء فيها: ((كل فعل أيا كان يرتكبه لشخص بخطئه ويسبب ضررا للغير٬ يلزم من كان سببا في حدوثه بالتّعويض))
وهنا
نلاحظ أن المشرّع حاول تفادي الانتقادات
التي وجهت له سابقا حينما نصّ على التعسف في المادة 41 من ذات التقنين بين أحكام
الأهلية ( المادة 40 و 42 وما يليها) على الرغم من عدم وجود رابطة تجمع التعسف
بأحكام الأهلية٬ غير أنّه اعتبر التّعسف إحدى صور الخطأ وهذا في غير محلّه لأنّ
التعسف أكبر من أن تستوعبه فكرة الخطأ خاصة أن حلاته وتطبيقاته لا تقع تحت حصر٬
وكان الأولى بالمشرع وضع هذا النّص في الباب التمهيدي كما فعلت أغلب التشريعات
العربية المقارنة وعلى رأسها التقنين المدني المصري الذي نقل عنه مشرعنا هذا النص
نقلا حرفيا.
كما
نصّ المشرّع على الكثير من تطبيقات نظريّة التعسّف في استعمال الحقّ مثل ما ورد في
نصّ المادة 691 من التقنين المدني: ((يجب على المالك ألا يتعسّف في استعمال حقّه
إلى حدّ يضرّ بملك الجار)).
المطلب الثاني: تمييز التعسّف في استعمال الحقّ على مجاوزة حدود الحق
يرى
بعض رجال القانون أن التعسف والإساءة والمجاوزة كلّها ألفاظ مترادفة٬ وعليه لا
يكون ثمّة فرق بين التعسّف في استعمال الحقّ و إساءة استعماله أو تجاوز حدوده٬
بينما يذهب فريق آخر إلى التفرقة بينها٬ وفي هذا يقول الدكتور فتحي الدّريني رحمه
الله: ((التّعسف يفترض أساسا وجود الحقّ٬ أي أن المتعسّف يتصرّف
في حدود الحقّ الموضوعية لا يتعدّاها٬ وعلى هذا فالفعل في التعسّف مشروع في ذاته٬ ولكنه معيب في باعثه ومآله٬ في
حين أن الفعل في المجاوزة غير مشروع لذاته٬ بقطع النّظر عن باعثه أو نتيجته٬ حتى
لو كانت نتيجته نفعا٬ ذلك أنّه لا يستند
إلى حقّ أصلا٬ ما هو محض تعدّ…)).
ومن
الأمثلة التي يسوقها الفقه للتّمييز بين التعسّف في استعمال الحقّ و مجاوزة حدود
الحقّ٬ أن يبني شخص بناء على أرضه غير أنّه يمده إلى جزء من أرض جاره٬ ففي هذا
الفرض يكون قد تجاوز نطاق حقّه٬ أما إذا بنى في أرضه غير أنّه أعلى البناء بحيث
حجب عن جاره الضوء أو الهواء فلا يكون متجاوزا لحدود حقّه بل متعسّفا في استعمال
حقّه.
المطلب الثالث: مجال تطبيق نظريّة التعسّف في استعمال الحقّ
إذا
رجعنا إلى الفقه الإسلامي لوجدنا أن مجال تطبيق نظريّة التعسّف في استعمال الحقّ
هو كافّة الحقوق الخاصة٬ مثل: حق الملكية٬ الإيصاء٬ الطّلاق٬ اقتضاء الدّين٬
والتصرف في المال على نحو يؤدّي إلى طبيعة٬ وكذا الحقوق العامة التي يطلق عليها
الرخصة العامة كحرية التعاقد وحرية التقاضي٬ وحرية التجارة والاجتماع٬ والمنافسة والتنقّل٬ كما تجري على سلطة وليّ
الأمر والقاضي والمعلّم٬ وكل ممن تولى آمرا من أمور النّاس.
أما
في القانون المقارن فثمة اختلاف بين الفقهاء حول نطاق نظريّة التعسّف في استعمال الحقّ ومجال تطبيقها٬ حيث ذهب البعض مثل الفقيه
جوسران وأنور سلطان وإسماعيل غانم إلى أن مجال تطبيقها يجب أن يتسع ليشمل كافة أنواع الحقوق٬ مثل حق
الملكية٬ الطلاق٬ اقتضاء الدّين٬ فضلا عن الرخص والحرّيات العامّة كحرية
التعاقد٬ حرية التقاضي٬ حرية الرأي٬ حرية
الاجتماع٬ حرية المنافسة٬ وغيرها من الحريات.
بينما
ذهب جانب آخر من الفقهاء مثل الدكتور عبد الرزاق السنهوري و سليمان مرقس وعبد
المنعم الصّده إلى أن نظرية التعسف يمكن تطبيقها على بعض الحقوق دون غيرها٬ حيث
يميزون بين نوعين من الحقوق: حقوق مقيدة تدخل في نطاق هذه النظرية٬ وحقوق مطلقة
يترك استعمالها لمحض تقدير أصحابها٬ وتسمى بالحقوق التقديرية.
وذهب
رأي ثالث إلى أن مجال تطبيق نظريّة التعسّف في استعمال الحقّ ينحصر في الحقوق
الخاصة دون الحريات العامة٬ ولا يميزون في الحقوق بين مطلقة ومقيّدة٬ وهذا الرأي
هو الّذي أخذ به المشرع المصري وتبعته في ذلك أغلب التشريعات العربية ومنها
المشرّع الجزائري.
المرجع:
- د. الصادق ضريفي، مطبوعة في مقياس التعسف في استعمال الحق، ألقيت على طلبة السنة الأولى ماستر تخصص عقود ومسؤولية، جامعة آكلي محند أولحاج البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم قانون خاص، الجزائر، السنة الجامعية: 2016/2017، ص19 إلى ص23.