الركن المعـنوي للجريمة
ـ الركن المعنوي للجريمة هو الكيان المعنوي الذي يمُثلّ
العلاقة النفسية بين الجاني ومادّيات الجريمة ،والتي تبُينُّ أنّ الفعل المادّي
للجريمة صادٌرٌ عن إرادة إجرامية (آثمة) وأنّ الجريمة لها أصول نفسية تسُيطر على
مادّياتها، والمبدأ يقضي بأنهّ "لا جريمة بدون خطأ". فالشخص الذي ارتكب
الجريمة يكون قد أخطأ إمّا قاصدا مُتعمّدا عن وعي وإدراك وبنية اقتراف السلوك
الإجرامي، وإمّا نتيجة إهمال منه أو رعونة، وذلك بما له من إدراك وتمييز وحرية
الاختيار، تؤكّد قدُرته على توجيه إرادته وسلوكه والتمييز بين الخير والشرّ.
ـ وأهميةّ الركن المعنوي تكمن في:
ـ
أنّ بهذه الرابطة المعنوية يسند القاضي السلوك الجنائي لفاعله تطبيقا لمبدأ شخصية
العقوبة.
ـ
أنهّ يكشف عن مدى خطورة شخصية الجاني ويسُاهم في تحقيق أغراض العقوبة المناسبة.
ـ
يسُاهم في تحقيق ذاتية القانون الجنائي باعتباره القانون الوحيد الذي يهتم بالجانب
النفسي للشخص.
ـ صور الركن المعنوي، الأصل في الجرائم أنهّا تقوم على القصد
الجنائي (الخطأ العمدي) بإرادة موجّهة بوعي بنيةّ اقتراف السلوك الإجرامي.
واستثناء تكون الجرائم غير عمدية تقـوم علـى الخطـأ (الخطأ غير العمدي)، تتجّه فيه
الإرادة لتحقيق الفعل دون النتيجة، قال تعالى .﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَّحِيمًا (5)﴾ (الأحزاب) ولذلك هناك فرق بين القتل العمد الذي يوجب
القصاص والقتل الخطأ الذي يوجب الدية.
ـ
وكذلك ميز التشريع الجنائي الجزائري بين الصورتين القصد الجنائي في الجرائم
العمدية من جهة، والخطأ في الجرائم غير العمدية من جهة أخرى، فمثلا نصّ على جريمة
القتل العمد في المادّة 254 ق ع "القتل هو إزهاق روح إنسان اعمدا".
وعاقبت عليها المادّة 254 ق ع بالإعدام.
ونصّت
على القتل الخطأ المادة 288 "كُل من قتل خطأ أو تسببّ في ذلك برعونته أو عدم
احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته الأنظمة يعاقب بالحبس من ستة
أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من 1.000 إلى 20.000 دينار".
وعليه
يكون تقسيم المبحث إلى مطلبين:
- المطلب الأوّل: الركن المعنوي في الجرائم العمدية (القصد الجنائي)
- المطلب الثاني: الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية (الخطأ)
المطلب الأول: الركن المعنوي في الجرائم العمدية (القصد الجنائي)
يعُرّف
القصد الجنائي بأنهّ "اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة مع علمه
بعناصرها". أو بأنهّ "إرادة ارتكاب الجريمة كما حدّدها القانون، بتوجيه
الفعل إلى إحداث النتيجة الضارّة".
والمشرّع
الجزائري أحيانا يستعمل مصطلح "القصد" كما في المادة 198 "...كُل
من أسهم عن قصد، بأيةّ وسيلة كانت، في إصدار أو توزيع أو بيع أو إدخال النقود أو
السندات..." وأحيانا يستعمل مصطلح
"العمد" كما في جريمة كسر الأختام عمدا أو الشروع عمدا في كسرها في
المادة 155، وجريمة الجرح العمد في المادّة 264...إلخ.
والقصد
الجنائي وإن كان مسألة نفسية، إلاّ أنها تتجسّد ويتمّ استخلاصُها من خلال ظروف
وملابسات الجرائم، وكذا البواعث الدافعة لارتكابها، والوسائل المستعملة وغيرها من
العناصر السابقة، والمعاصرة واللاحقة للجريمة.
الفرع الأول: عناصر القصد الجنائي
لا
يقوم القصد الجنائي إلاّ إذا توفرّت عناصره بأن يكون الجاني على علم بأركان
الجريمة، وتتجه إرادته إلى النشاط الإجرامي ونتيجته أو قبولها.
أوّلا: عنصر العلم:
يشُترط
لتحققّ القصد الجنائي علم الجاني بالعناصر التي تكُوّن الجريمة وتميزّها عن غيرها
من الجرائم. والجهل بأحد هذه العناصر أو الغلط فيها ينفي وجود القصد. لكن هناك
عناصر ثانوية أخرى ترتبط بالجريمة لا يؤثر الجهل بها أو الغلط فيها على القصد
الجنائي.
أ) العناصر التي يجب العلم بها ويؤثرّ جهلها على قيام القصد الجنائي
1) العلم بموضوع الحق المعتدى عليه، يهدف المُشرّع من وراء تجريم فعل
مُعينّ إلى صيانة حق يكون جديرا بالحماية الجنائية، لذا ينبغي أن يكون معلوما لدى
الجاني حتىّ يتوفرّ لديه القصد الجنائي، مثل العلم بأنّ المال مملوك للغير في
جريمة السرقة 350 ق ع ،والعلم أنّ الشخص حيُّ في جريمة القتل، والعلم بأنّ النقود
مزوّرة عند طرحها للتداول المادة 201 ق ع ج.
2) العلم بخطورة الفعل لكي يكون الجاني قاصدا مُتعمّدا ارتكاب الجريمة
ينبغي أن يكون عالما بأنّ فعله ينطوي على خطورة وأنهّ يشُكل اعتداء على مصلحة
محمية قانونا، فمثلا ينتفي القصد في القتل بالتسميم إن جهل الفاعل أنّ في الطعام
الذي قدّمه للضحية سُما، ومن وضع على جسد إنسان مادّة حارقة ضنا منه أنهّا عطر.
3) العلم بالنتيجة الإجرامية: النتيجة الإجرامية هي واقعها
مُستقبلية، يكون العلم بها عن طريق التوقعُّ، فيجب أن يتوقعّ الجاني النتيجة
الإجرامية كما يقُرّرها القانون في الجرائم ذات النتيجة، مثل أن يتوقعّ الجاني
بأنّ نتيجة فعله هي وفاة المجني عليه، فإذا كان الجاني يضرب الضحية مازحا ولا يعلم
أنّ هذا الضرب تنجم عنه الوفاة ينتفي قصد القتل، وتنحصر مسؤوليته في قصد الضرب
والجرح فقط.
4) العلم بالزمان والمكان: في بعض الجرائم يشترط القانون علم
الجاني بطبيعة المكان أو الزمان، مثل التجمهر في الطريق العمومي (المادّة 97 ق ع)،
والسكر العلني في الأماكن العمومية، وترك الأطفال والعاجزين في مكان خالٍ من
الناّس (المادّة 314 ق ع)، وبيت الخدمة بالنسبة للخادم السارق (المادّة 253 ق ع)
أو السرقة الموصوفة بسبب توفر ظرف الليل مع ظرف آخر (المادّة 353 ق ع). وزمن الحرب
في جريمة الخيانة (المادّة 97 ق ع).
5) العلم بالركن الخاص: مثل بعض الصفات المطلوبة في الجاني أو
المجني عليه التي يشُترط إحاطة العلم بها، كصفة الموظف في جريمة إهانة موظف أثناء
أداء مهامه (الم 144 ق ع) أو جرائم الرشوة واختلاس المال العام في المواد 25و 29
من قانون مُكافحة الفساد.
6) العلم بالظروف المشدّدة المُغيرّة لوصف الجريمة. إذا كان وصف الجريمة مُرتبطا ببعض
الظروف المشدّدة، فإنهّ ينبغي العلم بها كي يسُأل الشخص على أساسها. مثل جناية
السرقة الموصوفة المقترنة بظرف العنف وحمل سلاح ظاهر عندما يكون الجاني على علم
بهذه الظروف، ويسُأل عن جنحة السرقة البسيطة إذا انتفى علمُه بتوفرّها (المادّة 353
ق ع).
ب) العناصر التي لا يؤثر الجهل بها في قيام القصد الجنائي:
هناك
وقائع أخرى لا يتطلبّ القانون العلم بها، قد تكون مُرتبطة بالجريمة لكنهّا ليست
أركانا أو عناصر فيها، فالجهل بها لا يؤثر على وجود القصد الجنائي، ويحُاسب على
جرائمه على أساس العمد:
1) العلم بالأهلية الجنائية: إذا كان الجاني يجهل أنهّ أهل لتحمّل
المسؤولية ويظن مثلا أنهّ دون السن القانونية، أو أنّ له حصانة، أو أنهّ مُصاب
بمرض عقلي، وتبينّ أنّ الحقيقة غير ذلك، فهذا الجهل لا يؤثر في قيام القصد ومن ثمّ
المسؤولية.
2) العلم بالظروف الشخصية المشدّدة المتعلقة بالجاني كظرف العود، حيث لا يستطيع المتهم أن
يتحجّج بنسيانه الإدانة السابقة.
3) العلم بالقانون المُجرّم. العلم بالقانون مُفترض لدى عامّة
الناّس لا يجوز الدفع بجهله، حيث تنصّ مُعظم الدساتير ومنها المادّ ة 74 من
الدستور الجزائري بأنهّ لا يعُذر بجهل القانون. خاصّة إذا كانت الجريمة من الجرائم
المعلومة لدى الناس بالطبيعة وتتنافى مع مبادئ الأخلاق.
ثانيا: عنصر الإرادة:
يتحقق
القصد الجنائي إذا اتجهت الإرادة إلى السلوك الإجرامي ونتيجته بقرار حاسم
قرار.
أ) تعريف الإرادة:
الإرادة
هي قوة نفسية توجّه أعضاء الجسم نحو تحقيق غرض مُعينّ، فإذا كان هذا الغرض هو
نتيجة إجرامية تكون الإرادة إجرامية. أو هي نشاط نفسي واع ومدرك يسُيطر على السلوك
المادّي ويوجّهه نحو هدف تحقيق نتيجة إجرامية في الجرائم ذات النتيجة، وإلى اقتراف
الفعل في الجرائم المادّية. ويشُترط في الإرادة إذن أن تكون خالية من العيوب التي
قد تنفي التمييز أو حرية الاختيار.
ب) أثر الإرادة المَعيبة بعيب الغلط:
قد
تكون الإرادة معيبة بعيب الغلط في أحد عناصر الجريمة أو في محلهّا:
1) الغلط في عناصر الجريمة، إذا كان الغلطُ جوهريا ينصبّ على
واقعة تدخل في العناصر المُكوّنة للجريمة أو ظرفا مُشدّدا فإنهّ ينفي القصد
الجنائي ،كالغلط في النتيجة إذا اختلفت النتيجتان (الحقيقية والوهمية) في القيمة
القانونية، كمن يغلط في حقيبته في المطار لوجود تشابه مع حقائب أخرى فيأخذُ حقيبة
غيره، أو من يطُلق رصاصا في الهواء لتفريق التجمهر فيصُيب شخصا كان يقف في شرفة
منزله. لا يسُأل عن جريمة عمدية.
2) الغلط في المحل (موضوع النتيجة) لا ينفي القصد الجنائي كمن يرُيد
ارتكاب جريمة قتل على (عمّار) فيقتل شبيهه (كمال) ضناّ منه أنهّ (عمّار). وإذا
أطلق الجاني النار على (زيد) فأخطأ الهدف وقتل الشخص الذي كان أمامه (عمرو). فإنهّ
يسُأل عن جريمتين هما قتل (عمرو) والشروع في قتل (زيد).
الفرع الثاني: أنواع القصد الجنائي
يقُسّم
الفقه الجنائي صور القصد الجنائي إلى عدّة تقسيمات منها القصد العام والقصد الخاص،
والقصد المباشر والقصد الاحتمالي، والقصد العادي والقصد مع سبق الإصرار، والقصد
المحدود وغير المحدود.
أوّلا: القصد العام والقصد الخاص:
من
حيث الغاية والهدف الذي يسعى إليه الجاني يقُسّم القصد الجنائي إلى قصد عام وقصد
خاص:
أ) القصد العام:
هو
الغرض الفوري المباشر للجريمة، يتمثل في انصراف إرادة الجاني إلى تنفيذ السلوك
وتحقيق النتيجة مع علمه بعناصر الجريمة التي يرتكبها. وهو مطلوب في كل الجرائم،
فالقصد في القتل هو إزهاق روح الإنسان، والقصد في السرقة هو الإستلاء على المال
المسروق.
ـ
الباعث إلى ارتكاب الجريمة لا يعُتدُّ به في قيام الجريمة لآنهّ ليس رُكنا فيها،
ولأنّ الجريمة ليس غاية المجرم بل وسيلته في تحقيق غايته، والعبرة بالغرض المباشر
الذي يكون واحدا في المُساهمة الجنائية ولا يتعدّد بتعدّد المُساهمين فكلهّم ينوي
مثلا إزهاق الروح ولو تعدّد الباعث لارتكاب الجريمة بتعدّد المُساهمين وهو السبب
أو الغاية البعيدة أو الخلفية الكامنة وراء ارتكابها والتي تختلف من شخص لآخر. فقد
يكون القتل للإنتقام أو للشفقة أو للشرف أو لتصفية المُنافس أو للحصول على مكافأة
مالية، أو لدوافع سياسية أو دينية.
ـ
قد يعُتدُّ بالباعث في التشديد القانوني إذا كان الباعثُ دنيئا: مثل خطف الأشخاص
من أجل طلب فدية (الم 293 مُكرّر/2) والقذف بسبب الانتماء إلى مجموعة عرقية أو
مذهبية أو إلى دين معين (الم 298/2).
ـ
وقد يعُتدُّ به في تخفيف العقوبة إذا كان الباعثُ شريفا مثل مرتكب القتل والجرح
والضرب من أحد الزوجين على الزوج الآخر أو على شريكه في اللحظة التي يفاجئه فيها
في حالة تلبس بالزنا (الم279 ق ع).
ب) القصد الخاص:
هو
نيةّ مُحدّدة يستلزمها القانون لقيام الجريمة، تنصرف إلى تحقيق غاية مُعينّة أو
غرض خاص بالإضافة إلى الغرض العام للجريمة. يشترطه المُشرّع ويجب على القاضي أن
يثُبته في حكمه لأنّ الخطورة تكمن في سعي الجاني إلى تحقيق هذا الهدف. فالعلم
والإرادة لا يقتصران على أركان وعناصر الجريمة بل يمتدّان بالإضافة إلى ذلك إلى
وقائع أخرى ليست من أركان الجريمة.
وفي
حالة تخلفّ هذا القصد المُحدّد، فإنّ الفاعل لا يعاقب من أجل الجريمة الخاصة التي
يشترط القانون لارتكابها توافر القصد الخاص وإن كان من الممكن معاقبة الجريمة
بقصدها العام.
ـ
مثل الغرض الخاص للتزوير في الم 222 ق ع "كل من قلدّ أو زوّر أو زيفّ رخصا أو
شهادات أو كتابات أو وثائق تصدرها الإدارات العمومية بغرض إثبات حق أو شخصية أو
صفة أو منح إذن.." ومثل غاية الكسر العمدي للأختام في المادة 155 ق ع
"...وإذا كان كسر الأختام أو الشروع فيه قد وقع بغرض سرقة أو إتلاف أدلةّ أو
أوراق إثبات في إجراءات جزائية فيكون ...".
ثانيا: التقسيمات الأخرى للقصد الجنائي:
أ) القصد المُحدّد والقصد غير المُحدّد:
معيار
التمييز هو موضوع النتيجة الجرمية، ففي القصد المُحدّد تتجّه إرادة الجاني إلى
تحقيق نتيجة مُحدّدة مُعينّة بذاتها كما كان يقُدّرها، أمّا في القصد غير المُحدّد
فيتميزّ بضعف تحديد النتيجة، حيث يرتكب الشخص الجريمة قاصدا كل ما تحتمله من نتائج
دون تحديد أو تقدير مُسبق، مثل الشرطي الذي يطُلق النار على المتظاهرين لا يهمه من
أصاب منهم شخصيا لكن يقصد قتل عدد من الأشخاص. والتفرقة شكلية لا قانونية ولا
فائدة منها. ففي كلا الحالتين يتوقعّ المجرم النتيجة ويرُيدها.
ب) القصد المباشر والقصد غير المُباشر (الاحتمالي):
ـ
معيارهما توقع النتيجة بين اللزوم والإمكان، فالقصد المُباشر تتجّه فيه الإرادة
على نحو يقيني مُسبق إلى الاعتداء على الحق المحمي قانونا، والفاعل يقصد حصول
النتيجة بذاتها ويرُيدها ويتوقعّها كأثر حتمي، كما في إزهاق روح شخص من قبل آخر
وتعمّد إحداث هذه النتيجة عن طريق استعمال أداة قاتلة كالمسدس الذي صوبه إلى الرأس
أو القلب وكان الضحية قريبا منه.
ـ القصد
الاحتمالي تكون فيه النتائج المترتبة عن الفعل احتمالية كأثر مُمكن لارتكاب الفعل
وليست كأثر لازم وحتمي. أي أنّ حدوثها بالذات لم يكن مقصودا بشكل يقيني، ولكنهّا
غير مُستبعدة بالنسبة للجاني فهو يتوقعها ويقبلها، مثل الشخص الذي يقوم بأعمال
الضرب أو الجرح ضدّ الغير بصورة متعمّدة، مستعملا عصا حديدية يتوقع مجموعة من
النتائج تترتب عن فعله، كإصابة الشخص بكسور، أو موت الشخص، أو إصابته بعاهة
مستديمة أو فقدان أحد الأعضاء. أو كمن يضع السم لشخص مع توقعه بأن يأكل معه أشخاص
آخرون. فهو يسُأل عن جريمة القتل العمد لوجود القصد الاحتمالي.
ـ
قانون العقوبات الجزائري يعُاقب الشخص على قصده الاحتمالي في المادة 271 "إذا
نتج عن الضرب أو الجرح أو العنف أو التعدي...فقد أو بتر أحد الأعضاء أو الحرمان من
استعماله أو فقد البصر أو أية عاهة مستديمة أخرى فتكون العقوبة السجن المؤقت من 10
سنوات إلى 20 سنة. وإذا نتجت عنها الوفاة بدون قصد إحداثها فتكون العقوبة هي الحد
الأقصى للسجن المؤقت..".
جـ) القصد البسيط والقصد المُشدّد بسبق الإصرار:
ـ
عرّفت الم256 ق ع ج سبق الإصرار بأنهّ "عقد العزم قبل ارتكاب الفعل على
الاعتداء على شخص معين أو حتى على شخص يتصادف وجوده أو مقابلته وحتى لو كانت هذه
النية متوقفة على أي ظرف أو شرط كان "فالقصد بسبق الإصرار هو التفكير الهادئ
في الجريمة قبل التصميم عليها ،يتميزّ بمرور زمن بين اتخاذ قرار ارتكاب الجريمة
وتنفيذه، وذلك بالتفكير والعزم والإصرار في رويةّ. مثل مرور ساعات من التفكير في
أمر الجريمة يعمل فيها الجاني على إعداد العدّة والسير بضعة كيلومترات للوصول إلى
الضحية والإعتداء عليه. وهذه النيةّ تدُلّ على الخطورة الإجرامية للشخص.
ـ
بينما القصد العادي البسيط (الفوري) يكون تنفيذه فور اتخاذ القرار دون فاصل زمني،
مثل المشادّات الكلامية التي تنتهي بجريمة من جرائم العنف، أو من يرى اعتداء على
أخيه، فيأخذُ فأسا ويضرب بها المُعتدي فيقضي عليه. وهنا تنشأ النية وقت الواقعة.
المطلب الثاني: الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية
الأصل
في الجرائم أنهّا عمدية قائمة على القصد الجنائي، واستثناء يمكن أن تكون غير عمدية
قائمة على الخطأ. والفرق بين القصد الجنائي والخطأ هو أنّ في القصد الجنائي تسُيطرُ
الإرادة على مادّيات الجريمة وتتجّه لتحقيق النتيجة، بينما في الخطأ فإنّ الجاني
يريد الفعل لكن لا يريد النتيجة، وإنمّا يرجع حدوث النتيجة إلى إهمال الجاني
وإخلاله بواجب الحيطة والحذر.
الفرع الأول: التعريف بالخطأ (غير العمدي)
ما
مفهوم الخطأ غير العمدي؟ وما هو معياره؟ وماهي أنواع الجرائم القائمة على الخطأ
غير العمدي؟
أوّلا: مفهوم الخطأ غير العمدي:
أ) تعريف الخطأ غير العمدي:
يعرف
الفقه الخطأ غير العمدي بأنهّ فعل أو ترك إرادي تترتب عليه نتائج ضارّة لم يرُدها
الفاعل بطريق مباشر ولا غير مباشر. أو هو تقصير في مسلك الإنسان لا يقع من الرجل
العادي الذي تقُاس عليه تصرّفات الفاعل في نفس الظروف. فالجاني في الجريمة غير
العمدية لا يرُيد تحقيق النتيجة، ولكنهّ كان في وسعه تجنبها، ولذلك يعُاقب القانون
عليها لأنهّا تحدث ضررا اجتماعيا، ولأنّ للجاني فيها إرادة جنائية تتمثل في
الإخلال بواجب الحيطة والحذر الذي تتطلبّه الحياة الاجتماعية، وعدم توقع ما كان من
اللازم توقعه.
ب) معيار الخطأ غير العمدي:
معيار
الإخلال بواجبات الحيطة والحذر هو معيار شخصي وموضوعي:
ـ
فبالمعيار الشخصي يجب النظر إلى الشخص وظروفه لتحديد إن كان بإمكانه تفادي النتيجة
فيعدُّ مخطئا، أو عدم إمكانية تفاديه للنتيجة حسب ظروفه وصفاته فلا يعُدّ
مخطئا.
ـ
وبالمعيار الموضوعي يقارن الشخص بشخص آخر متوسط الحذر والاحتياط، فإذا وقع هذا
الأخير فيما وقع فيه الأوّل فلا مجال للمساءلة، وإذا استطاع تفادي النتيجة
الإجرامية فيعتبر الأوّل مُخطئا.
ثانيا: مجال الخطأ غير العمدي:
أ) أنواع الجرائم التي تحدثُ بالخطأ غير العمدي:
ـ الأصل أن يكون الخطأ غير العمدي في المخالفات مثل المخالفات المنصوص عليها
في المواد 460-461 ق ع، مثلا نصّت المادة 460 "..ويجوز أن يعاقب أيضا بالحبس
لمدة ثلاثة أيام على الأكثر:
1ـ
كل من أهمل صيانة وإصلاح أو تنظيف الأفران أو المداخن أو المصانع.... ".
ونصّت المادّة 462 أنهّ "يجوز أن يعاقب أيضا بالحبس لمدة ثلاثة أيام على
الأكثر: 1ـ كل من كان مُلزما بإنارة جزء من طريق عام وأهمل إنارته. 2ـ وكل من أهمل
إنارة المواد التي يضعها أو الحفر التي يحدثها في الشوارع...3ـ كل من أهمل تنفيذ
اللوائح التنظيمية أو القرارات المتعلقة بالطرق العمومية...5ـ كل من ألقى أو وضع
في الطريق العمومي أقذار أو كناسات أو مياه قذرة أو أيةّ مواد أخرى يؤدي سقوطها
إلى إحداث ضرر.." ـ الإستثناء قد يكون في الجنح مثل القتل الخطأ والجروح
الخطأ (المواد288 و289 ق ع).
ـ
المادّة 288 "كُل من قتل خطأ أو تسبب في ذلك برعونته أو عدم احتياطه أو عدم
انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته الأنظمة. يعُاقب بالحبس من ستة (6) أشهر إلى
ثلاث (3) سنوات وبغرامة من 1.000 دج إلى 20.000 دج. ونصّت المادّ " 289 بأنهّ
إذا نتج عن الرعونة أو عن عدم الاحتياط إصابة أو جرح أو مرض أدى إلى العجز الكلي
عن العمل لمدة تجاوز ثلاثة أشهر.، يعُاقب الجاني بالحبس من شهرين إلى سنتين، و
وبغرامة من 1.000 دج إلى 20.000 دج.
ـ إستثناءا جدّا ونادرا في الجنايات مثلما نصّت عليه المادة
66 ق ع " يعاقب بالسجن المؤقت من 10 سنوات إلى 20 سنة كل حارس وكل أمين بحكم
وظيفته أو بحكم صفته على معلومات.... يمكن أن تؤدي معرفتها إلى الكشف عن أسرار
الدفاع الوطني يكون قد قام بغير قصد الخيانة أو التجسس بما يأتي:
1ـ
إتلافها أو اختلاسها ...2ـ إبلاغها إلى علم شخص... وتكون العقوبة بالسجن المؤقت من
5 سنوات إلى 10 سنوات إذا كان الحارس أو الأمين قد ارتكب الجريمة برعونة أو بغير
حيطة أو بعدم تبصر أو بإهمال أو بعدم مراعاة الأنظمة".
ب) عدم اشتراط الخطأ غير العمدي في بعض الجرائم:
1) الجرائم المادّية لا يشُترطُ فيها تواجد الركن المعنوي، وهي
التي توجد من الناحية القانونية وتقع تحت طائلة العقاب لمجرّد ارتكاب السلوك
المادّي، بصرف النظر عن أي عنصر نفسي أو معنوي، ولو في صورة الخطأ بالإهمال، مثل
مُخالفات المرور. والتي تقُام فيها المسؤولية الجزائية بدون خطأ، حيث لا في صورة
قصد جنائي ولا في صورة خطأ. بل يكفي القاضي أن يثُبت الفعل لإدانة المُخالف دون
الحاجة لإثبات الإهمال أو الرعونة أو عدم الانتباه.
2) الشروع والمساهمة الجنائية يرى الفقه أنّ الشروع والاشتراك في
الجريمة لا يتُصوران في الجريمة غير العمدية. أي لا يكون الشروع والمساهمة في
الجريمة بالإهمال أو الرعونة أو عدم الاحتياط والانتباه، بل يكون مُتعمّدا وعن
قصد.
الفرع الثاني: صور الخطأ (غير العمدي)
هناك
صور للخطأ يتفق عليها الفقه والتشريع تمُيزّه عن العمد، وصور فيها الخلاف، بين
الخطء العمد.
أوّلا: أنواع الخطأ في الجرائم غير العمدية:
حصر
المُشرّع الجزائري صور الخطأ غير العمدي بعض نصوص قانون العقوبات مثل المادّة 288
ق ع وألزم القاضي بإثباتها في حكمه بإدانة المتهم احتراما لمبدأ الشرعية الجنائية.
قد تكون في شكل سلوك إيجابي أو في شكل سلوك سلبي: الرعونة والإهمال وعدم الحيطة
وعدم الانتباه وعدم مراعاة الأنظمة.
أ) الرّعونة
هي
التصرّف بطيش ولامُبالاة عن نقص في المهارة وسوء تقدير، أوعن جهل بما يلزم العلم
به. أو هي القيام بسلوك دون إدراك لخطورته وتوقع نتائجه، مثل من يرمي بحجارة من
نافذة منزله لا يبُالي على من وقعت، أو من يقوم بتقليم شجرة في ساحة عمومية فيقع
فرع منها على أحد المارّة، وهو ما يسُمّى الرعونة المادية. أو كمن يقوم بتحريك آلة
عن جهل بطريقة تشغيلها فيتسببّ في جريمة، أو كخطأ المهندس المعماري في تصميم
البناء فيتسببّ في تهدّم البناء وإصابة أشخاص أو وفاتهم، وهو ما يسُمّى الرعونة
الفنيّة
ب) عدم الحيطة
هو
قيام الجاني بممارسة بعض الأعمال الخطرة مع نقص الحذر والاحتراز اللازم، رغم علمه
وتوقعه لنتائجها، أو هو الإقدام على فعل بطريق الاستخفاف والاستهتار مع إدراك
مخاطر الفعل ودون التبّصّر بعواقبه، فعدم الحيطة هو نقص الحذر اللازم للقيام
بتصرفات خطرة، مثل قيادة السيارة بسرعة أمام المدرسة، أو توقيفها في مكان ممنوع
التوقف فيها. ونوم المرضعة أمام رضيعها ومن ثمّ قتله خنقا بانقلابها عليه، أو من
يهدم مباني دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة. أو من يطُلق البارود في عرس ويصُيب به
شخصا، أو من يلقي سيجارة من نافذة السياّرة في أحد الحقول فيحترق.
جـ) الإهمال وعدم الانتباه:
عدم
اتخاذ الجاني تدابير الواجب العام لقواعد الخبرة الإنسانية تجنبُا لأيةّ نتيجة
مُضرّة، فهو موقف سلبي من الجاني بإغفال واجب اتخاذ التدابير اللازمة والوسائل
المُناسبة لتفادي وقوع جريمة.
كمن
يحفر حفرة ولا يضع إشارة لوقاية المارّة من السقوط فيها، أو كالأم التي تترك طفلها
يلعبُ أمام موقد الغاز فيسقط على الموقد ويصُاب بحروق، حيثُ تدُان الأم بجريمة
القتل الخطأ، لأنهّا لم تتوقع موته رغم كونها بإمكانها توقع النتيجة. ومثل مالك
الشقة المؤجّرة الذي يهُمل واجب الصيانة وتفقد عيوب العين المؤجّرة ممّا يؤدّي إلى
وفاة المُستأجر بتسرّب الغاز أو بتهدّم المبنى. أو مثل عدم قيام حارس ممر السكّة
بتنبيه المارّة عن وصول القطار، فيتسببّ بذلك في حادث مُميت يسُأل فيه عن جريمة
القتل الخطأ.
د) عدم مراعاة الأنظمة والقوانين
هذا
الخطأ الخاص مصدره في القوانين المتضمّنة قواعد المهنة أو السلوك والنصوص
التنظيمية كالمراسيم والقرارات مثل عدم مراعاة قواعد المرور وظروف تطبيقها، كمن
يخالف الإشارة الحمراء فيقع حادث سير، ومخالفات النصوص التنظيمية. أو مثل صدور
قرار من رئيس البلدية بهدم مبنى لكونه آيلا للسقوط، ويتراخى المعني بالقرار في
تنفيذه.
ثانيا: طبيعة الخطأ في بعض الجرائم بين العمد وعدم العمد؟:
أ) طبيعة الخطأ في الجرائم المتجاوزة القصد أو المشدّدة النتيجة:
1) ماهية الجريمة المتجاوزة القصد والمشدّدة النتيجة: الجريمة المتعدّية القصد أو المُشدّدة
النتيجة، هي السلوك المُجرّم الذي يرتكبه الجاني عمدا بقصد تحقيق نتيجة مُعينّة،
لكن تتحققّ نتيجة أشدّ من التي كان يقصدها. ومن أمثلتها في التشريع الجزائري جريمة
الضرب والجرح العمدي المُفضي إلى الوفاة دون قصد إحداثها الم 264/2، وجريمة الضرب
والجرح العمدي المُفضي إلى إحداث عاهة مُستديمة دون قصد إحداثها الم 264/3 وجرائم
العنف المُفضية إلى بتر عضو أو عاهة مُستديمة أو وفاة (المواد 265-274 ق ع).
ـ
وسواء كانت النتيجة الإجرامية المُشدّدة الغير مقصودة تتعلقّ بنفس المصلحة
المُعتدى عليها ومن نفس جنسها مثل الإنسان في الضرب والجرح العمدي المُفضي إلى
الوفاة، أو كانت تهدرُ مصلحة مُغايرة عن المصلحة التي كان يرُاد إهدارها، مثل حرق
الممتلكات المُفضي إلى عاهة مُستديمة أو وفاة (م399 ق ع).
2) أساس المسؤولية الجزائية في الجريمة المتجاوز القصد والمشدّدة
النتيجة:
ـ
اعتبرها البعض خطأ غير عمدي، لأنّ الجاني لم يكن يقصد تحقيق النتيجة
المُشدّدة.
ـ
واعتبرها البعض قصدا احتماليا ،لأنّ الجاني لا يقصد النتائج المُشدّدة لكن يتوقعها
ويقبلها.
ـ
والبعض الآخر اعتبرها مسؤولية جزائية بدون خطأ وبدون ركن معنوي أصلا سواء في صورة
قصد جنائي أو خطأ غير عمدي، بل لمجرد الركن المادّي فقط.
ـ
بالنسبة للمُشرّع الجزائري أسّس العقوبة على أساس القصد الإحتمالي، ففي جريمة
الضرب والجرح العمدي المُفضي إلى الوفاة دون قصد إحداثها (المادّة 264/2)، لم
يعُاقب عليها لا بعقوبة القتل العمد ولا القتل الخطأ، ولا بعقوبة الضرب والجرح
العمدي وحدها، بل عاقب الفعل بعقوبة أشدّ من عقوبة الضرب وأخف من عقوبة القتل. وفي
جريمة الإجهاض المُفضي إلى الموت المنصوص عليها في المادّة 304 ق ع يفترض من حيث
القصد أنهّا جنحة إجهاض عقوبتها الحبس والغرامة. ومن حيث النتيجة أنهّا جناية قتل
عمد، وليست جنحة القتل الخطأ. لكن المُشرّع عاقب عليها بجناية إجهاض أفضى إلى
الموت بالسجن المؤقت من 10 سنوات إلى 20 سنة.
ب) خطأ الضحية في الجرائم غير العمدية:
ـ
إذا وقع الفعل الضارّ الذي يمكن تكييفه جنائيا بسبب خطأ المجني عليه وحده، فإنّ
الفاعل لا يسُأل جنائيا عن النتيجة الجرمية مثل إصابة الضحية بحادث مرور أثناء
عبوره الطريق في غير ممرّ الراجلين وبعد الإشارة الخضراء للسيارات، فإنّ سائق
السياّرة لا يسُأل جنائيا عن الحادث.
وهناك
استثناء قرّرته المحكمة العليا وهو عدم جواز دفع المسؤولية الجزائية على أساس خطأ
المجني عليه في القتل الخطأ أو الجروح الخطأ ضدّ الأطفال في حادث مرور أمام
المدرسة، لأنّ الطفل غير قادر على التفكير والتنبؤ بعواقب تصُّرُّفاته، حيث يتحمّل
السائق المُتسببّ في الحادث كامل المسؤولية وحده.
ـ
إذا وقعت الجريمة بخطأ كل من الجاني والمجني عليه تخُففّ العقوبة وفق السلطة
التقديرية للقاضي.
المرجع:
- د. فريد روابح، محاضرات في القانون الجنائي العام، موجهة لسنة الثانية لسانس، جامعة محمد لمين دباغين- سطيف، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، الجزائر، السنة الجامعية 2018-2019، ص92 إلى ص103.