التحكيم في إطار المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى
يعتبر المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول
ورعايا الدول الأخرى CIRDI من بين أهم الهيئات على المستوى الدولي التي
تقدم طرقا بديلة لحل خلافات الاستثمارات الأجنبية، وقد صادقت على الاتفاقية
المنشئة له أكثر من 160 دولة من بينها الجزائر كما ذكرنا أعلاه.
وعرضت على المركز العديد من القضايا التي كانت الجزائر
طرفا فيها مما يضفي أهمية بالغة على البحث في هذا الموضوع.
نظرا للتشابه الكبير في مراحل العملية التحكيمية بين
المركز الدولي والتشريع الجزائري (الخصومة التحكيمية، الاعتراف بالحكم التحكيمي
وتنفيذه، الطعن في الحكم التحكيمي)، مع بعض الاختلافات الطفيفة فاننا سنركز على
النظام القانوني للمركز من خلال البحث في شروط اختصاصه (المبحث الأول) وكذا خصوصية
اتفاق التحكيم أمام المركز (المبحث الثاني).
المبحث الأول شروط اختصاص المركز
بالرجوع إلى المادة 25 من اتفاقية البنك الدولي لتسوية
منازعات الاستثمار، فإن اختصاص المركز الدولي يمتد إلى أي نزاع قانوني ينشأ مباشرة
عن أحد الاستثمارات، بين دولة من الدول المتعاقدة أو إحدى مؤسساتها وبين أحد
مواطني دولة متعاقدة أخرى. لذا وضعت اتفاقية واشنطن المنشئة للمركز الدولي شروطا
للانعقاد اختصاص المركز في نظر المنازعة وتتمثل في:
1- أن يكون طرفا هذه العلاقة دولة متعاقدة وأحد رعايا
دولة متعاقدة أخرى (المطلب الأول).
2- وجود نزاع قانوني متعلق باستثمار (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الشروط المتعلقة بأطراف النزاع
تعد الدولة ومؤسساتها طرفا أساسيا في أي خصومة تحكيمية
تطرح أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (الفرع الأول).
إلا أن الدولة ليست هي الطرف الوحيد في منازعات
الاستثمار التي تعرض على تحكيم المركز ،حيث يكون في مواجهتها المستثمر الأجنبي
سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا (الفرع الثاني)
الفرع الأول: الدولة في تحكيم منازعات الاستثمار
الدولة شخص من أشخاص القانون العام هدفها تحقيق النفع
العام، فهي تتمتع بامتيازات السلطة العامة التي تتمثل في سلطة إصدار قرارات إدارية
وسلطة التنفيذ الجبري. لكنها تتنازل عن حصاتها التنفيذية بمجرد قبولها بتحكيم
المركز.
ولكي تتمكن الدولة من اللجوء إلى تحكيم المركز الدولي
لتسوية منازعات الاستثمار بين الدولة المضيفة للاستثمار والمستثمر الأجنبي، يجب أن
تكون هذه الدولة من الدول المتعاقدة. اتجه الفقه والقضاء إلى اعتبار اتفاقيات
التحكيم التي تبرمها الدول تنازلا منها عن حصانتها القضائية. لكن هناك تساؤلات
عديدة يمكن أن تطرح كنتيجة لفكرة التنازل عن الحصانة القضائية، فهل يترتب عن ذلك
تنازل عن الحصانة ضد التنفيذ على أموال الدولة؟ وهل يشمل هذا التنازل الأموال
العامة أم الأموال الخاصة؟.
في الحقيقة، تعتبر الموافقة على اتفاق التحكيم من طرف
الدولة التزاما من طرفها على تنفيذ أحكام المحكمين، وأي إخلال بهذا الالتزام يدفع
الطرف الآخر إلى المطالبة بالتنفيذ على أموالها.
لكن الاجتهاد القضائي يذهب إلى رفع الحصانة على الأموال
المخصصة لأهداف تجارية فقط. ومع ذلك فإن وقوع عدة حجوزات لدى الغير على أموال تعود
لدولة أجنبية، أعطت الفرصة للمحاكم الفرنسية لعدم الأخذ بحصانة التنفيذ، ومن أمثلة
ذلك ما جاء في قرار محكمة التمييز في أول أكتوبر 1985 أنه: "خلافا لأموال
الدول الأجنبية التي هي غير قابلة للحجز إلا استثناءا عندما تكون هذه الأموال قد
خصصت لنشاط اقتصادي أو تجاري، فإن أموال المؤسسات العامة، سواء تمتعت بالشخصية
المعنوية أم لا، عندما تكون هذه الأموال جزءا من ذمة مالية مخصصة لنشاط رئيسي خاضع
للقانون الخاص، يمكن أن يحجز عليها من قبل كافة دائني هذه المؤسسة العامة".
لقد أدىّ قبول الدولة كطرف من أطراف النزاع التحكيمي ضد
شخص طبيعي أو معنوي مستثمر على إقليمها، رغم ما يرتبه من مفاهيم تقليدية خاصة
بالسيادة والحصانة وغيرهما، إلى إضفاء طابع خاص على التحكيم التجاري الدولي،
واستقرار المعاملات بين الدول ورعايا الدول الأخرى من خلال وفاء الدولة بما وعدت
به المستثمر من ضمانات لاستثماره.
لم تسمح اتفاقية واشنطن للدولة وحدها أن تطلب التحكيم أمام
المركز، وإنما نصت على أن المؤسسات التابعة لها والمعينة من طرفها لها الحق أيضا
في طلب التحكيم، أي أن اختصاص هذا الأخير لا يقتصر على الدول المتعاقدة فقط وإنما
يمتد إلى المؤسسات والوكالات التابعة لهذه الدول. لكن المادة 25 من الاتفاقية وضعت
شروطا لقبول المؤسسات التابعة للدولة المتعاقدة كطرف في النزاع التحكيمي الذي يطرح
أمام هيئاتها التحكيمية، تتمثل هذه الشروط فيما يلي:
1- أن تحدد الدولة المتعاقدة المؤسسات المعينة للمركز.
2- أن تكون المؤسسات المعينة تابعة لدولة متعاقدة بحيث
تمارس هذه الأخيرة سلطات واسعة في تسييرها.
3- أن توافق الدولة على قرار المؤسسة التابعة لها طلب
تحكيم المركز، إلا إذا أعلمت هذه الأخيرة المركز عدم وجود حاجة إلى قبول مسبق
منها، ويهدف هذا الشرط إلى تحميل الدولة تبعات القرارات التي ستصدرها هيئة التحكيم
في النزاع.
الفرع الثاني: المستثمر الأجنبي في منازعات تحكيم الاستثمار
أمام أزمة الثقة بين المستثمرين الأجانب والدول المضيفة
للاستثمار، وإزاء خوف المستثمرين من المخاطر التي قد تلحق باستثماراتهم والناتجة
عن بعض التدابير الإدارية والسياسية والتشريعية التي قد تتخذها الدولة المضيفة
للاستثمار، منحت اتفاقية واشنطن لهؤلاء المستثمرين الحق المباشر باللجوء إلى
التحكيم الذي يرعاه المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، دون أن يكونوا بحاجة
إلى تدخل دولتهم أو إذنها في الإجراءات التحكيمية المتبعة ،وذلك في المادة 25 من
الاتفاقية والتي اعتبرت أن اختصاص المركز يمتد ليشمل أي نزاع قانوني بين دولة من
الدول المتعاقدة أو أحدى المؤسسات التابعة لها، وبين أحد مواطني دولة أخرى
متعاقدة، تشمل عبارة "مواطني إحدى الدول الأخرى المتعاقدة" الأشخاص
الطبيعيين وكذلك المعنويين.
وبالتالي فإن الطرف الآخر في تحكيم المركز الدولي لتسوية
منازعات الاستثمار يجب أن يكون مستثمرا أجنبيا من دولة أخرى سواء كان هذا المستثمر
شخصا طبيعيا أو شخصا معنويا.
أولا/ الشخص الطبيعي: عرفت المادة
25 في الفقرة الثانية منها الشخص الطبيعي الذي يعتبر من مواطني دولة أخرى تابعة
كما يلي: "أي شخص طبيعي متعاقد يحمل جنسية دولة متعاقدة غير الدولة الطرف في
النزاع، في التاريخ الذي وافق فيه الطرفان على عرض النزاع للتوفيق أو طرحه على
التحكيم، وكذلك في التاريخ الذي سجل فيه طلب التوفيق أو التحكيم طبقا للفقرة 3 من
المادة 28 على أن هذه العبارة لا تشمل أي شخص كان يحمل أيضا في أي من التاريخين
جنسية الدولة الطرف في النزاع".
لم تخول اتفاقية واشنطن لكل شخص طبيعي مستثمر حق اللجوء
إلى التحكيم ضد الدولة المضيفة للاستثمار، وإنما وضعت شروطا لابد من توفرها حتى
يكون لهذا الشخص الطبيعي إمكانية طلب التحكيم أمام المركز:
أ- أن يحمل الشخص الطبيعي جنسية إحدى الدول
المتعاقدة
لا بد من رابطة الجنسية بين المستثمر وبين إحدى الدول
المتعاقدة، ولا يخدم هذا الشرط الأشخاص الطبيعية التي تستثمر في دول أخرى، إذا
رفضت الدولة التي ينتمون إليها الانضمام إلى الاتفاقية، مادام هذا البند يحرم
الأشخاص الذين لم تصادق الدول المنتمين إليها بجنسيتهم على الاتفاقية، من حق
اللجوء إلى التحكيم باعتباره من الضمانات المهمة التي تحمي المستثمر الأجنبي.
أما إذا كان الشخص الطبيعي يتوفر على أكثر من جنسية دولة
متعاقدة، فإن الفقه أقر أن الشخص الطبيعي المنتمي إلى جنسية دولة طرف في النزاع
وفي نفس الوقت حامل لجنسية دولة أخرى متعاقدة، لا يمكن أن يكون طرفا في تحكيم
المركز.
وعموما فإن شرط الجنسية الذي اشترطته الاتفاقية يهدف إلى
تجنب وتفادي أية شروط مصطنعة يمكن من خلالها للشخص الطبيعي التوصل إلى اختصاص
المركز كأن يقوم بتغيير جنسيته لكي يصبح داخلا في اختصاصه.
ب– شرط تاريخ اكتساب الجنسية: يجب أن يكون
المستثمر حاملا لجنسية دولة متعاقدة عند إبرام اتفاقية التحكيم مع الدولة المضيفة
لاستثماره، وأن يستمر هذا الاكتساب إلى غاية تاريخ تسجيل طلب التحكيم لدى الأمانة
العامة للمركز.
من الضروري أن يمتد التمتع بجنسية الدولة المتعاقدة ما
بين التاريخين، والهدف من ذلك هو استبعاد تجنيس المعاملة التي يمكن أن تحدث لجعل
المستثمر الذي ينتمي إلى دولة غير متعاقدة يستفيد من خدمات المركز، بعد أن فقد
جنسية الدولة المتعاقدة الأولى التي أبرم في ظلها اتفاق التحكيم مع الدولة المضيفة
للاستثمار.
ج– ألا تكون للشخص الطبيعي جنسية الدولة
المضيفة لاستثماره: إذا كان
المستثمر يحمل جنسية الدولة الطرف في النزاع، لا يمكن قبوله طرفا في تحكيم المركز
ولو كان يحمل في نفس الوقت جنسية دولة أخرى متعاقدة، فالاتفاقية بإحداثها إجراءات
للتحكيم بين المستثمر الخاص والدولة المضيفة لم ترد إحلال هذه الوسيلة محل وسائل
التسوية الداخلية فيما بين الدولة ورعاياها، إن الشخص الطبيعي ملزم أن يذكر صراحة
عند تقدمه للمركز أنه لا يتمتع بجنسية الدولة الأولى الطرف في النزاع.
بينما يكفي، لتعتبر محكمة المركز مختصة، أن يتمتع الشخص
بجنسية أية دولة متعاقدة حتى ولو كان يتمتع بجنسية دولة أخرى، سواء كانت متعاقدة
أم غير متعاقدة ولكن المهم ألا تكون هذه الدولة الأخرى هي الطرف في النزاع، والسبب
في ذلك هو أن أهم ميزة من مميزات التحكيم في المركز الدولي لتسوية منازعات
الاستثمار، عدم وحدة جنسية أطراف النزاع.
في ظل قواعد القانون الدولي، فإن قانون الجنسية المدعى
بها هو الذي يحدد ما إذا كان الطالب يتمتع بجنسية هذه الدولة أم لا، وفي الحالات
التي يسكت فيها القانون الوطني فإن المحاكم تكون لها سلطة الفصل في موضوع الجنسية،
وغالبا ما تأخذ المحاكم في هذا الخصوص بما استقرت عليه محكمة العدل الدولية في أن
الجنسية عبارة عن رابطة قانونية أساسها الصلة الواقعية بمجتمع معين، أي أن المحاكم
يمكن أن تأخذ بمعيار الصلة الفعلية لتقرير موضوع الجنسية.
ثانيا: الشخص المعنوي: تهدف اتفاقية في حد ذاتها إلى مساعدة الدول على تحقيق التنمية الاقتصادية على المستوى الوطني والدولي، حيث سعى واضعوها إلى توفير مناخ ملائم للاستثمارات الدولية حسب ما ورد في ديباجاتها التي نصت على: "مراعاة لضرورة التعاون الدولي لأجل التنمية الاقتصادية والدور الذي يمكن أن تلعبه الاستثمارات الخاصة الدولية".
نصت الاتفاقية على شروط ينبغي توفرها في المستثمر الشخص
المعنوي حتى يمكنه اللجوء إلى التحكيم، وتتميز هذه الشروط بالمرونة لأنها، وإن
كانت تشددت مع المستثمر الشخص الطبيعي ،فهذا لا أهمية له من الناحية العملية، لأن
جل الاستثمارات التي تتم في البلدان النامية يقوم بها أشخاص معنويون وخصوصا شركات
الأموال.
أشارت إلى هذه الشروط الفقرة الثانية من المادة 25 من
الاتفاقية التي نصت على: "كل شخص معنوي كانت له جنسيته دولة متعاقدة، غير
الدولة الطرف في النزاع في التاريخ الذي وافق فيه الطرفان على عرض النزاع للتوفيق،
أو طرحه على التحكيم. وأيضا أي شخص معنوي كانت له في ذلك التاريخ جنسية الدولة
الطرف في النزاع، لكن اتفق الطرفان على اعتباره بمثابة رعية لدولة متعاقدة أخرى،
بسبب خضوعه لرقابة مصالح أجنبية.
تتلخص الشروط السابقة فيما يلي:
أ- تمتع الشخص المعنوي بجنسية دولة متعاقدة في الاتفاقية
غير الدولة الطرف في النزاع في تاريخ إبرام اتفاقية التحكيم.
ب – وجود اتفاق بين الشخص المعنوي والدولة الطرف في
النزاع على اللجوء لتحكيم المركز.
بناء على ما تقدم نرى أن اتفاقية واشنطن تساهلت كثيرا مع
الشخص المعنوي المستثمر مقارنة مع الشخص الطبيعي المستثمر، سواء فيما يتعلق بتاريخ
انتمائه إلى جنسية دولة أخرى متعاقدة أو فيما يتعلق باشتراط اتفاق فقط بينه وبين
الدولة الطرف في النزاع.
غير أنه بالرغم من هذه التسهيلات التي يتمتع بها الشخص
المعنوي في ظل اتفاقية واشنطن فإن هناك صعوبات تتمثل أساسا في المشروعات المشتركة
التي توجد فيها أقلية أو مساواة لرأس المال. فالمشاركة في رأس المال وحده لا يصبح
معيارا محددا لفكرة السيطرة حيث يمكن لطرف له أقلية المشاركة المالية أن يتحكم في
المشروعات بسبب تمتعه بسيطرة من الناحية الإدارية أو الفنية، وبالتالي فعدم وضع
تعريف محدد لما يشكل السيطرة الأجنبية، يعطي الحق للأطراف في عقد الاستثمار الحرية
في تحديد ما قد يشكل هذه السيطرة من الناحية المالية أو الإدارية أو من الناحية
الفنية ويعطي لمحكمة التحكيم أن تبت في هذه المسألة بسلطة واسعة إذا عرضت عليها.
المطلب الثاني: أن يكون النزاع قانونيا متعلقا بالاستثمار
لكي تقبل الدعوى التحكيمية المؤسسة على اتفاق الاستثمار
بين دولة المستثمر والدولة المضيفة لاستثماره، أمام الهيئة التحكيمية لدى المركز
الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى ،يجب ألا يتعارض
موضوع النزاع المرفوعة بشأنه، مع مفهوم "الاستثمار" المنصوص عليه في
الاتفاقية أو القانون الوطني (الفرع الأول)، وأن تكون المنازعة ذات طابع قانوني لا
سياسي (الفرع الثاني).
الفرع الأول: مفهوم الاستثمار المشمول بالحماية
يمثل الاستثمار في الواقع مفهوما متغيرا، يتغير ويتطور
بتطور الظروف والأوضاع الاقتصادية على المستوى الدولي. وقد أعطى المشرع الجزائري
مفهوما واسعا للاستثمار والمستثمرين من أجل الاستفادة بأكبر قدر ممكن من رؤوس
الأموال والخبرات الأجنبية في مختلف النشاطات الاقتصادية، متبنيا طريقة تعداد أوجه
ومجالات الاستثمار التي يمكن أن تستفيد من أحكامه دون أن يعطي تعريفا دقيقا
للاستثمار في حد ذاته بينما تجاهلت اتفاقية واشنطن، التي أبرمت أصلا لغرض تسوية
الخلافات المتعلقة بالاستثمارات بين الدول ورعايا الدول الأخرى ،إعطاء أي مفهوم
للاستثمار. لكن اشتراطها موافقة أطراف النزاع لقبول نظر المنازعة المتصلة مباشرة
بأحد الاستثمارات يوحي بأنها أعطتهم الحرية في الاتفاق على المفهوم الذي يرونه
مناسبا .ومعظم النزاعات المطروحة على المركز الدولي CIRDI
تستند على اتفاقية ثنائية خاصة بحماية وتشجيع الاستثمار، التي تتضمن بدورها تعريفا
للاستثمار المشمول بالحماية.
الفرع الثاني: طبيعة المنازعة التحكيمية الخاصة الاستثمار
عندما لا يختار الأطراف اللجوء إلى القضاء الوطني الذي
نصت عليه بعض الاتفاقيات الثنائية لتشجيع وحماية الاستثمار وحددت حالات اللجوء
إليه على سبيل الحصر، ويختارون تحكيم المركز الدولي، تطرح إشكالية طبيعة المنازعة
التي يمتد إليها اختصاصه.
من خلال الفقرة الأولى من المادة 25 من اتفاقية واشنطن
لسنة 1965، التي نصت على امتداد اختصاص المركز إلى المنازعات ذات الطابع القانوني
التي تنشأ بين دولة متعاقدة وأحد رعايا دولة متعاقدة أخرى.
يتبين لنا بأن النزاعات المعينة هي "النزاعات
القانونية"، لكن الاتفاقية لا تفسر العبارة السابقة مما يضفي الغموض عليها،
فما هو النزاع القانوني وما هو النزاع غير القانوني؟
ورد تعريف الخلاف القانوني في حكم محكمة العدل الدائمة
الصادر بتاريخ 30 أوت 1924 بشأن قضية مافروماتيس Mavrommatis
بأنه عدم الاتفاق حول مسألة تتعلق بالقانون أو الواقع أو أي اختلاف وتصادم في
وجهتي النظر القانونية أو مصلحية بين شخصين. ولم يأت تعريف محكمة العدل الدولية
بما يغني عن البحث عن مفهوم النزاع القانوني، فهو أورد عبارة "مسألة تتعلق
بالقانون" دون أن يعطي معايير تسمح بتمييزها عن المسائل
"السياسية". نشير إلى أن الفقه انقسم إلى اتجاهين:
يعتمد الأول المعيار الموضوعي ومبدؤه اعتبار المنازعات
التي " لا تسمح بطبيعتها بأن تعرض على التحكيم" منازعات سياسية، والأخرى
منازعات قانونية .
ويعتمد الثاني المعيار الشخصي مبدؤه الاعتماد على اتجاه
أرادة الأطراف، فإذا أرادوا تطبيق القانون على النزاع فهو قانوني وإذا أرادوا
استبعاده خدمة لمصالحهم كان النزاع سياسيا. نرى بأن منازعات الاستثمار لا تطرح
إشكالات فيما يخص طبيعة النزاع، لأن معظم الاتفاقيات استعملت عبارة: "تتم
تسوية كل خلاف يتعلق بتفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالطرق الدبلوماسية بين الطرفين
المتعاقدين، وفي حالة عدم التوصل إلى تسوية الخلاف، يحال بناء على طلب أحد
الطرفين، على محكمة تحكيمية". فالاتفاقيات تشترط موافقة الطرفين على اللجوء
إلى التحكيم وتحديد موضوع النزاع؛ فلا مجال للاختلاف حول طبيعة نزاع وافق الأطراف
على إحالته إلى هيئة التحكيمية إلا أن الاشكال يطرح عندما لا تحدد الدولة المضيفة
مسبقا أنواع هذه المنازعات ،وهو ما دفع بعض الفقه إلى وضع معايير مختلفة لإضفاء
الصبغة الاستثمارية على المنازعة ،فهناك المعيار الشخصي الذي يقوم على إرادة
الأطراف لاعتبار عملية اقتصادية ما ذات طابع استثماري، أي أن للأطراف سلطة تقديرية
واسعة في تقرير ما إذا كانت المعاملة تعتبر استثمارا ،بل إن مجرد إدراج الأطراف
لشرط تحكيم المركز في عقد الاستثمار يفيد أن العملية هي عملية استثمارية، أما
المعيار الآخر فهو معيار موضوعي، يعتبر أن مفهوم الاستثمار يتضمن العديد من
الأنشطة المرتبطة بالجوانب الاقتصادية وتتخذ طبيعتها الاستثمارية بالنظر إلى
مجموعة من العناصر كمدة المشروع، إذ يتعين أن تستغرق العملية الاستثمارية مدة من
الزمن لا تقل عن سنتين، ومعيار المخاطر، فيجب أن يتحمل المستثمر جزء من المخاطر
بحيث لا يمكن أن تتحمل دولة الاستقبال مخاطر مرتبطة بقرارات تندرج بحكم طبيعتها
ضمن التسيير العادي للمقاولة ،إضافة إلى هذا يجب أن تحقق العملية الاستثمارية
مساهمة في التنمية الاقتصادية للدولة المستقبلة للاستثمار.
وقد أثير هذا الموضوع في قضية ساليني ضد المملكة
المغربية، إذ دفعت هذه الأخيرة بعدم اختصاص المركز، لأن النزاع لا علاقة له بصفة
مباشرة بالاستثمار، فالأمر يتعلق ببناء طريق سيار بين فاس والرباط. إلا أن محكمة
التحكيم ردت هذا الدفع، واعتبرت أنها مختصة للبت في المنازعة خاصة وأن المعرفة
والتجهيز والعاملين والتمويل هي عناصر يتم تكييفها على أنها مساهمة في التنمية
الاقتصادية للدولة المضيفة، وتكون بذلك قد أعطت لمفهوم الاستثمار معنى أكثر مرونة،
وهو يدخل في إطار التوجه اللبرالي لقضاء التحكيم الذي يميل إلى توسيع اختصاص
المركز في جميع العمليات الاقتصادية. يتبين مما سبق أن المركز يتوسع في محال
اختصاص سواء ما تعلق بتكييف النشاط كاستثمار أو بتفسير اتفاق التحكيم، ليشمل أكبر
قدر ممكن من النزاعات ،وهذا يمثل ضمانا كبيرا للمستثمر الأجنبي في الجزائر لكنه قد
يمس بمصالح الدولة.
المبحث الثاني: خصوصية اتفاق التحكيم إمام المركز
من شروط قبول التحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات
الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى، وجود اتفاق بين طرفي النزاع على اللجوء
إلى تحكيم المركز أي توافر شرط التراضي (المطلب الأول) .وقد أدى تزايد طلبات تحكيم
المركز وتنوعها إلى اعتماد مرونة كبيرة في قبول هيئات المركز لاختصاصها، استنادا
على اجتهادات قضائية أقرت ما يسمى التحكيم بدون اتفاق حيث يفرض على الدولة القبول
بالتحكيم بمجرد تقديم طلب من طرف المستثمر الأجنبي دون أن تحصل موافقتها الصريحة
في اتفاق مستقل معه (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تراضي الأطراف على التحكيم أمام المركز
لا يفصل القاضي الوطني في موضوع النزاع متى وجد اتفاق
تحكيم يحيل إلى المركز الدولي أو كانت الخصومة التحكيمية قائمة إلا إذا ارتضى
الطرفان المتنازعان اختصاصه، ولم يترك المشرع المجال مفتوحا "للطرف سيئ النية
للجوء إليه متى وجد نفسه مهددا بإجراء التحكيم". وبما أن اتفاق التحكيم مستقل
عن كل عقد دولي اخر بناء على مبدا استقلالية اتفاق الذي أكدته محكمة النقض
الفرنسية في قضة Hecht الشهيرة ، فان اتفاق الأطراف على حل نزاعهم
عن طريق التحكيم يكون ملزما لهما، وبإمكانهما بعد ذلك اختيار القانون واجب التطبيق
على موضوع النزاع بل يمكنهم استبعاد بعض النصوص من القانون المختار أو تجزئة العقد
أو اختيار أكثر من قانون ليحكم عناصره المختلفة، في هذه الحالة يعتبر العقد رابطة متعددة
الجوانب.
وقد اهتم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار
بالطابع الاتفاقي للتحكيم التجاري الدولي حيث اشترط أن يكون اللجوء إلى المركز
طواعية من خلال اتفاق الأطراف على ذلك كتابة، إذ تعتبر موافقة الأطراف على إحالة
النزاع الناشئ بينهم على التحكيم لدى المركز الدولي أساس اختصاصه. غير أن اتفاقية
واشنطن لم تشترط أية طريقة للتعبير عن هذا الرضا عدا اشتراطه أن يكون مكتوبا، حيث
نصت المادة 25 من الاتفاقية على أنه "يمتد اختصاص المركز إلى المنازعات التي
ذات الطابع القانوني التي تنشأ بين دولة متعاقدة واحد رعايا دولة متعاقدة أخرى
،والتي تتصل اتصالا مباشرا بأحد الاستثمارات بشرط أن يوافق أطراف النزاع كتابة على
طرحها على المركز، ومتى أبدى طرفا النزاع موافقتهما المشتركة فإنه لا يجوز لأي
منهما أن يسحبها بفرده".
من خلال نص المادة نستنتج انه إذا أحال أطراف النزاع
المنازعة الاستثمارية إلى المركز، فيكون مقيدا بعدم جواز التراجع عن القبول بمجرد
صدور الموافقة وتصرف الطرف الثاني على أساسها.
فمن خلال هذا النص، يعتبر رضا الأطراف باللجوء للتحكيم
أمام المركز هو الأساس لاختصاصه، أي أنه لا يمكن أن ينظر المركز في النزاع دون أن
يوافق طرفا النزاع على عرضه على المركز. بالإضافة إلى ذلك فإنه عندما يقبل الطرفان
اللجوء إلى تحكيم المركز لا يمكن لأي منهما الرجوع عنه حتى ولو كان قد انسحب من
الاتفاقية، فلا يؤثر في صحة الرضا انسحاب الدولة المستقبلة للاستثمار أو دولة
المستثمر من الاتفاقية.
غير أن الاتفاقية اشترطت أن تتم الموافقة كتابة دون تحديد
شكل معين للكتابة، فالعبرة بدلالتها الواضحة على الرضا باللجوء إلى تحكيم المركز.
إذ يجوز للأطراف اختيار أحد شروط التحكيم النموذجية التي يتم إعدادها من قبل
المركز، أو التعبير عن رضاهم في اتفاق الاستثمار سواء في صورة شرط أو مشارطة
تحكيم، كما قد يأخذ رضا الدولة باختصاص المركز شكل معاهدة ثنائية أو جماعية، وقد
تسعى بعض الدول إلى جلب المزيد من الاستثمارات من خلال النص في تشريعاتها الداخلية
على قبول اللجوء إلى المركز. علما بأن موضوع نزاع الاستثمار لا يمس بالنظام العام
الذي جعلته معظم التشريعات والاتفاقيات سببا لنزع الاختصاص من التحكيم.
المطلب الثاني: قبول التحكيم بدون اتفاق
التزم المركز الدولي خلال العقدين الأولين من إنشائه
بالأساس الاتفاقي لعقد اختصاصه، إلا انه في الوقت الحالي اتجه إلى التوسع في تفسير
نص المادة 25/1 حيث اكتفت هيئات المركز لتقرير اختصاصها في نظر القضايا المعروضة
عليه على وجود نص تشريعي في قانون الدولة المضيفة تشير إلى التحكيم لدى المركز (الفرع
الأول) أو استنادا على اتفاقية استثمار ثنائية أو متعددة الأطراف بين دولة المستمر
والدولة المضيفة لاستثماره (الفرع الثاني).
الفرع الاول: التحكيم أمام CIRDI استنادا إلى تشريعات الاستثمار الداخلية
انتهجت معظم الدول كل الإجراءات الممكنة لاستقطاب
الاستثمارات الأجنبية من تكنولوجيات وخبرات واسعة، وذلك عن طريق منح المستثمرين
الأجانب امتيازات عديدة منها اعفاءات ضريبية ومجموعة من الضمانات منها الاستقرار
التشريعي وتحويل رؤوس الأموال وحل النزاعات عن طريق التحكيم.
دأبت هيئات تحكيم CIRDI
على قبول دعاوى المستثمرين الأجانب ضد الدول المضيفة لاستثماراتهم دون وجود اتفاق
صريح بينهما، بل يكفي أن يوجد نص تشريعي في الدولة المدعى عليها ينص على التحكيم
لينعقد الاختصاص. لكن الدولة لا تستطيع الاعتماد على هذا النص للادعاء ضد
المستثمر. وكانت أول قضية أثيرت فيها مسألة اختصاص المركز استنادا إلى تشريع داخلي
هي قضية (Southern
pacific propretie) ضد مصر.
ويمكن لهيئات تحكيم المركز، وفق هذا المبدأ، الاعتماد
على المادة 24 من قانون الاستثمار الجزائري الحالي لإعلان اختصاصها لنظر أي دعوى
يرفعها مستثمر أجنبي ضد الجزار.
الفرع الثاني: قبول التحكيم بناء على الاتفاقيات المتعلقة بالاستثمار
تتولى اتفاقيات الاستثمار تنظيم شامل لمواضيع الاستثمار
وذلك بنصها على مجموعة من الضمانات أهمها حل كل نزاع عن طريق الحكيم.
نتيجة لتزايد هذه الاتفاقيات التي تحيل إلى التحكيم خاصة
تحكيم المركز الدولي، ظهر نوع جديد من التحكيم على أساس الاتفاقيات سواء الثنائية
أو المتعددة الأطراف، رغم أنه لم يلق ترحيبا من الدول التي لازالت متمسكة بضرورة
موافقتها على اتخاذ التحكيم كآلية لتسوية النزاع.
طرحت هذه المسائل في قضية سد كدية أسردون (ولاية البويرة)
الجزائر أمام الهيئة التحكيمية التي تصدت لنزاعها أمام الشركة الإيطالية 202LESI
DIPENTA وعلاقاتها بالاتفاقية الثنائية لحماية
وتشجيع الاستثمارات بين الجزائر وإيطاليا. حيث تؤكد هيئة التحكيم أن العقد المبرم
بين الطرفين يمكن اعتباره استثمارا، على أساس المادة الأولى من الاتفاقية
الثنائية، التي تعتبر استثمارا كل إسهام نقدي أو عيني مستثمر في كل قطاع نشاط مهما
كان نوعه، والإجراءات التي اتخذتها الدولة الجزائرية فيما يتعلق بفسخ العقد تعتبر
خرقا للاتفاقية الثنائية المبرمة بين الجزائر وإيطاليا، لاعتبارها غير مبررة
وتمييزية من حيث القانون والأثر. وبالتالي فان للنزاع علاقة مباشرة بالاتفاقية
الثنائية المبرمة سنة1991 بين الجزائر وايطاليا حول التشجيع والحماية المتبادلة
للاستثمارات.
وهكذا أصبحت هيئات التحكيم على مستوى المركز الدولي CIRDI،
في العديد من القضايا تعتمد مبدأ التحكيم بدون اتفاق، إذ تكفي الإشارة إليه في أي
اتفاقية ثنائية لحماية الاستثمار بين دولة المستثمر والدولة المضيفة لاستثماره.
يؤدي اعتماد التحكيم بدون اتفاق إلى إلزام الدولة
باللجوء إلى تحكيم الاستثمار أمام المركز رغم عدم تعبيرها عن الإرادة الصريحة في
اتفاقها مع المستثمر الأجنبي. حيث يستند المحكمون على الاتفاقية الثنائية مع دولة
المستثمر ويعتبرون الإشارة إلى التحكيم إيجابا يقابله طلب المستثمر لينعقد
الاتفاق. لكن الاشكال المطروح هو عدم إمكانية طلب الدولة التحكيم ضد المستثمر على
أساس اتفاقية ثنائية مع دولته لأنه لم يعبر عن أي إرادة في الاتفاقية التي لم يكن
طرفا فيها.
وهكذا أصبحت الاتفاقيات الثنائية التي أبرمنها الجزائر
مع أكثر من 48 دولة بشأن التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات، أساسا قانونيا
يعتمد عليه المستثمرون للادعاء عليها أمام تحكيم المركز لدولي لتسوية منازعات
الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأحرى لأنها نصت في معظمها على اختصاص تحكيم
المركز لحل أي نزاع بينها وبين رعايا هذه الدول.
المرجع:
- د. محمد عيساوي، محاضرات في التحكيم التجاري الدولي، للسنة الثانية ماستر، تخصص قانون الأعمال، جامعة أكلي محند أولحاج بالبويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، السنة الجامعية: 2019/ 2020، ص98 إلى ص110.