القانون البحري (تعريفه، مصادره، خصائصه، تطوره التاريخي)
للإحاطة بماهية القانون البحري نتعرّف في هذا المبحث على
القانون البحري بوجه عام٬ وذلك ببيان مفهومه والمصادر التي يستمدّ منها قواعده٬
وخصائصه التي تميّزه عن باقي فروع القانون٬ وكيفية نشأته وتطوّره في تاريخ النظم
القانونية.
المطلب الأوّل: مفهوم القانون البحري ومصادره
من تسميته يبدو القانون البحري مُختلفًا عن القوانين
البريّة والجويّة في نوع العلاقات التي ينظمها٬ وهي العلاقات القانونية الناجمة عن
استغلال البحر. وهو بذلك له مصادره الخاصّة التي يستمدّ منها قواعده. فما هو
القانون البحري؟ وما نوع العلاقات القانونية التي ينظمها؟
الفرع الأوّل: مفهوم القانون البحري
يقصد بالقانون البحري مجموع القواعد المنظّمة للعلاقات
الناشئة بين الأفراد والهيئات الخاصّة بسبب استغلال السفينة في الملاحة البحرية٬
أي أنه ينظم مسائل النقل البحري وصلاحية السفينة للملاحة البحرية.
أولا: المعنى الواسع للقانون البحري:
تتنوّع قواعد القانون البحري وتشمل كافّة العلاقات
القانونية التي يكون البحر مسرحًا لها٬ وهو بذلك له ارتباط بفروع القانون المختلفة
في كل من القانون العام والقانون الخاص. وهو بذلك يقسّم وفقا للتقسيم التقليدي
لفروع القانون إلى القانون البحري العام والقانون البحري الخاص.
أ) القانون البحري العام: موضوع القانون البحري العام هو ما تفرضه الدولة بصفتها السلطة العامة٬ من القواعد التي يخضع لها مباشرو الاستغلال البحري وأداة الاستغلال البحري اي السفينة ويشتمل على:
1) القانون الدّولي العام البحري: ينظّم
العلاقات البحرية بين الدّول٬ في استخدامات البحر أثناء السلم والحرب واستغلال
الثروات البحرية.
2) القانون الإداري البحري: ينظّم
المسائل المتعلّقة بإشراف الدولة على موانئها وسفنها وعلى الرقابة وحفظ الأمن
والنظام في الموانئ٬ وقواعد الإرشاد البحري٬ وتدريب الربابنة ومنح الشهادات
لهم. وهناك مواد كثيرة في التقنين البحري
الجزائري تحتوي على هذا النوع من القواعد٬ مثل المواد 1_12 بعنوان التنظيم الإداري
والإقليمي للملاحة البحرية.
3) القانون الجنائي البحري: ينظّم
المسائل الجنائية المتعلقة بالجرائم الماسّة بتنظيم الملاحة البحرية. مثل جرائم
التلوّث البحري في المادّة 216 والاختصاص الجزائي في الحوادث البحرية المادة 294_
298 في الباب الثاني من الكتاب الأوّل" الملاحة البحرية ورجال البحر". والأحكام
الجزائية والإجرائية الخاصّة برجال البحر في الباب الثاني " رجال
البحر" من الكتاب الأوّل "
الملاحة البحرية ورجال البحر". في
المواد 477_ 567 و" ّأحكام جزائية" عنوان الباب السابع من الكتاب الثالث
الخاص بالاستغلال المينائي بالمواد 939_ 955.
وجنحة المسافرين خفية بالمادة 859. والباب الخامس من الكتاب الثاني المتعلّق
بالاستغلال التجاري للسفينة تحيل إلى العقوبات المقرّرة في المواد 543_ 545 ضمن
الفقرة المعنونة ب "الجنح والجنايات البحرية".
موضوع القانون البحري Droit
maritime يختلف عن موضوع قانون البحار Droit
de la mer الذي هو من فروع القانون الدولي العام يهتمّ
بتقسيم البحر المختلفة وحقوق وواجبات الدّول فيها. أمّا القانون البحري فيهتمّ
بالنقل البحري وبالسفينة وصلاحيتها للملاحة البحرية ومواجهة مخاطر البحر.
ب) القانون البحري الخاص: هو القانون الذي ينظم الاستغلال البحري وما ينجم عنه من علاقات بين مباشري الاستغلال والمنتفعين به ويشتمل على:
1) القانون الدولي الخاص البحري: يصطلح على
مسائل التنازع التي تثور بشأن تحديد الاختصاص التشريعي والقضائي في ميدان العلاقات
البحرية الخاصة٬ القانون الدّولي الخاص البحري.
2) القانون التجاري البحري٬ الذي يُعنى
بتنظيم العلاقات القانونية الخاصّة الناشئة بمناسبة الاستغلال التجاري للسفينة عن
طريق إبرام العقود البحرية.
3) القانون المدني البحري٬ يُطلق الفقه
هذه التسمية على بعض أحكام القانون البحري المنتظمة لحقوق الامتياز والرهن البحري
وعقد استئجار السفينة وعقد بيعها وأحكام ملكية السفينة وغيرها من الأحكام التي
تتنوّع بين نظام المنقول ونظام العقار.
ثانيا: المعنى الضيق للقانون البحري:
يقصد بالقانون البحري مجموع القواعد المنظمة للرّوابط
الناشئة بين الأفراد والهيئات الخاصّة بسبب استغلال السفينة في الملاحة البحرية.
فهو يُعنى بتنظيم العلاقات القانونية الخاصّة الناشئة
بمناسبة الاستغلال التجاري للسفينة عن طريق إبرام العقود البحرية. وتسمّى هذه القواعد بالقانون التجاري البحري٬
حيث يعتبر النشاط البحري من الأعمال التجارية حسب الفقرة 15 من المادة الثانية من
القانون التجاري الجزائري التي نصّت على أنّه يعدّ عملاً تجاريًا بحسب موضوعه:
"- كلّ مقاولة لبيع أو صنع أو شراء أو إعادة بيع
السفن المعدّة للملاحة البحرية٬ وكل شراء أوبيع لمؤن السفن.
- كلّ تأجير أو اقتراض أو قرض بحري بالمغامرة.
- كلّ عقود التأمين والعقود الأخرى المتعلّقة بالتجارة
البحرية.
- كلّ الاتفاقيات المتعلّقة بأجور الطاقم وإيجارهم٬ وكلّ
الرّحلات البحرية."
الفرع الثاني: مصادر القانون البحري:
يستمدّ القانون البحري قواعده من مصادر رسمية هي التشريع
والأعراف البحرية٬ ومصادر تفسيرية غير رسمية هي الفقه والقضاء.
أ) التشريع:
يطبّقه القاضي قبل غيره من المصادر٬ ويقصد به تقنين
البحري والتشريعات البحرية الأخرى اللاحقة له تنفيذًا لنصوصه. والمعاهدات الدّولية المصادق عليها٬ بالإضافة
إلى القواعد العامّة في التقنين التجاري والمدني عند عدم وجود نصّ يحكم النزاع في
التقنين البحري.
ب) الأعراف البحرية:
هي مجموع القواعد التي وضعها العاملون في البحر واتبعوها
لفترة طويلة مع اعتقادهم بضرورة احترامها٬ حيث يلجأ إليها القاضي عند افتقاد النّص
التشريعي حول نزاع مطروح أمامه. ويستعين القاضي كذلك بالعادات البحرية٬ التي هي
قواعد تواتر المشتغلون في البحر على اتباعها بصفة منتظمة٬ حيث لا تستمدّ قوتها
الإلزامية من اعتقاد المعنيين بها بل من إرادة المتعاقدين واتجاهها صراحة أو ضمنا
إلى الأخذ بها.
ج) الفقه والقضاء:
هما مصادران تفسيريان احتياطيان للقانون البحري يستعين
بهما القاضي على سبيل الاستئناس لا الإلزام٬ تتمثّل في الاستناد إلى حكم قضائي
سابق فصل في مسألة مماثلة٬ أو إلى آراء الفقه التي لها دور كبير في تفسير وتطوير
أحكام القانون البحري.
المطلب الثاني: خصائص القانون البحري
إنّ فكرة المخاطر البحرية جعلت القانون البحري يتميّز
ويستقلّ بذاته عن القانون البرّي ببعض الخصوصيات. كما أنّ تماثل ظروف ومجالات
تطبيقه٬ والمصالح المشتركة للدّول جعلته يتّسم بالطّابع العالمي.
الفرع الأوّل: ذاتية القانون البحري:
ينكر بعض الفقه أن للقانون البحري خصوصية و ذاتية٬ ويصرّ
على اعتباره جزءًا من القانون التجاري٬ مثلما ذهب إليه المشرّع الفرنسي عندما
نظّمه في الكتاب الثاني من القانون التجاري٬ ويستندون في ذلك إلى الطبيعة التجارية
للعمليات القانونية المتعلّقة بالملاحة البحرية٬ لكنّ الرّاجح لدى الفقه أنّ
القانون البحري ينفرد بأنظمة قانونية خاصّة به دون أن يكون تابعًا للقانون التجاري
أو فروع القانون الأخرى٬ ويُذكر من بين مظاهر هذه الذاتية ما يلي:
1) القانون البحري ينطبق على ملاحة الصيد والنزهة وهما
ليسا من الأعمال التجارية الواردة في المادّة الثانية من القانون التجاري والتي
تخصّ الملاحة التجارية فقط.
2) الإثبات في القانون البحري ليس حرًّا كما في القانون
التجاري بل يقوم على الكتابة كقاعدة عامّة.
3) التأمين البحري أسبق ظهورًا من التأمين البرّي.
4) يعرف القانون البحري نظامًا أصيلًا خاصًّا به ويعتبر
خروجًا عن القواعد العامّة للقانون٬ وهو نظام الخسائر المشتركة٬ المواد (308_ 331)
ق ب ج.
5) فكرة الإنقاذ البحري أو واجب السفينة الأقرب إلى
السفينة المهدّدة بالخطر في إنقاذها٬ وأحكام التعويض عن الإنقاذ.
6) ينفرد القانون البحري بنظام المسؤولية المحدودة لمالك
السفينة والذي يعتبر خروجًا عن القواعد العامّة في القانون المدني والتجاري الذي
يأخذ بالمسؤولية الشخصية المطلقة.
7) تتميّز أغلب قواعد القانون البحري بطابع التوحيد
الدّولي بسبب الطبيعة الدّولية للملاحة البحرية٬ وهو الأمر الذي لم تحقّق محاولاته
نجاحًا في الفروع الأولى للقانون.
الفرع الثاني: عالمية القانون البحري:
يتجلّى الطابع العالمي للقانون البحري من خلال جملة
المظاهر والأسباب التي تجعله عالميًا٬ ومن خلال الجهود الدولية المبذولة في توحيد
قواعده.
أوّلًا: مظاهر وأسباب عالمية القانون البحري:
إنّ تشابه ظروف تطبيق القانون البحري في جميع أنحاء
العالم جعلت أحكامه واحدة لا تتغير من دولة لأخرى٬ وهو ما جعل منه قانونًا
عالمياً. ونذكر من بين مظاهر وأسباب عالمية القانون البحري ما يلي:
أ) وحدة المصدر التاريخي لقواعد القانون
البحري:
كان القانون البحري في العصور القديمة والوسطى قانونًا عالميًا٬ حيث كانت المحاكم البحرية في
مختلف الموانئ تطبق قواعد مصدرها واحد٬ واعتاد تجّار البحر والملاحين على
اتباع أعراف وعادات بحريّة تكوّنت عبر العصور تلائم الملاحة البحرية٬ فلم
يكن باستطاعة البحّارة أن يخضعوا لقوانين مختلفة باختلاف الموانئ التي يرسون فيها٬
كون التجارة بالسفن عبر العالم تخضع لنفس
الظروف الطبيعية المتشابهة٬ ممّا أدى إلى بروز قواعد قانونية متشابهة مضفية على
التجارة البحرية الصيغة العالمية٬ فمخاطر النقل البحري لا تختلف باختلاف المناطق٬
عكس النقل البرّي. لكن منذ مطلع القرن 18 بدأت تنقص فكرة عالمية القانون البحري٬
حيث بدأت كل دولة تشرّع قانونا مستقلا بذاته يخدم المصالح الوطنية٬ وحل التشريع
محل العرف٬ وأدّى ذلك إلى ظهور المصالح المتناقضة بين الدّول الناقلة والدّول
الشاحنة٬ وهذا الصراع بين الدّول نجمت عنه عرقلة التجارة البحرية.
ب) الطابع الدّولي للعلاقات القانونية
البحرية:
لا يعقل أن تبقى العلاقات القانونية البحرية حبيسة
التشريع الدّاخلي٬ فهي علاقات دولية بطبيعتها بسبب الصيغة الدولية للتجارة البحرية
وبسبب تعدّد جنسيات أطراف الملاحة البحرية كالناقل والشاحن والمؤمّن٬ ومالك
السفينة المنقذة أو المساعدة.
1) الطابع الدّولي التجارة البحرية٬ ونسبة التجارة
الدولية تفوق بكثير نسبة التجارة الوطنية٬ والشاحن يجب أن يكون على علم بالقانون
الذي سيحكم التزامات الناقل ومسؤولياته لإمكان إجراء التأمين على البضائع٬ وكذلك
شركة التأمين التي تملك حق الرّجوع على النّاقل يجب أن تعرف مدى مسؤوليته وهل هي
مقيّدة أم مطلقة؟ كما أنّ البنوك يهمّها أن تعرف قيمة سند الشحن لأنّه يمثّل
الوثيقة الرئيسية في فتح الاعتماد المستندي.
2) السفينة ترسو في موانئ دول مختلفة٬ وهي أثناء رحلتها
قد تتعرّض لحوادث التصادم مع سفينة ذاتية من جنسية مغايرة ومن ثمّ تحتاج إلى مساعدة
وإنقاذ من طرف سفينة ثالثة وهذه الأخيرة تستحقّ التعويض على عملية الإنقاذ.
3) تعدد جنسيات أطراف الملاحة البحرية كالناقل والشاحن
والمؤمن.
4) الطابع الدولي للعقود البحرية كعقد النقل وعقد
التأمين وسند الشحن.
ج) الطابع الدولي لقواعد الملاحة البحرية:
تكمن مظاهر الطابع الدّولي لقواعد الملاحة البحرية فيما
يلي:
1) مقتضيات الأمن والاستقرار في الملاحة البحرية تتطلّب
تدويل هذه القواعد٬ فلو أنّ كل سفينة تمسّكت بقواعدها الوطنية في الإبحار لأدّى
ذلك إلى كثرة حوادث التصادم البحري لعدم توحيد قواعد الإشارات الضوئية والصوتية
والمناورات الملاحية٬ ومثال ذلك قواعد المؤتمر الدّولي لسلامة الأرواح بموجب
معاهدة لندن 1960.
2) قواعد قياس الحمولة لدفع مستحقات الموانئ التي ترسو
فيها السفينة أثناء رحلتها٬ حيث يجب أن تكون شهادة الوزن الصادرة من إحدى الدّول
سارية المفعول في كل موانئ الدول ومثال ذلك اتفاقية أوسلو (1957).
ثانيا: جهود التوحيد الدّولي لقواعد القانون البحري:
أ) إنّ الطابع الدولي للتجارة البحرية وامتدادها خارج
حدود الأقاليم الوطنية والجهوية فرض على جميع الدّول واجب توحيد الجهود لوضع قواعد
قانونية موحّدة٬ لأنّ طبيعة البحر والملاحة البحرية تتنافى مع فكرة اختلاف
التشريعات البحرية٬ بعكس القانون البري الذي يختلف باختلاف الظروف السياسية
والاجتماعية والاقتصادية والأخلاق والدّين من دولة الأخرى.
ب) إبرام المعاهدات الدولية لتوحيد القواعد٬ مثل
معاهدات بروكسل التي كانت تعدّها اللّجنة البحرية الدولية C.M.I
خصّيصًا للقضاء على الاختلافات في التشريعات البحرية ابتداء من سنة 1897. (معاهدتي
23/09/1910 حول قواعد المصادمات البحرية٬ والإنقاذ البحري. ومعاهدة 1924 حول سندات
الشحن والتي حلّت محلّها معاهدة 10/10/1957).
ج) وضع القواعد الاتفاقية الموحّدة٬ من طرف الجمعيات
الدّولية للقانون ودعوة المتعاقدين إلى تبنيها٬ مثل قواعد يورك وأنفيرس (Règles
D'York et Anvers) حول موضوع الخسارات المشتركة.
د) مساعي الهيئات الدّولية في عملية التوحيد الدّولي
مثل اللجنة البحرية الدولية٬ والمنظمات البحرية الدّولية٬ ومؤتمر الأمم المتحدة
للتجارة والتنمية٬ والمعهد الدّولي لتوحيد القانون الخاص. وتجدر الإشارة إلى أنّ
الجزائر انضمّت إلى المعاهدة الدّولية المبرمة في بروكسل 25/08/1924 المنظمة
للقواعد المتعلقة بسندات الشحن البحري٬ كما أنّها عضوة في المنظمة الحكومية
البحرية الاستشارية التابعة لهيئة الأمم المتّحدة٬ والتي تأسّست في فيفري 1948
وبدأت العمل في 31/03/1958. وقد أخذت الجزائر بالكثير من القواعد الدّولية وأدمجتها
في التقنين البحري الجزائري.
المطلب الثالث: التطور التاريخي للقانون البحري
يعتبر القانون البحري من أقدم فروع القانون٬ نشأ من
مجموعة من الأعراف والعادات٬ بشكل منفصل عن القانون البرّي٬ يرجع ظهور بعضها إلى
الحضارات القديمة في علاقات التجارة البحرية السّائدة٬ بين دول البحر الأبيض
المتوسّط لدى البابليين والفينيقيين والإغريق والرومان. وتطوّر عبر حضارات العصر
القديم والعصر الوسيط والعصر الحديث.
الفرع الأول: العصر القديم:
- تعود أولى آثارها القواعد البحرية إلى القرن 30 ق م٬
نظّمت العلاقات البحرية القائمة بين بلدان البحر المتوسط مثل كريت (Crete)
وقبرص (chypre) وذهب بعض الكتاب إلى أن البابليين 2250 ق م
عرفوا عقد القرض البحري الذي يعتبر أصل عقد التأمين البحري٬ وذلك استنادًا إلى نص ورد
في قانون حمورابي يقضي بأنّ "من يقوم برحلة بحريّة يتسلّم البضاعة من تاجر
مقابل قائمة مفتوحة تحدّد فيها قيمة البضاعة وسعر الفائدة خلال فترة معيّنة٬ فإذا
سرقت البضاعة أثناء الرّحلة بغير إهمال ولا تواطؤ يعفى من يقوم بالرّحلة من ردّ
الدّين والفائدة."
- الفينيقيون أثناء إقامة حضارتهم في جزيرة رودس (Rhods)
في القرن 11 ق م أبدعوا قانون الإلقاء في البحر٬ وهو نظام طبّقته جميع الشعوب التي
عرفت الملاحة البحرية والذي يعتبر أصلا لفكرة الخسارات المشتركة٬ يتمثل في قيام
ربّان السفينة بالتضحية بجزء من البضائع وإلقائها في البحر من أجل إنقاذ السفينة
من الهلاك.
- وانتقل هذان النظامين من الفينيقيين إلى الإغريق
(اليونان) في القرن 6 ق م ثم إلى الرومان٬
ويذهب جانب من الفقه إلى أنّ الإغريق هم من أبدع عقد قرض المخاطرة.
- أمّا الرومان فنظرًا لأنّهم ترفّعوا عن ممارسة التجارة
فلا تذكر لهم إضافات في القانون البحري سوى فكرة التعاقد بالنيابة عندما استحدثوا
فكرة نيابة ربّان السفينة عن مجهّزها أو مالكها.
الفرع الثاني: العصر الوسيط:
أدّى قيام الحروب الصليبية في القرن 11 م إلى انتعاش
الملاحة البحرية وازدهار التجارة البحرية خاصة في المدن الإيطالية٬ ونشأت عادات
وأعراف بحرية في غرب أوروبا تمّ تدوينها في مجموعات أو مدوّنات طبّقتها المحاكم
البحرية في الموانئ العامّة ومن أشهرها:
1. قواعد أوليرون Rôle
d'Orléron: يرجع تاريخها
إلى القرن 12 م٬ قننت القضاء البحري الذي استقرّ في الموانئ الفرنسية وأوروبا
الغربية على المحيط الأطلنطي.
2. قواعد قنصلية البحر Consulat
de la mer: سميت نسبة إلى
محكمة بحرية تحمل هذا الاسم في برشلونة والراجح أنّها دوّنت في القرن 14م باللغة
المحلية لأهالي برشلونة.
3. قواعد مرشد البحر Guidon
de la mer: وُضعت هذه
المجموعة في بشمال فرنسا (Rouen روان) في
القرن 16م والتي أرست لأول مرّة قواعد تفصيلية للتأمين البحري.
القانون البحري في الخلافة الإسلامية:
الفقه الإسلامي يزخر بما فيه من القواعد الفقهية البحرية
التفصيلية:
- حيث أنّ مجموعات القانون البحري التي ظهرت في حوض
البحر المتوسط في العصور الوسطى (أوليرون وقنصل البحر ومرشد البحر وغيرها) مستوحاة
من قواعد الفقه الإسلامي٬ الموجودة في مخطوطات الفقه المالكي والحنفي للقرن 9م٬
وتمّ ترجمة الكثير منها في صقلّية٬ ومن بينها المدوّنة الكبرى التي هي إحدى
المراجع الأساسية للفقه المالكي خصص الكتاب الحادي عشر منها للنقل البحري والبرّي.
- كما أنّ مخطوطة الفقيه أبي القاسم خلف بن أبي فراس
المالكي في القرن 13م في أحكام السفينة والنّوتي (الملاّح) هي من أهم مراجع
القانون البحري الإسلامي.
- القواعد البحرية في الفقه الإسلامي ليست مجمّعة في
كتاب مفرد بل متفرّقة في أبواب شتّى٬ فنجد
إجارة السفن والنقل البحري في كتاب الإجارة٬ والتصادم البحري في كتاب الضمان٬ و
المساعدة والإنقاذ البحري في كتاب اللّقطة.
- وفي العصر الحديث أصدرت تركيا
أيام الإمبراطورية العثمانية عام 1864م أوّل مجموعة قانونية تتضمن قواعد القانون
البحري مستوحاة من الشريعة الإسلامية تميّزت بأنها أكثر إنسانية من الأنظمة
الأوروبية خاصة.
الفرع الثالث: العصر الحديث:
- بتطوّر الملاحة البحرية وتعقيدها تزايدت الحاجة إلى
تقنين يجمع العادات والأعراف البحرية٬ فكان ظهور أول تقنين بحري في فرنسا في عهد
لويس الرابع عشر 1681 عُرف باسم أمر البحرية Ordonnance de
la marine وكان يشتمل على القانون الخاص البحري وقواعد
القانون الإداري البحري والقانون الدولي البحري.
- وبعد قيام الثورة الفرنسية٬ صدر القانون التجاري
الفرنسي في عام 1807 واحتوى الكتاب الثاني منه في المواد 190- 436 على قواعد
القانون التجاري البحري. وتأثّرت بالقانون الفرنسي الكثير من الدّول.
- وبتطوّر وازدهار التجارة البحرية لدى الدّول
الاستعمارية الساحلية (كإنجلترا وفرنسا وأسبانيا) ونقل المواد الأوّلية من
مستعمراتها تطوّرت الكثير من القواعد القانونية التي تحكم تنظيم التجارة البحرية
بين هذه الدول.
- وفي الجزائر: بعد المرحلة
العثمانية كان القانون التجاري الفرنسي قبل الاستقلال وبعده هو المطبّق على النشاط
البحري٬ فقد اعتمدت الجزائر في تسيير أمورها البحرية على التقنين الفرنسي إلى أن
صدر الأمر رقم 29 المؤرخ في 5 جويلية 1975
الذي تقرر بموجبه إلغاء الأمر رقم 157 لسنة 1962 الذي كان ينصّ على استمرار
العمل بالتقنين الفرنسي.
ثم بدأت القوانين البحرية الجزائرية تصدر تدريجيا
ابتداءً من سنة 1963 كانت بدايتها مجموعة من المراسيم٬ وبعد صدور كلّ من القانون
التجاري والمدني سنة 1957 قامت وزارة النّقل بإعداد مشروع لتنظيم العلاقات البحرية
سمّي ب "قانون الملاحة البحرية" ثم أدخلت بعض التعديلات على هذا المشروع
لتتم المصادقة عليه في 23 /10/1976 تحت اسم "القانون البحري"٬ وأصدر
بموجب الأمر 76/ 80 المؤرّخ في 23/ 10/ 1976 وتمّ تعديله بموجب القانون 98/ 05
بتاريخ 25/ 06/ 1998.
وصدرت بعد التقنين البحري عدّة مراسيم قبل التعديل
الأخير لسنة 1998.
والتقنين البحري
الجزائري مقسم إلى ثلاثة كتب:
الكتاب الأوّل
بعنوان "الملاحة البحرية ورجال البحر"٬
الكتاب الثاني
بعنوان "الاستغلال التجاري للسفينة"٬
الكتاب الثالث
بعنوان "الاستغلال المينائي".
المرجع:
- د. روابح فريد، محاضرات في القانون البحري، جامعة سطيف (2) محمد الأمين دباغين، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، سطيف، السنة الجامعية 2013-2014، ص5 إلى ص16.