مفهوم الخدمة العمومية
لطالما
ارتبط مفهوم الخدمة العمومية بوجود الدولة كسلطة ذات سيادة في إطار ممارستها
لوظيفتها لإشباع الحاجات العامة للمجتمع، من خلال تقديم الخدمات العمومية خاصة
الأساسية منها.
وفي
سبيل البحث عن رفاهية المجتمع وتحقيق التنمية اتسع تدخل الدولة لمختلف المجالات
والأنشطة في محاولة لخلق المناخ الملائم لتحسين الحياة اليومية للمواطن ورفاهيته، مما
جعل مفهوم الخدمة العمومية مرتبط بالنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدول.
وعليه
يستدعي الحال دراسة مفهوم الخدمة العمومية كمفهوم متعدد الأبعاد (اجتماعية واقتصادية
وقانونية) مع التركيز على البعد القانوني (الفرع الأول) ثم التعرف على مختلف أنواع
الخدمة العمومية (الفرع الثاني) لنفصل أخيرا قي المبادئ التي يرتكز عليها هذا
المفهوم (الفرع الثالث).
الفرع الأول: تعريف الخدمة العمومية
يتسم
مصطلح الخدمة العمومية بالمرونة التي تجعله يحتمل أكثر من معنى ن لدلك تعدد تعاريف
الخدمة العمومية بالنظر إلى تعدد أبعادها وبالتركيز على البعد القانوني، عرفت
الخدمة العمومية على أنها: "نشاط ينفذ مباشرة من قبل الدولة (سواء كان محليا
أو وطنيا) وتحت رقابتها ويهدف لخدمة المصلحة العامة".
كما
عرفت على أنها: "جميع أنواع الخدمات التي من غير الممكن استغلالها إلا في
إطار جماعي تتوفر بشكل إجباري وفق قاعدة المساواة التي ينص عليها القانون ويكون من
الضروري استغلالها بمعزل عن قواعد السوق، تتحمل الدولة مسؤولية توفيرها والقيام
بها من حيث أداءها ومراقبتها".
وعرفت
أيضا أنها كل وظيفة يكون أداؤها مضمونا ومضبوطا ومراقبا من طرف الحاكمين، لأن
تأدية هذه الوظيفة تعد أمرا ضروريا لتحقيق تنمية الترابط الاجتماعي، وهي من طبيعة
لا تجعلها تتحقق كاملة إلا بفضل تدخل قوة الحاكمين.
أما
من حيث البعد الاجتماعي فانه يركز على عنصر المجانية والتضامن خدمة للمجتمع
والتركيز على قيم المساواة في تعريفه للخدمة العمومية.
في
حين المقاربة الاقتصادية للمفهوم: فرغم التأكيد على وجود هذا المفهوم ضمن أدبيات
النظريات الاقتصادي إلا أن اختلاف التوجهات الفكرية طبعت هذا المفهوم بالنظر إلى
أن البعض يدعو لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وهناك من يدعم قانون العرض والطلب
والمنافسة.
من
جهته الاتحاد الأوروبي تطرق لمفهوم الخدمة العمومية بشكل مكثف واعتبرها مفهوما
ديناميكيا و مرنا، يسهر على إمكانية اتخاذ التزامات المنفعة العامة بعين الاعتبار والتطور
السياسي والاجتماعي والاقتصادي و التكنولوجي، كما يسمح بالتكيف المنتظم لهذه
الالتزامات مع تطور احتياجات المواطن... لذلك يمكن إعادة تعريفه باستمرار لتكييفه
مع المحيط الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي.
المشرع
الجزائري من جانبه لم يتطرق عموما لتعريف الخدمة العمومية، بل لطرق تحسينها وهو ما
سنأتي عليه لاحقا.
غير
أن بعض القوانين الحديثة المنظمة لبعض القطاعات قدمت تعاريف محددة، ومثاله القانون
المحدد للقواعد العامة المتعلقة بالبريد و الاتصالات الالكترونية (04-l8)، حيث جاء في مادته l0 فقرة 6l و7l
:" خدمة الاتصالات الالكترونية للجمهور هي كل خدمة تتمثل كليا أو أساسا في
تزويد الجمهور بالاتصالات الالكترونية وكذا الخدمات التي تستعمل قدرات شبكات
الاتصالات الالكترونية والتي تنص زيادة على خدمة الاتصالات الالكترونية القاعدية
وظائف المعالجة و التخزين".
وبالتمعن
في هذه التعريفات نستخلص أن الخدمة العمومية جاءت لسد حاجة ضرورية عامة، وهو ما
استدعى إنشاء مرافق عمومية متنوعة، وأن الدافع الأساسي لوجود الخدمة العمومية هو
تحقيق المصلحة العامة.
الفرع الثاني: أنواع الخدمات العمومية، وأسسها
تظم
الخدمة العمومية مجموعة كبيرة وغير متجانسة من الخدمات الجماعية المنظمة من طرف
الدولة (الفقرة الأولى) كما تقوم على مبادئ عديدة (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: أنواع الخدمات العمومية:
تصنف الخدمة العمومية تصنيفات عديدة
بحسب الزاوية التي ينظر إليها.
*فمن حيث نوع الخدمة هناك: الخدمات الإدارية (كخدمة الوثائق
الإدارية بالبلديات، وخدمات اجتماعية وثقافية كالتمدرس الإجباري ،و خدمات صحية
كالتلقيح...وخدمات مرتبطة بسيادة الدولة كالعدالة والأمن ...
وخدمات
ذات طبيعة اقتصادية كالنقل، التزود بالمياه، الكهرباء والغاز.
*أما من حيث تحمل تكلفة الخدمة (للتذكير فالخدمة العمومية لا تعني
المجانية دائما (فهناك ثلاثة أنواع:
أ/
خدمة بدون مقابل (مجانية) لا تسعى الدولة لتحقيق الربح في مثل هذه المشاريع (لكن
لا يعني أنها خاسرة فالأمر يحسب بالنظر لتوازن الإيرادات والنفقات).
وعليه
فهذا النوع من الخدمات تتجمل تكلفته الخزينة العمومية ومثال ذلك الأمن، الإنارة
العمومية، التلقيح ...
ب/
خدمة بمقابل: وينطبق ذلك على الخدمات ذات الطبيعة الاقتصادية لذلك فالتكلفة تدفع
على عاتق المستفيد-المستهلك.
ج/ خدمة
مدعمة: تكلفة الخدمة تكون مشتركة بين المستفيد والدولة بنسبة تحددها القوانين
والتنظيمات مثل النقل العمومي بما فيه النقل الجماعي، السكن، السلع واسعة
الاستهلاك...
*من
زاوية أخرى يذهب الاقتصاديون- وبالتركيز على مفهوم التسويق- إلى تصنيف الخدمة
العمومية إلى:
-
خدمات تحتاج للتسويق وهي عموما الخدمات ذات الطبيعة الاقتصادية وخدمات لا تحتاج
للتسويق وهي باقي أنواع الخدمات الأخرى.
قصارى
القول ومهما تنوعت الخدمات العمومية فهي تبقى تشترك في كونها نشاطا غير ملموس، وهي
أهم ميزة تميزها عن السلع، لذلك فهي أقل ترويجا، وكذلك لا يمكن تملكها فتقديم
الخدمة لا يعني نقل ملكيتها للمستفيد أو التصرف فيها، وذلك على عكس السلع بالنسبة
للمستهلك.
الفقرة الثانية: أسس الخدمة العمومية
إن
قيام المرافق العامة بمهامها في تسيير نشاطات الخدمة العمومية يستند لمجموعة من
المبادئ التي تحكمه الأمر الذي ساعد على تحقيق الخدمة للأهداف التي تسعى إليها
وأهمها تحقيق المصلحة العامة. وأهم هذه المبادئ:
أ/ مبدأ المساواة
يعتبر
مبدأ المساواة مبدأ قانونيا قارا، بل أضحى من حقوق الإنسان أقرته الدساتير
المتعاقبة قي الجزائر ،وما مبدأ المساواة في الانتفاع بالخدمات إلا امتداد وتطبيقا
له، ومعناه أن تقدم الخدمة لجميع المرتفقين على قدم المساواة ما دامت في مراكز
قانونية وظروف مماثلة وهو ما يضمن تحييد الإدارة وتحييد الخدمة العمومية في حدّ
ذاتها. فإذا كان تحقيق المصلحة العامة هو الباعث الأول لتقديم الخدمة العمومية، فإنّ
تقديمها ينبغي أن يكون متاحا للجميع دون تمييز وبالكيفيات والإجراءات نفسها.
ب/ مبدأ الاستمرارية
وهو
المبدأ الذي يشكل قاعدة هامة لكثير من نظريات القانون الإداري كالوظيفة العامة، القرارات
الإدارية والعقود الإدارية... إلخ، ومعناه أن تقدم الخدمة بشكل مستمر ودون توقف أو
انقطاع لتلبية حاجات ذات منفعة عمومية ضرورية لحياة المجموعة الوطنية، فالانقطاع
أو التوقف في الخدمة ينجر عنه عواقب و أضرار تقيم مسؤولية المرفق، لذلك يقال أن الاستمرارية في
تقديم الخدمة هي من روح المرفق العام. واعتبرها القضاء الإداري الفرنسي من النظام
العام، يجب ضمانها في حالة تفويض المرفق العام، وهو مكرس بصفة مباشرة أو غير
مباشرة بمقتضى أحكام تشريعية وتنظيمية، وهذا ما أقره محافظ الحكومة الفرنسي Tradieu في قرار مجلس الدولة المؤرخ قي 7 أوت l907، حيث لخص قائلا: 'إن مبدأ الاستمرارية هو
سبب وجود المرفق العام.
ج/ معيار التكيف والتطور:
ويعني
قابلية الخدمة العمومية للتغير والتطور والتكيف مع التطور المستمر للاحتياجات
المواطن كما وكيفا، وأن تتماشى الخدمة المرفقية مع التغيرات الاقتصادية
والاجتماعية والتقنية والتكنولوجية المتسارعة وتطور الطلب الاجتماعي، وإلا يقع
انفصال بين الخدمة المقدمة والاحتياجات العامة التي تسعى إلى تغطيتها، وبهذا جاء
المرسوم 88-l3l من خلال المادة 6 منه
التي جاء فيها: "تسهر الإدارة دوما على تكييف مهامها وهياكلها مع احتياجات
المواطن ويجب أن تضع تحت تصرف المواطن خدمة جيدة".
أما
المادة l2/3 فقد نصت "... و يجب عليها ...أن تطور أي إجراء ضروري
لتتلاءم دوما مع التقنيات الحديثة في التنظيم والتسيير".
وهي
المساعي التي من أجلها بادر السيد رئيس الجمهورية لإنشاء المرصد الوطني للمرفق
العام بموجب المرسوم الرئاسي (03-16).
لذلك
يقر الاتحاد الأوربي على أن مفهوم الخدمة يمكن إعادة صياغة تعريفه باستمرار التكيف
مع المحيط الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي..
د/ مبدأ المجانية "النسبية"
لطالما
ارتبط نظريا مفهوم المجانية بالخدمة العمومية بالنظر لاحتكارها من طرف الدولة
لتحقيق المنفعة العامة، غير أن التطور الحاصل في انفاقات الدولة وتدخلها الموسع
لضمان تلبية الطلب الاجتماعي والحاجات العامة وهي ضمان الرفاهية جعل من مبدأ
مجانية الخدمة غير عملي ، لذلك فالثابت أن المجانية يمكن أن تكون نسبية لا مطلقة
،بمعنى تختلف بحسب نوع الخدمة المقدمة، وقد سبق لنا التوضيح في أنواع الخدمات
تبيان :الخدمات المجانية والمدعمة وغير المدعمة والتي تختلف بحسب نوع الخدمة
وطبيعة المرفق الذي يسهر على تقديمها، فعادة ما تكون ما تكون خدمات المرافق
الصناعية والتجارية بمقابل لأنها تخضع لمبدأ الربح والخسارة، على أن يكون المقابل
معقولا.
أما
المرافق ذات الطبيعة الإدارية فخدماتها عادة ما تكون مقابل رسوم أو إتاوات رمزية
تحدد الدولة قيمتها وتحيينها كلما أرادت، ومثال ذلك رسم التطهير والذي يدفعه
المواطن للبلدية مقابل رقع القمامات المنزلية.
ه/ مبدأ الشمولية والتضامن
ويقصد
بالشمولية أن تشمل الخدمة كل المواطنين وأن تغطي كل احتياجاتهم بنفس الجودة ،لذلك
يشترط قوانين الاتحاد الأوروبي التغطية الإقليمية الكاملة للخدمة بثمن معقول.
وقد
جاء في القانون رقم 04-18
المتعلق بالبريد والاتصالات الالكترونية في مفهوم الخدمة الشاملة للاتصالات
الالكترونية المادة l0/ف
7l: مجموع الحد الأدنى من
الخدمات بما فيها خدمة أو عدة خدمات ذات قيمة مضافة تحدد عن طريق التنظيم ذات
نوعية معينة ومتوفرة لجميع السكان على مستوى التراب الوطني بأسعار متاحة.
أما التضامن، فتوفير الخدمة بحد ذاتها تعبير عن وجود تضامن اجتماعي في المجتمع تتولى الدولة تجسيده في مساعيها لمحاربة الفقر والحرمان مما يحفز الشعور بالمواطنة وتقليص الفوارق بين المواطنين بسبب الدخل أو الإعاقة...
و/الاحتكار الطبيعي
لطالما
ارتبطت الخدمة العمومية بوجود الدولة و تطور وظائفها، لذلك فقد احتكرت المرافق
العمومية نشاطات الخدمة العمومية ،غير أنّ التطور الحاصل وتشعب وظائف الدولة أثر
على نوعية هذه الخدمات وهو ما استدعى تدخل الخواص لتقديم بعض الخدمات بتفويض من
الدولة ،وذلك من خلال تبني مبدأ المنافسة المضبوطة 'régulé '،التي أصبحت من متطلبات الخدمة، ما عدا تلك
المتعلقة بالسيادة الوطنية، وبهذا يقتصر دور الدولة على تطبيق سياسة الضبط حفاظا
على خصوصيات الخدمة العمومية.
ي/ الفعالية في تقديم الخدمة
مع
ملاحظة التطورات الحاصلة وتطور الطلب الاجتماعي ومستوى المعيشة ،لم يعد يقتصر
الأمر على الخدمة بل يشترط الفعالية في الخدمة ونوعيتها، لا سيما بعدما أصبحت
الخدمة العمومية حقلا خصبا للمنافسة.
ن/ الرقابة العامة
يخضع تقديم نشاطات الخدمة العمومية لرقابة متعددة سواء قي شكل وصاية (من قبل أجهزة الدولة) أو من قبل المجتمع المدني باعتباره مرتفقا ومستفيدا.المرجع:
- د. شيبوتي راضية، محاضرات في المناجمنت العمومي، محاضرات ألقيت على طلبة سنة ثانية ماستر علوم إدارية، جامعة الإخوة منوري - قسنطينة 1- كلية الحقوق والعلوم الإدارية، قسم العلوم الإدارية، الجزائر، السنة الجامعية: 2020- 2021، ص 5 إلى ص 11.