نطاق تطبیق القاعدة القانونیة من حیث الأشخاص: مبدأ عدم جوار العذر بالجهل بالقانون
یقوم
تطبیق القاعدة القانونیة من زاویة الأشخاص المخاطبین بأحكامها على مبدأ أساسي لا
مناص من الأخذ به والا أهدرت الحكمة من وجود القانون، وأضحى في كثیر من الحالات عدیم
الفعالیة، وهذا المبدأ یسمى "مبدأ عدم جواز العذر بجهل القانون"، ولتحدید مفهوم هذا المبدأ سنتطرق
لمضمونه (المطلب الأول) وأساسه (المطلب الثاني)، ثم إلى نطاق تطبیقه (المطلب
الثالث)، وللاستثناءات الواردة علیه (المطلب الاربع).
المطلب الأول: مضمون المبدأ
إذا
ما تكونت القاعدة القانونیة وأصبحت نافذة فإنها تسري في حق المخاطبین بأحكامها دون
استثناء سواء علموا بها أو لم یعلموا، وسواء علم بها البعض وجهلها البعض الآخر،
فلا یعفى أحد من الخضوع لأحكام القاعدة القانونیة بدعوى جهله بها حتى یتسنى له
التملص من تطبیقها علیه.
فكل
شخص سواء كان طبیعیا (ممیزا كان أو غیر ممیز)، أو معنویا ینصرف إلیه خطاب القاعدة
القانونیة، فیجب الانصیاع له والا كان عرضة للجزاء، ویعبر عن هذا المبدأ عدم جواز
الاعتذار بجهل القانون أو مبدأ لا یفترض في أحد الجهل بالقانون.
وقد
أقر الدستور الجزائري هذا المبدأ في نص المادة 60 من دستور1996 كما یلي "لا یعذر
بجهل القانون".
المطلب الثاني: أساس المبدأ
إن
أساس مبدأ امتناع الاعتذار بجهل القانون إنما یرتكز على الحكمة من وجود القانون
ذاته في المجتمع، فالأخذ بهذا المبدأ یرجع إلى ضرورة فرض سلطان القانون على كافة
المخاطبین بأحكامه، تحقیقا للنظام العام في المجتمع وللعدالة التي تستوجب تطبیق
حكم القاعدة القانونیة على جمیع الأشخاص دون استثناء فتسود المساواة أمام القانون.
فلیس
من المنطق أن یتوقف تطبیق القانون على الظروف الخاصة بكل شخص، بحیث یطبق على من
كان عالما به ویعفى من لم یعلم به من تطبیقه علیه، فالسماح لهذا الأخیر بالاعتذار
بجهل القانون من شأنه أن یؤدي إلى الفوضى والى الضیاع الأمن، عن طریق فتح باب
الادعاء بالجهل بالقانون كلما كانت مصلحة الشخص متعارضة مع ما یقضي به القانون،
وبذلك یمكن لكل من یرید التهرب من أحد أحكام القانون الادعاء بعدم العلم به.
المطلب الثالث: نطاق تطبیق المبدأ
یثیر
تطبیق مبدأ لا یعذر بجهل القانون، مسألة تطبیقه من حیث مصدر القواعد القانونیة
(الفرع الأول)، ومن حیث طبیعة هذه القواعد أیضا (الفرع الثاني).
الفرع الأول: من حیث مصدر القواعد القانونیة
لا یجوز
الاحتجاج بجهل القواعد القانونیة للإفلات من الخضوع لحكمها أي كان مصدرها، سواء
نبعت من التشریع أو من الدین أو من العرف.
ونلاحظ
أن الإحاطة بالقواعد التشریعیة أسهل من الناحیة العملیة، ذلك أن نشر التشریع في
الجریدة الرسمیة وتحدید میعاد لنفاذه، یفترض في هذه الحالة علم الكافة به، مما لا یجیز
الاعتذار بجهله، بحیث لا یقبل من أي شخص الاحتجاج بأنه لم یعلم شخصیا بالقواعد
التي یحملها التشریع المنشور.
الفرع الثاني: من حیث طبیعة القواعد القانونیة
هل
أن إعمال مبدأ لا عذر بجهل القانون یقتصر على القواعد القانونیة الآ مرة، أم انه یمتد
لیشمل القواعد القانونیة المكملة أیضا؟
أولا: قصر تطبیق مبدأ لا عذر بجهل القانون على القواعد الآمرة: ذهب أصحاب هذا القول إلى أنه لا یعمل
بهذا المبدأ إلا إذا كانت القواعد القانونیة آمرة لا یجوز لاتفاق على مخالفتها
واستبعاد ما تقضي به. وكذلك على اعتبار أن القاعدة الآمرة تعتبر من النظام العام،
فیجب على جمیع الناس احترامها، ولا یجوز لأحد أن یخل بها بدعوى أنه یجهلها، ویفترض
أن كل شخص یعرف هذه الأحكام.
ثانیا: امتداد تطبیق مبدأ لا عذر بجهل القانون إلى القواعد المكملة: یرى أنصار هذا القول وجوب تطبیق هذا
المبدأ على حد سواء بالنسبة للقواعد الآمرة منها والمكملة، وذلك لسببین هما:
1- أن
القواعد المكملة قواعد قانونیة یتوفر فیها عنصر الإلزام والجزاء، لذا یمتنع
الاعتذار بجهلها شأنها في ذلك شأن القواعد الآمرة.
2- إن
القول بإباحة الاعتذار بجهل القواعد المكملة لا یتماشى مع طبیعتها من كونها لا
تنطبق إلا في حالة سكوت المتعاقدین عن استبعادها، فقد یكون سكوتهما راجعا إلى
جهلهما بها، ومع ذلك لا یقبل منهما الإفلات من حكمها بحجة هذا الجهل، لأن شرط تطبیق
هذه القواعد في حقهما إنما یتحقق بهذا السكوت، فلو أبیح الاعتذار بجهل هذه القواعد
في حالة سكوت المتعاقدین لأدى ذلك إلى فارغ، ما وجدت القواعد المكملة إلا لسده،
ذلك أنه لا توجد إرادة للمتعاقدین من جهة، و یمتنع تطبیق القواعد المكملة من جهة
أخرى.
المطلب الرابع: الاستثناءات الواردة على مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون
یرد
على مبدأ الامتناع الاعتذار بجهل القانون مجموعة من الاستثناءات (التي جاء بها
الفقه) نذكرها:
الفرع الأول: القوة القاهرة
إذا
استحال على الشخص العلم بالقانون بسبب قوة قاهرة: احتلال أجنبي، انقطاع المواصلات
نتیجة ظواهر طبیعیة، حالت دون وصول الجریدة الرسمیة الى منطقة أو مناطق معینة من
إقلیم الدولة، فإنه لا یمكن تطبیق مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون، فیمكن
بالتالي الاحتجاج بجهل التشریع الجدید، إلى حین زوال القوة القاهرة.
هذا
الاستثناء یخص فقط القواعد التشریعیة دون غیرها من قواعد الدین أو العرف لأن التشریع
وحده هو الذي ینشر في الجریدة الرسمیة. وهو نادر الوقوع الیوم نظار لتقدم وسائل
المواصلات وخاصة الجویة منها.
الفرع الثاني: إبطال العقد لغلط في القانون
نصت
المادة81 ق م ج على ما یلي : "یجوز للمتعاقدین الذي وقع في غلط جوهري وقت إبرام
العقد أن یطلب ابطاله". ویعرف الغلط أنه وهم یقوم في ذهن الشخص فیصور له
الأمر على غیر حقیقته ویدفعه إلى التعاقد.
أمثلة: 1- أن یتعهد شخص بدفع دین طبیعي وهو یعتقد أن هذا الدین ملزما له
مدنیا (وغلط في صفة جوهریة في الشيء).
2- أن
یهب رجل لمطلقته مالا وهو یعتقد أنه استردها لعصمته، جاهلا أن الطلاق الرجعي ینقلب
بائنا بانتهاء العدة ، فلا ترجع إلى عصمته إلا بعقد جدید، فیجوز له أن یطلب إبطال
الهبة نظار للغلط في القانون المنصب على الشخص المتعاقد.
3-
أن یبیع وارث نصیبه في التركة متوهما أنه الثلث، فإذا به یرث النصف، فیجوز له
إبطال البیع للغلط في القانون الذي وقع في القیمة.
الفرع الثالث: الجهل بتشریع غیر جنائي یتوقف علیه تقریر المسؤولیة الجنائیة
إذا
كان الجهل بأحكام تقنین العقوبات لا یؤدي إلى إعفاء مرتكب الجریمة من مسؤولیته عند
ارتكابها، فإن الجهل بأحكام تقنین آخر كالتقنین المدني یأخذ حكم الجهل بالواقع و یؤدي
الى نفي القصد الجنائي ورفع المسؤولیة الجنائیة عن الفاعل الذي كان یعتقد أنه قام
بفعل مشروع.
مثال: القضاء الجنائي الفرنسي قضى ببراءة عامل من تهمة السرقة لانتقاء القصد
الجنائي لدیه، وكان قد استولى على الكنز الذي عثر علیه في أرض مملوكة للغیر جاهلا
قواعد التقنین المدني التي تجعل له نصفه فقط وتجعل النصف الآخر لمالك العقار.
الفرع الرابع: جهل الشخص الأجنبي بأحكام تقنین العقوبات للدولة التي نزل بها منذ مدة وجیزة (الاستثناء العملي والمنطقي الوحید)
الأجنبي
الذي لم یمض على قدومه إلا دولة أجنبیة إلا أیاما قلائل، ویرتكب في خلال هذه المدة
فعلا یجهل أنه جریمة وفقا لتشریع هذه الدولة، فیصلح هذا الجهل عذار یرفع عنه
العقوبة إذ توفر شرطین هما:
أ-
أن یكون الفعل الذي ارتكبه غیر معاقب علیه وفقا لتقنین العقوبات في بلده وفي
البلاد التي كان مقیما فیها.
ب- أن
یكون الفعل المكون للجریمة قد تم في خلال المدة التي حددها القانون من تاریخ وصوله
إلى الدولة الأجنبیة، فإذا انقضت هذه المدة لم یعد یقبل منه احتجاجه یجهله بقانون
هذه الدولة.
المشرع
الجزائري لم ینص صراحة على مدة محددة، عكس المشرع العراقي التي جعلها سبعة أیام
على الأكثر، والمشرع اللبناني الذي جعلها ثلاثة أیام على الأكثر.
المرجع:
- د. بركات كريمة، محاضرات في مقياس المدخل للعلوم القانونية (النظرية العامة للقانون)، مطبوعة موجهة لطلبة السنة الأولى، جامعة محند أكلي أولحاج البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم القانون الخاص، الجزائر، السنة الجامعية 2020/2021، ص 67 إلى ص72.