حدود سلطات الضبط الإداري
القاعدة
العامة أن الأفراد يتمتعون بالحريات العامة التي كفلها لهم الدستور غير أنه في
مواضع معينة ترد على هذه الحريات قيودا تفرضها مصلحة المجتمع. ولما كان الأصل هو
التمتع بالحرية والاستثناء هو القيد أو القيود، وجب أن تخضع هذه القيود إلى ضوابط
تمنع أو تحد من التعسف في ممارستها، ويقضي الأمر عن الحديث عن حدود سلطة الضبط
الإداري التمييز بين الحالة العادية والحالة الاستثنائية.
المبحث الأول: الحالة العادية
تخضع
ممارسة الضبط من قبل الأجهزة التي ذكرناها إلى قيدين هما خضوع إجراءات الضبط لمبدأ
المشروعية وثانيا خضوعها لرقابة القضاء:
المطلب الأول: خضوع إجراءات الضبط لمبدأ المشروعية
إن
كل اجراء من اجراءات الضبط ينبغي أن يكون مشروعا وحتى يكون كذلك وجب أن يتخذ من
النظام العام بجميع عناصره وأبعاده مقصدا له. فحين تفرض الإدارة على الأفراد عدم
الخروج في مسيرة دون رخصة فان المقصد العام هو توفير الأمن العام حتى لا يبادر
الأفراد وبطريقة فوضوية للخروج في الشوارع العامة بما في ذلك من خطر قد يهدد
الأرواح والممتلكات. وحين تفرض عليهم عدم استعمال مكبرات الأصوات ليلا فان القصد
هو توفير السكينة العامة. وحين تراقب الإدارة بعض المواد الاستهلاكية أو تمنع
عرضها فذلك بغرض حماية الأفراد من مخاطر الأمراض.
وعليه
فان القيد العام الذي يحكم الضبط الإداري هو أن كل إجراء يترتب عليه المساس بحريات
الأفراد ينبغي تبريره وإلا كانت الإدارة في وضعية لتجاوز السلطة. كما أن هذه الضوابط
التي تفرضها الإدارة على الأفراد ينبغي أن تكون واحدة بالنسبة للجميع وأن كل خروج
عن مبدأ المساواة أمام القانون يعرض الإدارة للمسؤولية كما سبق القول فالقانون
واحد أن يحمي أو يعاقب أو يكره كما جاء في المادة 29 من الدستور.
المطلب الثاني: خضوع إجراءات الضبط للرقابة القضائية
الأصل
أن جميع أعمال ونشاطات الإدارة تكون عرضة للرقابة القضائية إذا ثبت التجاوز أو
الخرق، للقوانين والتنظيمات ولا يتعلق الأمر بإجراءات الضبط فقط بل وبأعمال أخرى
كقرارات التأديب والترقية وغيرها.
فعندما
يثبت للجهة القضائية أن الإدارة تجاوزت الحد وأن مقتضيات النظام العام غير متوفرة
في القضية المعروضة عليها جاز لها إلغاء كل قرار في هذا المجال وإذا اقتضى الأمر
تعويض الطرف المضرور. فالرقابة القضائية على هذا النحو هي ضمانة أخرى تضاف للقيد
العام حتى لا تسيء الإدارة استعمال سلطتها.
ولقد
عهد الدستور الجزائري لسنة 1996 للسلطة القضائية حماية الحريات العامة والحقوق
الأساسية وهذا بموجب المادة 138 منه. كما اعترفت المادة 143 للقضاء بالنظر في
قرارات السلطات الإدارية. ووعدت المادة 22 بمعاقبة القانون لكل متعسف في استعمال
السلطة. ويمكن للمدعي رفع دعواه أمام القضاء المختص (الإداري) طالبا الإلغاء فقط
أو الإلغاء مع التعويض أيا كانت الجهة المصدرة للقرار سواء جهة مركزية أو إدارة
محلية.
وسبق
لنا القول أن المادة 5 من المرسوم 88- 131 المذكور والمتعلق بعلاقة الإدارة مع
المواطن نصت أنه يترتب على كل تعسف في ممارسة السلطة تعويض وفق التشريع المعمول به
وهو ما تكرر في المادة 39 أيضا من نفس القانون.
وتجدر
الإشارة إلى أن الرقابة التي يمارسها القاضي الإداري على أعمال البوليس الإداري،
تتم إما عن طريق دعوى تجاوز السلطة ضد القرارات التنظيمية أو القرارات الفردية.
كما قد تتم تلك الرقابة عن طريق دعوى المسؤولية المدنية عن الإضرار التي سببتها
أعمال البوليس الإداري.
أما
بالنسبة لدعوى المسؤولية المدنية، فإنها تهدف إلى الحصول على تعويض الأضرار التي
سببتها أعمال أو إجراءات هيئات البوليس الإداري. على أن هذه الدعاوى توجه إما ضد
الدولة أو ضد الجماعات المحلية، وذلك طبقا لما إذا كان العمل قد صدر عن الدولة أو
عن الجماعة الإقليمية.
على
أن أخطاء البوليس الإداري لا ترتب مسؤوليتها إلا إذا كانت جسيمة – حالة المسؤولية
المبنية على الخطأ-. ومع ذلك يجوز إقامة مسؤولية هيئات البوليس الإداري حتى ولولم
ترتكب أي خطأ- حالة المسؤولية بدون خطأ-، وذلك في حالة وقوع أضرار بالغة نتيجة
استعمالها الأسلحة النارية.
هذا
وتجدر الإشارة إلى أن الطعن بدعوى تجاوز السلطة ضد قرار هيئة البوليس الإداري، لا
يؤدي إلى وقف تنفيذ ذلك القرار.
كما
يمكن للقاضي المدني أن يكون مختصا بتقرير التعويض عن الأضرار التي سببه إجراء
البوليس الإداري، إذا ما كان الذي قام بإجراء البوليس الإداري قد ارتكب خطأ شخصيا،
أو كنا بصدد تطبيق نظام الجمع بين المسؤوليات.
ويجوز
ايضا للقاضي الجزائي بمقتضى المادة 453 من قانون العقوبات أن يفرض رقابته على
مخالفة التنظيمات التي تتخذها هيئات البوليس الإداري –المتعلقة بالنظام العام-
ويوقع نتيجة لذلك الجزاءات المقررة في هذا الصدد، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يجوز
للقاضي الجزائي أن يقدر مدى مشروعية قرار إداري، وهو بصدد توقيع عقوبة جزائية على
من خالفه نتيجة لدفع هذا الأخير بعدم مشروعية القرار الذي خالفه، وحتى ولو تم ذلك
الدفع بعد انتهاء مواعيد الطعن القضائية ضد القرار الإداري.
المبحث الثاني: الاختصاصات الاستثنائية لسلطات البوليس الإداري
قد
يكون المجتمع عرضة لظروف استثنائية مثل الحرب والكوارث الطبيعية والأوبئة وغيرها
مما يفرض الاعتراف لجهة الإدارة بسلطات أوسع للتحكم في الوسع الاستثنائي غير أن
الإشكالية التي أثيرت بهذا الصدد هل ينبغي تقييد السلطة التنفيذية بقانون خاص يحكم
نشاطها في الحالات الاستثنائية وتطبيق النصوص الخاصة؟
وتقتضي
الطريقة الثانية أن تلجأ السلطة التنفيذية للبرلمان لاستصدار قانون خاص يحكم عملها
ونشاطها في الظروف الاستثنائية. وقد عاب البعض أيضا على هذه الطريقة كون الظروف
الاستثنائية قد تحل بصورة مفاجئة مما قد يعيق نشاط السلطة التنفيذية ويغل يدها عن
مواجهة الوضع.
المطلب الأول: أشكال الظروف الاستثنائية
يمكن
القول بأنه هناك نوعين من الظروف الاستثنائية: ظروف استثنائية قضائية، وهي التي
رأيناها لحد الآن ،وظروف استثنائية منظمة بنصوص قانونية. فأما النوع الأول من
الظروف، فقد لعب مجلس الدولة الفرنسي دورا معتبرا في تأصيل هذه النظرية، حتى وإن
كانت هذه النظرية تضرب بجذورها عبر العصور الغابرة. أما النوع الثاني من الظروف
فقد تدخلت النصوص القانونية وأقرت ما وضعه القضاء في هذا الصدد، حيث وسعت من
اختصاص هيئات البوليس الإداري. إن هذه الحالات تتمثل في حالة الطوارئ وحالة الحصار
(أولا) والحالة الاستثنائية (ثانيا). وإذا تمعنا جيدا في هذه الخالات، فإنه يمكن
القول بأنها لا تتضمن مساسا بمبدأ المشروعية، ما دام أن النصوص القانونية هي التي
حددتها ونظمتها.
الفرع الأول: حالة الطوارئ وحالة الحصار
لقد
نصت المادة 91 من الدستور الجزائري على أنه "يقرر رئيس الجمهورية، إذا دعت الضرورة
الملحة، حالة الطوارئ أو حالة الحصار، لمدة معينة، بعد اجتماع المجلس الأعلى
للأمن، واستشارة المجلس الشعبي الوطني، ورئيس مجلي الأمة، والوزير الأول، ورئيس
المجلي الدستوري، ويتخذ كل التدابير اللازمة لاستتباب الوضع.
ولا
يمكن تمديد حالة الطوارئ أو حالة الحصار إلا بعد موافقة البرلمان المنعقد بغرفتيه
المجتمعتين معا".
إن
هذه المادة تثير الملاحظات التالية:
1- إذا
كان الفرق بين الحالتين في فرنسا يكمن في أنه في حالة الطوارئ، فإن اختصاصات
السلطة الإدارية تتسع بشكل غير مألوف، بينما في حالة الحصار فإن السلطة العسكرية
هي التي تحل محل السلطة المدنية في ممارسة اختصاصات البوليس الإداري، فإن النصوص
الجزائرية لم تبين لحد الآن ما هو الفرق بين الحالتين، وإن كان التطبيق العملي
للحالتين في الجزائر أخذ بالتمييز المطبق في فرنسا.
ومع
ذلك تجدر الإشارة إلى أن السلطات الجزائرية قد تنبهت لهذه المسألة في عهد الرئيس
ليامين زروال. فالمادة 15 من تنظيم أجهزة المرحلة الإنتقالية المنبثقة عن أرضية
الإجماع الوطني، قد أشارت إلى أن هذه المسألة سيتكفل بها أمر يبين كل من حالة
الطوارئ وحالة الحصار، إلا أن هذا الأمر لم يصدر. وعندما صدر دستور 1996، نصت
المادة 92 منه على أنه "يحدد تنظيم حالة الطوارئ وحالة الحصار بموجب قانون
عضوي" إلا أن هذا القانون هو الآخر لم يصدر لحد الآن.
2- إن
القيود التي وضعتها المادة 91 من الدستور لإعلان حالة الطوارئ وحالة الحصار، هي
قيود قليلة الفعالية، لأن الضرورة الملحة يعود تقديرها لرئيس الجمهورية وحده .أما
أخذ رأي الهيئات أو الشخصيات التي أشارت إليها المادة، فإن رأيها استشاري غير
ملزم، إلا فيما يتعلق بتمديد حالبة الطوارئ أو حالة الحصار، إذ يشترط موافقة
البرلمان المنعقد بغرفتيه المجتمعتين معا.
الفرع الثاني: الحالة الاستثنائية
تنص
المادة 93 من الدستور على أنه "يقرر رئيس الجمهورية الحالة الإستثنائية إذا
كانت البلاد مهددة بخطر داهم يوشك أن يصيب مؤسساتها الدستورية، أو استقلالها، أو
سلامة ترابها.
ولا
يتخذ مثل هذا الإجراء إلا بعد استشارة رئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس مجلس الأمة
والمجلس الدستوري والاستماع إلى المجلس الأعلى للأمن ومجلس الوزراء.
تخول
الحالة الإستثنائية رئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات الإستثنائية التي تستوجبها
المحافظة على استقلال الأمة والمؤسسات الدستورية في الجمهورية.
يجتمع
البرلمان وجوبا.
تنتهي
الحالة الإستثنائية حسب الأشكال والإجراءات السالفة الذكر التي أوجبت
إعلانها." إن هذه المادة تستدعي الملاحظات التالية:
1- إذا
كان من المفروض أن الحالة الإستثنائية هي حالة يتم الإعلان عنها عندما يكون الوضع
أكثر خطورة من حالتي الطوارئ والحصار، فإننا لا نرى في غياب نصوص قانونية تحدد
الإجراءات المتخذة في الحالات الثلاثة، ما هو الفرق بينها، ذلك أنه إذا كانت
الإجراءات المتخذة في الحالة الإستثنائية
تؤدي إلى تقييد الحريات العامة والحقوق الأساسية، فإن حالتي الطوارئ والحصار تسمح
بالوصول إلى هذا الهدف، لذلك لا داعي لإدراج حالة ثالثة لا تبدو لازمة.
2- يتضح
من قراءة المادة 93 أنه يشترط لإعلان الحالة الإستثنائية شروطا موضوعية وشروطا
شكلية، وذلك على النحو التالي:
أ-
الشروط الموضوعية: تتمثل هذه الشروط فيما يلي:
- وجود
خطر داهم يوشك أن يصيب المؤسسات الدستورية للدولة، أو استقلالها، أو سلامة ترابها.
- أن
تكون الغاية من استخدام السلطات الإستثنائية التي يمارسها رئيس الجمهورية هي
المحافظة على استقلال الأمة والمؤسسات الدستورية في الجمهورية.
ب- الشروط الشكلية: وتتمثل في:
- استشارة
رئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس مجلس الأمة والمجلس الدستوري.
- الإستماع
إلى المجلس الأعلى للأمن ومجلس الوزراء.
ولكن
ينبغي أن يلاحظ أن كل هذه الشروط ليس لها في الحقيقة قيمة كبيرة. فالشروط
الموضوعية غير محددة، ورئيس الجمهورية هو القاضي الوحيد في تقديرها. أما الشروط
الشكلية، فإنها ليست فعالة، ما دام أن رأي الجهات التي يستشيرها رئيس الجمهورية أو
يستمع إليها ليست ملزمة.
أما
الضمانة الوحيدة والحقيقية، فإنها تتمثل فيما نص عليه الدستور من ضرورة انعقاد
المجلس الشعبي الوطني وجوبا، الأمر الذي قد يترتب عليه أن ممارسة رئيس الجمهورية
للسلطات الخطيرة التي يتمتع بها في هذا الصدد، تتم تحت رقابة أعضاء المجلس الشعبي
الوطني.
المطلب الثاني: آثار الظروف الاستثنائية
إن
الآثار التي تترتب على الظروف الإستثنائية هي على نوعين، فمنها ما يتعلق بمدى
مشروعية الظروف (أولا)، ومنها ما يتعلق بمسؤولية الإدارة (ثانيا)، وذلك على النحو
التالي:
الفرع الأول: مدى مشروعية الظرف الاستثنائي
إن
من آثار الظروف الإستثنائية هو إعفاء الإدارة من مراعاة القواعد التي تلتزم بها في
الظروف العادية، من ذلك قواعد الاختصاص، إذ يمكن للإدارة في مثل هذه الظروف أن
تتجاوز الإختصاصات المحددة لها في الظروف العادية. كما تعفى الإدارة من مراعاة
قواعد الشكل والإجراءات والموضوع، إذ يمكنها أن تقوم بأعمال من شأنها المساس
بالحريات العامة، هذا من جهة.
ومن
جهة أخرى، إذا كان يترتب على الظروف الإستثنائية إعفاء هيئات البوليس الإداري من مراعاة قواعد المشروعية العادية،
فإن هذا ليس معناه إعفاء الإدارة من التحلل كلية من قواعد المشروعية، ذلك أن هذه
الأخيرة عليها أن تتقيد بمشروعية الأزمة. هذه المشروعية الجديدة قيدها القاضي
الإداري لأمرين هامين. أما الأمر الأول فإنه يتعلق بالهدف المتبع من طرف الإدارة،
والذي يجب أن يكون بالضرورة مواجهة الأزمة. وأما الأمر الثاني، فإنه يتمثل في
الوسائل المستعملة من طرف الإدارة، والتي يجب أن تتلاءم مع ذلك الظرف.
الفرع الثاني: مسؤولية هيئة البوليس الإداري
يمكن
القول بأن هناك عدة نتائج في هذا الصدد، والمتمثلة فيما يلي:
1- إن
بعض إجراءات البوليس الإداري التي تعتبر غير مشروعة في الظروف العادية، لا تسأل
عنها الإدارة في ظل الظروف الإستثنائية.
2- إن
إجراءات البوليس الإداري المشوبة بعيب جسيم والتي تدخل فيما يسمى بالتعدي، لو
ارتكبت في الظروف الإستثنائية، تحولت إلى أخطاء بسيطة.
3- إن
بعض الإجراءات المتخذة في الظروف الإستثنائية، والتي ترتب ضررا للغير، تؤدي إلى
قيام مسؤولية الإدارة ليس على أساس الخطأ، بل على أساس المسؤولية بدون خطأ.
رغما
كل القيود التي يفردها الضبط الإداري أو البوليس الإداري على حريات الأفراد فإنه
في النهاية يقوم على خدمة هؤلاء الأفراد بالحفاظ له على النظام العام الذي تعود
فائدته على الجميع فلما كانت مصلحة الفرد في مصلحة الجماعة هنا يمكن أن نقول أن
الضبط الإداري نعمة على الفرد، فحدود حريات الفرد تنتهي عند بداية حريات الآخرين،
فالضبط الإداري هو عصب السير الحسن لنظام العام.
المرجع:
- د. بن عودة حسكر مراد، محاضرات في مقياس سلطات الضبط الإداري، جامعة أبو بكر بلقايد، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، السنة الجامعية: 2017-2018، ص50 إلى ص55.