الاتجاهات الحديثة للسياسات التشريعية
نجح الفقيه الفرنسي فرنسوا جيني إلى حد
بعيد في الإلمام بالحقيقة الكاملة من خلال تطرقه إلى جميع جوانب المكونة للقاعدة
القانوني، فبرغم من الاتفاق في عنصر الصياغة في الفقه الحديث إلا أنه انتقد من
جانب عنصر العلم أين لا يمكن اعتبار المثالية والعقل علم فهي ليست ملموسة ولا يمكن
إثباتها عن طريق المشاهدة والتجربة إلى جانب صعوبة التمييز بين الحقائق الواقعية
والتاريخية، كما يصعب التمييز والفصل بين الحقائق العقلية والمثالية.
فالفقه الحديث يعتمد في النصوص
القانونية على عنصر الصياغة ويرتكز على العناصر المكونة للقاعدة القانونية.
أولاً: العناصر المكونة للقاعدة القانونية
يتجه الفقه الحديث إلى جمع العناصر
والحقائق التي تساهم في تكوين القواعد القانونية والتي تتمثل في عنصرين وهما:
1- العنصر الو اقعي: ويقصد به مجموعة الحقائق التي تحيط بالأفراد
في الجماعة فهي حقائق يمكن إخضاعها للمشاهدة والتجربة، وتتمثل في عدّة عوامل نذكر
منها ما يلي:
- العوامل الطبيعية: ويقصد بها البيئة التي يعيش فيه الفرد
من نوع المناخ والموقع الجغرافي (مناخ حار معتدل بارد فطبيعة الحياة في الصحراء
تختلف عن الساحل...).
- العوامل الاجتماعية: وهي مجموعة من حقائق الحياة في مجتمع
ما ومختلف الأعراف التي تساهم في تكوين الأنظمة القانونية والذي يتميز بالاختلاف
من عصر لأخر ومن مكان لأخر (كنظام الرق، نظام الأسرة كالإرث....).
- العوامل الاقتصادية: تساهم وبشكل كبير الحاجات الاقتصادية
في تكوين القواعد القانونية فحاجات الأفراد الاقتصادية من استهلاك وإنتاج وتداول
وتوزيع ومتغيرة ومتنوعة والمتزايدة.
- العوامل التاريخية: وهي عبارة عن خبرة والتجربة التي
اكتسبتها الإنسانية عبر امتداد الزمن من نشأة وتطور وتغير النصوص القانونية من عصر
لأخر.
2- العنصر المثالي: وهي عبارة عن حقائق تفكيرية عقلية تستخلص عن طريق العقل فالعنصر
الواقعي يحتاج إلى معيار يقاس عليه مثل عليا بالعقل، فيجب إضافة إلى القاعدة
القانونية عنصر أساس ي مثالي يتمثل في العدل.
أ- مفهوم العدل: يقصد بالعدل عموما المساواة والإنصاف،
وبمفهومه البسيط هو إعطاء كل ذي حق حقه.
أما من جانب المفهوم القانوني فهو
مجموعة من القواعد التي يكشف عنها العقل ويوحي بها الضمير ويرشد إليها النظر
الصائب.
❖ العدل من حيث الشكل: يقصد بها نظرة المذاهب الشكلية إلى فكرة العدل، أين يرون أن تحقيق فكرة العدل يستوجب تطبيق القانون بصفة ملزمة وحتى باستعمال القوة والإجبار إن تطلب الأمر ذلك، فالقانون هو إرادة
الحاكم ويجب احترامها.
بحيث يرى الفيلسوف أوستن أن القانون
الذي يحقق العدل هو الذي يصدر من إرادة الحاكم ومشيئته ويطبقها بالقوة على الأفراد
عند الضرورة، فالعدل عند أوستن ينبع من إرادة الحاكم ووفقا لضميره الخاص فهو يتولى
المراقبة والإشراف على توزيع العدل بين الأفراد.
أما أنصار مذهب الشرح على المتون فيرون
أن فكرة تقديس النصوص القانونية واحترامها باعتبارها كاملة وشاملة لكل المواضيع
الحياة، وهي الوحيدة التي تتضمن الأسس التي من شأنها فكرة العدل والعدالة بمعنى
أخر أن تطبيق النصوص المقدسة هو تحقيق العدل.
في حين يرى الفيلسوف هيجل أن تحقيق
فكرة العدل تكون عن طريق القانون الذي هو من صنع الدولة والمعبر عنه عن طريق إرادة
الحاكم المعززة بالقوة من أجل إجبار الأفراد على احترامها وبالتالي تحقيق العدل
والعدالة.
❖ العدل من حيث المضمون: يرى أصحاب المذاهب الموضوعية من المدرسة المثالية خاصة القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير أن فكرة العدل ليست نابعة من القواعد القانونية الثابتة وإنما تتأثر بمختلف الظروف المحيطة بالمجتمع، فالعدل يدركه الإنسان بعقله ويتصف بالكمال والمثل العليا ووجد في ضمير الإنسان منذ
الأزل وستبقى ثابتة ولا تتغير والمتغير فيها هو المكان والزمان واختلاف التصورات
الاجتماعية وتطورها فما هو عادل في زمن ومكان ما ليس بالضرورة عادل في زمن ومكان
أخر ويمكن أن يختلف حتى في فترة لأخرى، فالعدل ليس تصور شخص ي بل هو شامل وعام
للإنسان.
ب- صور العدل: يقسم الفقهاء العدل إلى عدل خاص وعدل
عام.
❖ العدل الخاص: هو الذي يحكم العلاقات بين الأفراد ويقوم على أساس المساواة التامة المتبادلة بينهم، لذلك سمي بالعدل التبادلي والأصل فيه كان مقصور على العلاقات الأفراد التعاقدية خاصة في حالة تبادل السلع
والمنافع إلا أنه لم يبق محصور في نطاق العلاقات الفردية بل أصبح يشمل كل علاقات
الأفراد بغض النظر إن كان مصدرها تعاقدي أم لا.
ويقوم العدل الخاص على أساس تساوي
الأفراد مما يعني احترام كل منهم بحق الأخر إما بإعطاء حق أو الامتناع عن الاعتداء
عليه، وهذا الحق يمكن أن يكون ابتدائي أولي ويتعلق بالكيان المادي والمعنوي للفرد
ويعتبر ظلمًا إذا اعتدى فرد على فرد أخر جسديا بالضرب أو القتل الجرح... أو نفسيا
أي معنويًا كالإهانة الشتم القذف...، كما يمكن أن يكون الحق مكتسبًا والذي ينصرف
إلى كل ما يكتسبه والذي ينصرف إلى كل ما يكتسبه الفرد في حياته ويضيفه إلى نفسه
كشيء خاص به بشرط أن يكون بطريقة مشروعة مع الإقرار بذلك.
❖ العدل العام: يقصد به العدل الذي يجب على الجماعة اتجاه الأفراد المكونين لها في توزيع المنافع والمزايا والثروات وحتى الأعباء لذلك سمي بالعدل التوزيعي بحيث
ما يجب مراعاة فيه اختلاف الأفراد في حاجاتهم وقدرتهم وحتى في جدارتهم وكفاءتهم،
أي ينبغي مراعاة اختلاف الأفراد حسب حاجاتهم وقدراتهم وجدرانهم فيترتب على هذه المساواة
النسبية، فالأفراد لا يعاملون بنفس المعاملة المتساوية فلا يمكن أن تكون مساواة
مطلقة في الحصول على الوظائف العامة في الدولة فليس كل الأفراد متساوين في تولي
بعض الوظائف العامة في الدولة فيجب مراعاة بعض الشروط كالكفاءة والجدارة، كما أن
تحديد الحد الأدنى في الأجر لكن مع إضافات لذوي العائلات، وفرض الضرائب مع مراعاة
المعيار التصاعدي وحسب رقم الأعمال، فعموما العدل التوزيعي يرعى قيم الأفراد
وحاجاتهم مع التماس نوع من المساواة التناسبية.
إلى جانب العدل الاجتماعي أو كما يطلق
عليه أيضا اسم العدل القانوني هو الذي يقوم على أساس اعتبار الفرد جزءًا من
المجتمع والمجتمع هو الكل، فالعدل يرمي في هذه الحالة إلى تحقيق المصلحة العامة أو
العدل الاجتماعي الذي يسود علاقات الأفراد بالجماعة ومن حيث وجوب الأفراد نحو
الجماعة فيعدّ الفرد جزء من الجماعة ويُسخر لخدمة الكل وبالتالي تعود المنفعة
لصالح العام أو للمجتمع فلا يتحقق هذا إلا بالاشتراك الكل لغاية واحدة.
ويعدّ العدل الاجتماعي المبرر الأساس ي
في إخضاع الأفراد لسلطة الحاكم وباسم العدل الاجتماعي له سلطة الأمر لتحقيق الصالح
العام، وعلى سبيل المثال أداء الخدمة الوطنية أو التضحية بالنفس من أجل الوطن أو
الجماعة فهو من الصالح العام ومعاقبة السارق وحتى إن أرجع الشيء المسروق من أجل
الحفاظ على نظام المجتمع ومن الصالح العام.
جـ - تطور فكرة العدل:
يبقى العدل أرقى وأسمى القيم التي كانت
في نظال وكفاح من كافة المجتمعات لتحقيقه وتكريسه في النصوص القانونية رغم اختلاف
القيم التي يؤمن بها كل مجتمع من مكان لأخر ومن زمان لأخر، فالعدل هو الهدف الأسمى
والغاية القصوى التي يسعى القانون في تجسيدها في كل مكان وعبر مختلف الأزمنة، إلا
أن فكرة العدل اختلفت وتطورت عبر عدّة مراحل ليصبح مفهوم شائع فيعصرنا.
العدل عند الغرب: ظهرت فكرة العدل في الحضارات الغربية
القديمة أين تأسس العدل على أساس احترام التفاوت، بحيث يرى أفلاطون وأرسطو أن
مفهوم العدل هو تلاءم كل شخص مع محيطه الخاص وما يخرج عن محيطة فهو ظلم، وعلى سبيل
المثال يعتقد أن كل شخص تاجر فمحيطه التجارة، والطبيب محيطه هو العلاج والعبيد
محيطه للعبودية... فالرجل لا يصلح إلا في مكانه ويؤمنون أن هذا مهيأ بالفطرة لتولي
وظيفة دون الأخر والخروج عنها ظلم فالبعض يولدون أحرار ويعيشون أحرار والبعض الأخر
يولد عبيد ولا يصلح إلا للعبودية.
فاختلاف الناس بالولادة في قدرتهم
ومواهبهم الجسمية والعقلية فمنهم الضعيف ومنهم القوي ومنهم الذكي ومنهم الغبي، فمن
الظلم أن نسند الغبي أو الغير الذكي والكفء منصبا إداريا ممتازا، بمعنى يرجع كل
هذا إلى عوامل فيزيولوجيا والعدل هو أن يقف كل شخص فيما توفر له طبيعته
الفيزيولوجيا.
إلى اليوم معظم عامة الشعب يدينون
بمراكزهم وأوضاعهم إلى الضعف الوراثي لأعضائهم وعقولهم بالإضافة هذا الرأي فقد
تبنى هذا الموقف بعض الأديان كاليهود الذين زعموا أنهم وحدهم شعب الله
المختار، كما يرى النازيين أنهم الجنس الآري
الصافي مما يعطيهم رغبة أقوى في العمل قصد الوصول إلى مستواهم، وهذا التفاوت هي من المبادئ التي انطلق منها
التوسع الاستعمار بدعوى أن القوة لها الحق بل ومن العدل أن يحتل القوي الضعيف
ويسير شؤونهم المختلفة لبقى القوي قويا والضعيف ضعيفا، إلا أنه وما أثبته العلماء
أن العرق الصافي من المستحيل وجوده وأن كل بلاد العالم مزيج من العروق حتى أن الدم
الذي تفتخر به ألمانيا نفسها إنما هو دم هجين إلى حد بعيد أكثر من غيره لأن العلم
والواقع يؤكد أن الدم الهجين باعث على التقدم والنبوغ والحيوي.
إلا أنه سرعان ما بدأ المجتمع الغربي ينادي
بالمساواة والعدل رغم أنها فكرة نسبية لعدم القدرة على تحقيقها في الحقوق
والواجبات لاختلاف القدرات الجسمية والعقلة ومن أنصار المساواة في الغربي يقول
شيشرون أنه لا يوجد شيء أشبه بالإنسان إلا الإنسان فجميعنا عقل ولنا نفس الحواس
وإن اختلفنا في العلم فنحن متساوون في القدرة على التعليم.
فكرة العدل في الإسلام: يعتبر أحد المبادئ الأساسية التي يقوم
عليها النظام الإسلامي من أجل الحفاظ على كيان المجتمع ولا يتحقق العدل إلا بتطبيق
الشريعة الإسلامية التي تنظم علاقة الفرد بنفسه وعلاقته بغيره وعلاقة الحاكمين
بالمحكومين.
فالعدل معناه في الإسلام إزالة الفوارق
المصطنعة والفروق الواسعة التي نشأت بين أفراد والمجتمعات بطرق غير مشروعة ولابد
من فتح الطريق أمام الجميع وتكافئ الفرص في جميع المجالات، ويقول الرسول صلى الله
عليه وسلم: لا فضل لعربيا على عجميا إلا بالتقوى، فالإسلام يقر بضرورة المساواة
بين جميع الناس دون النظر إلى الأصل أو الجنس أو أي اعتبار أخر فالمساواة في
الإسلام تعتبر من أحد أصوله والتي تجد أساسها في العقيدة التي جاءت لتكريم الإنسان
باعتباره من أصل واحد وهو سيدنا أدم عليه السلام.
ثانيا: أسس قيام الدولة الحديثة
تقوم الدولة الحديثة على أسس تسيير
عليها الأنظمة الحاكمة وترتكز عليها لقيام دولة القانون وحماية حقوق الإنسان
وحرياته الأساسية، وتتمثل هذه الأسس فيما يلي:
1- ضرورة وجود دستور: ويقصد بالدستور مجموعة القوانين
والأنظمة التي تحدد علاقة مؤسسات الدولة مع بعضها البعض وعلاقة هذه المؤسسات
بالأفراد مع تحديد نظام الحكم فيها والحقوق الأساسية للأفراد وواجباتهم، فالقانون
الأساسي لأي دولة يمكن أن نجدها مكتوبة كما يمكن أن تكون عرفية.
2- مبدأ الفصل بين السلطات: هو توزيع وظائف الدولة على هيئات
منفصلة وتستقل كل منها عن الأخرى في مباشرة وظائفها، بحيث يجب وجود داخل الدولة
سلطة تشريعية تتمثل وظيفتها في سن النصوص القانونية، وسلطة تنفيذية تتمثل مهمتها
في تطبيق النصوص القانونية وتنفيذها ،وسلطة قضائية تتمثل مهمتها في الفصل في
النزاعات والخصومات والمحافظة على عدم التعدي على الحقوق والحريات، مع عدم المنع
من وجود تعاون واتصال فيما بين السلطات . فمثلا: في الدستور الجزائري لسنة 1996
المعدل في سنة 2002 وفي سنة 2008 وأخرها كان سنة 2016 فقد وضع المؤسس الدستوري في
الباب الثاني حول تنظيم السلطات وخصص الفصل الأول حول السلطة التنفيذية، الفصل
الثاني حول السلطة التشريعية وفي الفصل الثالث حول السلطة القضائية.
3- التعددية السياسية: يقصد بها تعدد الآراء والقوى السياسية
ومشروعيتها وحقها في التعبير والمشاركة والتأثير في القرارات السياسية عن طريق
التعددية الحزبية وحريتها في حرية التعبير ومخاطبة الرأي العام من أجل الوصول إلى
السلطة أو المشاركة فيها وخلق التنافس السياسي الذي يتجسد بوجود ثلاثة أحزاب ناشطة
فأكثر بشكل دائم وثابت.
بحيث أصبح المؤسس الدستوري يأخذ في
إنشاء الأحزاب السياسية كحق مكرس دستوريا والوارد في نص المادة 52 والمادة 53 ضمن
الباب الأول في الفصل الرابع الخاص بالحقوق والحريات.
المرجع:
- أ. عياد، محاضرات في مقياس منهجية البحث في العلوم القانونية "فلسفة القانون"، جامعة عبد الرحمان ميرة – بجاية كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم التعليم الأساسي، السنة الأولى، الجزائر، السنة الجامعية: 2019/ 2020، ص23 إلى ص29.