خصوصية جرائم الأعمال وطبيعتها
إنّ القانون
الجنائي للأعمال هو قانون جديد، لا يقتصر على الجرائم الكلاسيكية المعروفة في القانون
الجنائي العامّ والمسمّاة بجرائم الأموال بل أنّ نطاقها اتسع ليشمل جرائم الأعمال
بالمفهوم الحديث له، حيث أنّ هذه الجرائم تتصل بشكل مباشر بالحلقات الثلاث للدّورة
الاقتصادية وهي الإنتاج، التوزيع ،والاستهلاك. وكما جاء على لسان الأستاذ المغربي
الدّكتور عبد السلام بنحدو: "أنّ القانون الجنائي للأعمال هو في حقيقته سوى
تطبيق القانون الجنائي العامّ وقانون المسطرة الجنائية في ميدان المال
والأعمال".
ومنه يمكن
القول أنّ القانون الجنائي للأعمال هو في الأصل يحتكم إلى القانون الجنائي العامّ،
لكنه رغم ذلك يتميّز بخصوصيات واستقلالية تميّزه عن باقي فروع القانون.
ويسعى المشرّع
من خلال القانون الجنائي للأعمال إلى مخاطبة فئة محدّدة وبنصوص خاصّة تتوافق
والميدان الذي تنتمي إليه.
غايته في ذلك
تنظيم سلوك هذه الفئة، وٕإرساء أرضية متينة للتعاملات المالية والاقتصادية فهو
يتدخّل لمواجهة كلّ ضرر أو تهديد يمسّ كلّ مجال حيوي في البلاد، خاصّة المجال
الاقتصادي سواء تعلّق بالإنتاج بكافة أنواعه أو استهلاك البضائع والمعاملات
المالية وتقديم الخدمات.
ولتحديد
خصوصية جرائم للأعمال، يتعيّن الوقوف على أمور عديدة تتعلق بصفة مرتكب الفعل
والمسؤولية الجنائية له، وكذا طبيعة النّشاط الإجرامي.
المطلب الأول: طبيعة الشّخص المجرم وقيام مسؤوليته الجنائية في القانون الجنائي للأعمال
من أبرز
القواعد الخاصّة بالقانون الجنائي للأعمال المرتبطة بالجانب الموضوعي، هي تلك
المتعلّقة بالشّخص الجاني أو المخالف للنّصوص المرتبطة بمجال المال والأعمال،
والمسؤولية الجنائية التي تتحقق فيه.
أولا: طبيعة الشّخص المجرم في القانون الجنائي للأعمال
بخلاف الإجرام
العادي، فإنّ الإجرام المرتبط بميدان الأعمال والتجارة يتمّ من قبل أشخاص يستعملون
معلوماتهم النّظرية والمهنية لارتكاب جرائمهم بكلّ براعة، وبدون عنف ولا دمّ ولكن
بذكاء وتفكير علمي مدعوم بتكتم شديد. والمعنى المستفاد هنا هو أنّ هؤلاء الأشخاص
المجرمون بمقتضى القانون ليسوا أشخاصا عاديين، بل يتميّزون بالكفاءة العلمية
والعملية والمهنية حيث يحدثون أضرارا تتجاوز العنف المادّي. فهي جرائم ذوي الياقات
البيضاء crimes en col blanc، أي أنّ هذا
النّوع من الإجرام يرتكبه أناس لهم مكانة هامّة في المجتمع، ولا يستعملون الأدوات
التقليدية لارتكاب جرائمهم بل يلتجئون إلى وسائل وحيل جدّ متخصّصة مثلا البحث عن
الثغرات الكامنة في التشريع الضّريبي للتهرّب من دفع المستحقّات الضّريبية لخزينة
الدّولة.
فالمجرم ذو
الياقة البيضاء هو مواطن فوق كلّ شكّ، يعي الأمور غير الشّرعية وغير القانونية
لفعلته غير الأخلاقية، لكنه لا يشعر أنه مجرم لأنه يقرّ بعدالة فعله ويحسّ كذلك
بأنّ له حقّ شخصي في خرق القوانين بالنّظر إلى مركزه الاجتماعي وبالنّظر كذلك إلى
ما يقدّمه للدّولة من تشغيله المواطنين وبالتالي المساهمة في خلق مناصب شغل
ومحاربة البطالة وأنه يعتبر نفسه معيلا لهؤلاء، ويستحقّ أكثر ممّا تقدّمه الدّولة
له ويقرّ في دواخله أنّ القوانين الحالية لا تتناسب والتضحية التي يقدّمها،
فالجريمة هنا لا تعبّر عن لا أخلاقية فاعلها وٕإنّما تعبّر عن لا وطنية فاعلها.
وعليه فإنّ
رجال الأعمال هم المستهدفون من هذا القانون لحماية النّظام العامّ الاقتصادي لوضع حدّ
لمخالفتهم وتطاولهم على القانون وعلى أخلاقيات المهنة، فإن كان رجل الأعمال يعتبر
نفسه فوق القانون فلأنه غير وطني لا يدرك الثّقة التي وضعها المجتمع والدّولة فيه،
وهذا ما دفع المشرع إلى الاعتراض والتصدّي للمخالفات والجرائم التي تمسّ بالاقتصاد
الوطني وبخزينة الدّولة وبمجال التشغيل ،فكم من رجل أعمال قام بفعلته وأدّى إلى
إفلاس مقاولته وشركته وٕإلى فقدان الأجراء لمناصبهم. ورجل الأعمال هو ليس ذلك
الشّخص التاجر صاحب المقاولة (رئيس المقاولة أو الشّركة التجارية) بل هو أيضا
المسيّر والمتصرّف باسم الشّركة سواء القانونيين أو الفعليين، وبالتالي فإنّ
المديرون وأعضاء الجهاز الإداري للشّركة والتجّار هم الذين يشملهم هذا
القانون.
ثانيا: المسؤولية الجنائية لرجال الأعمال
إنّ سوء تسيير
المشروع الاقتصادي أو المالي يكتسي خطورة بالغة على استقرار المعاملات المالية
والاقتصادية. وللحدّ من عواقب وأخطار سوء الإدارة والتّسيير في هذا الميدان، ومن
أجل حثّ رجال الأعمال على بذل قصارى جهودهم في تدبير معاملاتهم وأعمالهم والعمل
بحسن نيّة، فقد تدخّل المشرع للنصّ على جزاءات صارمة تمسّ كلّ رجال أعمال ثبتت في
حقه أفعال محدّدة لها أثر سلبي على الاقتصاد الوطني بصفة عامّة وعلى مصالح
المتعاملين معه بصفة خاصّة. فالمسؤولية المدنية –كالمسؤولية عن الدّيون- النّاتجة
عن الخطأ في التّسيير لم تعد كافية للحدّ من سوء التسيير ممّا جعل المشرع يقرّر
مسؤولية رجال الأعمال الجنائية.
إنّ المسؤولية
الجنائية لرجال الأعمال تخضع في أحكامها للقواعد العامّة المنصوص عليها بالقانون
الجنائي أو قانون العقوبات العامّ، وللقواعد الخاصّة المنصوص عليها بالقانون
الجنائي للأعمال. إنّ هذا الأخير يحدّد نطاق المسؤولية الجنائية من حيث الشّروط
الخاصّة للجرائم. في حين أنّ القانون الجنائي العامّ يبقى هو الأصل في تحديد
مسؤوليتهم الجنائية من حيث المبادئ والأحكام العامّة، ومن حيث الفاعل الأصلي
والمساهم في الجريمة والمحاولة. ومن حيث عناصر المسؤولية المبنية على سلامة العقل
والقدرة على التّمييز وأسباب انعدامها، فرجل الأعمال شأنه شأن باقي الأشخاص يمكنه
أن يسأل، في إطار القانون الجنائي عن كلّ فعل مجرّم من طرف المشرع أثناء أدائه
لمهامّه، كالتزوير والنّصب وخيانة الأمانة... وهي الجرائم التي تخضع في تطبيقاتها
للقواعد العامّة في التجريم والعقاب.
وفي نفس الوقت
فهو يسأل في إطار القوانين الخاصّة أو القانون الجنائي للأعمال عن الإخلال بالالتزامات
المفروضة عليه قانونا، والجرائم المرتكبة من طرفه بمناسبة نشاطه وأعماله، كما هو
الحال بالنّسبة للالتزامات المنصوص عليها بالقانون التّجاري وقانون الشّركات،
والإخلال بواجب الشّهر بالسجلّ التّجاري، وجرائم الشيك والإفلاس والإصدار غير
القانوني للأسهم والإدلاء بتصريحات ووقائع كاذبة وتوزيع أرباح وهمية... إلى غيرها
من الجرائم.
إنّ نطاق
مسؤولية رجال الأعمال يتحدّد في كلّ المخالفات التي لها علاقة بنشاطهم وأعمالهم
المالية والتّجارية وغيرها.
وتبدأ من
مرحلة التّأسيس مرورا بالتسيير والإدارة والمراقبة، وصولا إلى رأس المال وجمعيات
المساهمين وحلّ المشروع أو المؤسّسة. والمشرّع يهدف من كلّ ذلك، إلى إرساء وترسيخ
نوعا من الانضباط وسدّ كلّ الثغرات في مجال الأعمال لينضبط لأهداف وغاية السياسة
الجنائية في البلاد.
وكما تثبت
المسؤولية الجنائية للشّخص الطبيعي فإنها تثبت كذلك للشّخص المعنوي، فقد يكون رجل
الأعمال شخصا طبيعيا، فيكون مالك للمشروع الاقتصادي أو المقاولة هو المسؤول عنها
ماليا وٕإداريا، وهو في هذه الحالة يسأل عن سوء التسيير بصفة شخصية.
وقد يكون رجل
الأعمال جهازا جماعيا كما هو الأمر بالنسبة للشّركات التجارية حيث تكون الإدارة
للممثل أو ممثلين عنها كمجلس الإدارة مثلا والذي يتمتع في هذه الحالة بصفة الشّخص
المعنوي الذي له حقّ التسيير والإدارة ويسأل جنائيا مثله مثل الشّخص الطبيعي مع
فارق على مستوى العقوبات، حيث لا يمكن أن يحكم على الأشخاص المعنوية إلاّ
بالعقوبات المالية وكذلك العقوبات التكميلية.
وتثار
المسؤولية الجنائية للشّخص المعنوي في ظلّ القانون الجنائي للأعمال وكذلك في نصّ
المادّة 15 مكرّر من قانون العقوبات، عند توافر عنصرين وهما:
- ارتكاب
الجريمة من طرف أجهزة الشّخص المعنوي أو ممثليه الشّرعيين، أو المفوّض له في
الحالة التي يفوّض فيها المسيّر جزءا من صلاحياته لشخص آخر للتصرّف باسم الشّركة
وترتكب الجريمة في حدود هذا الجزء المفوّض من الصّلاحيات، هذا ويجب أن يكون
المسيّر مختصّا، أي أن يكون قد ارتكب الفعل ضمن الشّروط المفروضة من طرف القانون
من أجل إلزام الشّخص المعنوي بصورة مشروعة ووفقا للشّروط المحدّدة في النّظام
الأساسي.
هذا ويجب أن
يكون التصرّف صادرا عن أشخاص بإمكانهم إلزام الشّخص المعنوي جنائيا ومناط القول
بالاختصاص هو القانون أو النّظام الأساسي وٕإلاّ اعتبر التصرّف كأنه صادر عنهم
بصفتهم الشّخصية، ومثال ذلك أن يتكوّن مجلس إدارة شركة المساهمة من مسيّرين غير
مستوفين لشروط الأهلية أو واقعين في حالة تنافي خرقا للقوانين وأن يعيّنوا خرقا
لقرارات الجمعية العامّة العادية.
وأخيرا يجب أن
تتسق الجريمة ونشاط الشّخص الاعتباري أي بمعنى أن يكون الفعل المجرّم قد ارتكب
ارتباطا بنشاط المؤسّسة العادي، أو بمناسبة هذا النّشاط، بحيث لولا السّعي من طرف
المسير المختصّ لتحقيق الغرض الاجتماعي للشّركة لما كان من الوارد ارتكابه لهذا
الفعل المجرّم باسمها طبعا ولحسابها.
- ثم العنصر
الثاني وهو ارتكاب الجريمة لحساب الشّخص المعنوي، ويقصد بذلك أن تكون الجريمة قد
ارتكبت بهدف تحقيق مصلحة الشّركة، كتحقيق ربح أو تجنّب خسارة ودفع الضّرر عنها،
ويستوي أن تكون هذه المصلحة مادّية أو معنوية، مباشرة أو غير مباشرة، محققة أو
احتمالية، حالة أو مؤجّلة.
ويمتدّ نطاق
المسؤولية الجنائية للشّخص الطبيعي والشّخص المعنوي إلى كلّ من المسؤول القانوني
والفعلي، فكلّ منهما يتعرّضان للجزاء حال إتيانهما لأفعال ذات طابع إجرامي لها
علاقة بمجال أعمالهما.
فالمسيّر
القانوني هو الذي يتولى بصفة نظامية مهام إدارة وتسيير أعماله سواء كان طبيعيا أو
جهازا جماعيا أو أعضاء لشخص معنوي تمّ تعيينهم في مهامّهم بصفة نظامية وقانونية.
أمّا دون ذلك
كالشّخص الطبيعي الذي تتوفر فيه هذه الشّروط لكونه تابع، أو لا يقوم بمهام الإدارة،
فلا يعتبر مسيّار.
ولقد استبعد
الفقه الفرنسي من وصف المسيّر القانوني:
مندوبي
الحسابات لأنهم لا يشاركون في التّسيير.
المديرين
الأجراء للشّخص المعنوي (تقنيين أو إداريين) والسّبب في عدم اعتبارهم مسيّرين
قانونيين هو توفّر عنصر التّبعية، لكن يمكن اعتبارهم مسيّرين فعليّين متى منحهم النظام
الأساسي مهام تتجاوز مهمّة الرّقابة.
على أنه يمكن
متابعة المسير القانوني المستقيل، بالنّسبة للأفعال السّابقة لاستقالته وهو نفس ما
ينطبق في حالة سحب الصّفة بسبب إنهاء مدّة المهامّ أو العزل، وتتوقف آثار هذه
القاعدة في حالة عدم التوقّف الفعلي من مزاولة الوظائف، أو إذا استمرّ المسير
السّابق في ممارسة مهامّه السّابقة.
إذن المسيّر
القانوني هو المسيّر الذي يناط به بصفة قانونية مهام إدارة أعمال الشّركة وتسيير
شؤونها بغضّ النّظر عن طريقة تعيينه سواء تمّ ذلك في القانون الأساسي للشّركة أو
قضائيا كما هو الشّأن بالنّسبة للمصفي، سواء تمّ شهر قرار تعيينه في السجلّ
التجاري، أم لم يتمّ ذلك، لأنه لا يستطيع الدّفع بعدم قانونية التّعيين من أجل
الإفلات من العقاب، فالقانون لا يسأل المسيّرين القانونيين فقط، بل كذلك المسيّرين
الفعليّين.
والمسيّر
الفعلي هو الشّخص الذي ينصّب نفسه في إطار سياسة الأمر الواقع، في مهمّة التسيير
والإدارة بعيدا عن الضّوابط القانونية، فقد يزعم أو يدّعي حقا على مشروع مالي أو
تجاري، أو يكون شريكا في شركة ويتولى تسييرها دون أن يكون قد نصّب من طرف أجهزة
الشّركة المختصّة.
وهو مثله مثل
المسؤول القانوني تمسّه المسؤولية الجنائية من كلّ إخلال أو جريمة يرتكبها أثناء
مباشرة تلك المهام، إلاّ أنّ مسؤوليته لا تتمّ ولا تقوم إلاّ إذا كانت الإخلالات
والمخالفات قد ارتكبت أثناء التّسيير الفعلي، وأن يكون مسؤولا عن اتّخاذ القرار أو
كان بوسعه اتخاذه، وأن يكون فعله صادرا عنه بحرّيّة واختيار.
وهو ينتمي إلى
عدّة فئات: تارة فرد من العائلة، مثلا: أب عجوز، أو أمّ عجوز في الثّمانينات من
العمر (لا خطر عليها)، أو على العكس ابن أو بنت ما تزال تحت السّلطة الأبوية
(الوصاية). تارة مستخدم مستعدّ للتّضحية عبر إغرائه بترقية داخل الشّركة أو رفع
أجره، بل وفي بعض الأحيان أحد الكفاءات الصّغرى (مساعد محاسب – سكريتيرا)، أحيانا
أخرى لا تتمتع بأيّ كفاءة (سائق تسليم – امرأة تنظيف – عاملة).
وعلى المستوى
العملي وبالخصوص في فرنسا، يستعمل مصطلح "رجل قش" "Homme
de
paille" عوض "المسخّر" أو"
المستتر" ويكون غالبا: الزّوجة، الخليلة، العشيقة التي تكتفي بالتّوقيع دون أن تطأ
أبدا أقدامها الشّركة.
وقد وسّع
المشرع من نطاق المسؤولية الجنائية لرجال الأعمال لتمسّ حتى المسؤول الواقعي، وهو
ما يسمّى أحيانا بالمسؤول المستتر الذي لا يظهر في وثائق المشروع الرّسمية، بل
يكلف شخصا بدله ليظهر بمظهر المالك أو المسيّر القانوني ويبقى هو يعمل في الخفاء
إمّا بسبب حظر أو منع ممارسة بعض الأعمال المالية عليه، كما هو الحال بالنّسبة
للموظف العمومي الذي تتنافى وظيفته مع ممارسة النّشاط التجاري مثلا. ولكي يخرج من
هذه الحالة يتحايل على القانون ويعمد إلى تأسيس شركة أو مشروعا تجارّيّا أو ماليّا
في اسم أحد المقرّبين له كزوجته أو أحد أبنائه. ومتى ثبتت مسؤولية هذا الشّخص إلاّ
وتعرّض للجزاء كفاعل أصلي أو مساهم أو شريك بحسب الأحوال والظروف.
فالمسيّر
المستتر هو ذلك الشّخص الذي له تأثير دائم على اتخاذ القرارات أو على السّير
العادي لإدارة الشّركة، وكلّ شخص يمارس بصورة مباشرة ،أو عن طريق شخص مسخّر نشاطا
إيجابيا ومستقلاّ داخل الشّركة تحت غطاء، أو نيابة عن الممثلين الشّرعيّين، أو كان
يحرّك أو يتلاعب بهؤلاء، والأمر يفترض نشاطا إيجابيا ومعتادا في التّسيير بكلّ
استقلالية وحرّية.
وعرّفه
الأستاذ الفرنسي Yves Guyon بكونه "الشّخص الذي يقوم بأعمال
التّسيير كأيّ مسير قانوني للشّركة".
ولقد لجأ
الفقه لبعض العناصر والمؤشّرات لاعتبار شخص ما مسيّار فعليّا.
وهكذا اعتبر
بعضهم أنّ المسيّر الفعلي، يحدّد "بمفهوم سلبي، أي كلّ من لا ينطبق عليه وصف
مسيّر قانوني ويقوم بأعمال التسيير"، حيث يجب أن تتوافر فيه ثلاث شروط
أساسية:
1- أن يباشر
نشاطا إيجابيا أي أن يشارك بصورة فعلية في التسيير.
2- أن يكون
التصرّف الإيجابي متعلقا بالتّدبير أو الإدارة.
3- أن يكون هذا
التصرّف صادرا من المعني بالأمر بكلّ حرّية وٕإرادة وبكامل استقلالية.
وهناك بعض
الفقه من حاول عند تعريفه المسيّر الفعلي، دعم أريه بالاجتهاد القضائي كون أنّ
التعريفات القانونية تبقى قليلة الوضوح خاصّة وأنها تترك أمر تحديد مضمون فعل
التسيير لأعمال الشّركة مبهما، فمحكمة النّقض الفرنسية تترك لقضاة الموضوع السّلطة
للتّقدير سياديا إذا ما كان هناك تسيير فعلي، وليس عليهم سوى تسبيب قراراتهم
بطريقة مُحكمة.
في إطار تحسين
تنفيذ القوانين الاقتصادية، وباعتبار أنّ أغلبية الجرائم المرتكبة في هذا الصّدد
تتمّ بدافع الطّمع والرغبة في الحصول على الرّبح، وهو الأمر الذي دفع لتوسيع دائرة
المسؤولية لتشمل حتى الغير، لذلك أصبحت معاقبة كلّ من سهل ارتكاب الجريمة أو كانت
له مصلحة في ذلك أمرا ضروريا، ومن هذا المنطلق ظهرت نظريتين:
- الأولى ذات
طابع موضوعي تعتبر أنّ المسؤولية الجنائية عن فعل الغير تقوم على أساس أنّ الخطأ
متوفر في حقّ متبوع بمجرّد ارتكاب المخالفة من طرف التابع استنادا لرابطة التبعية.
- في حين أنّ
النّظرية الثانية هي ذات طابع شخصي ترّكّز على شخص ربّ العمل وليس على موضوع
نشاطه، فهي تبحث في توافر إسناد معنوي للمسؤولية أكثر من الإسناد المادّي وذلك
بتوفر الخطأ للغير حتى يتحمّل مسؤوليته، وبمعنى آخر فكلّ شخص حمل شخصا آخر على ارتكاب فعل جرمي
معيّن، فإنه يتحمّل المسؤولية الجنائية كاملة عن هذا الفعل ويعاقب بنفس العقوبة
المقرّرة له كما لو كان هو الذي صدر منه الفعل المادّي.
انتشر هذا
النّظام في كلّ من فرنسا وٕإنجلترا واسكتلندا كاستثناء على المبدأ الوارد في
قانون العقوبات الفرنسي الجديد على النّحو الآتي: "لا يعاقب أحد إلاّ عن فعله
الخاصّ"، فيكون هذا الاستثناء أحيانا قضائيا وأحيانا أخرى من اعتراف
المشرع.
وٕإذا كانت
المسؤولية عن فعل الغير في القانون المدني أمر مسلم به، فإنه في القانون الجنائي
والأصل أنّ المسؤولية الجنائية هي مسؤولية شخصية، أي لا تصيب عقوبة الجريمة غير من
ارتكبها كفاعل أو ساهم فيها كشريك، وهي القاعدة التي ترّدّدت في توصيات المؤتمر
الدّولي السّابع لقانون العقوبات الذي عقد في أثينا عام 1957، بمناسبة بحث
المساهمة الجنائية، فنصّ على أنه لا يسأل شخص عن جريمة يرتكبها غيره إلاّ إذا أحاط
علمه بعناصرها واتجهت إرادته إلى المساهمة فيها.
وهو ما يعدّ
تطبيقا لمبدأ شخصية العقوبات الذي يعتبر من أهمّ مبادئ التشريع الجنائي الحديث، الذي
كرّسته الدساتير في كافة الدّول الديمقراطية بوصفه مفترضا أوليا لقيام الدّولة
القانونية، وهو ما نصّ عليه الدّستور الجزائري الحالي في المادّة 142 منه.
إلاّ أنه ومع
تطوّر النّظام القانوني، وبروز معطيات جديدة في ميدان المسؤولية الجنائية، والرغبة
في توفير حماية فعّالة للمصالح المشروعة ضدّ بعض صور الإجرام الخطير والمعقد،
خاصّة الذي يرتكب في إطار المشروعات الاقتصادية والمؤسّسات الصّناعية. أدّى ذلك
إلى أن أخذت التّشريعات القائمة في معظم الدّول انطلاقا ممّا قرّره القضاء حالات
تقرّر فيها مسؤولية أحد الأشخاص لفعل غيره ودون أن يساهم هذا الشّخص في الجريمة
بوصفه فاعلا أو شريكا ومن هنا يكون مفهوم المسؤولية الجنائية قد اتّسع ليشمل إلزام
الشّخص باحترام كلّ ما فرضه عليه القانون.
وفي القانون
الجنائي الجزائري، لم تلق هذه الفكرة قبولا إلاّ بصعوبة كبيرة ذلك لأنّ المبدأ
السّائد هو أنّ العقوبة الجنائية لا توقع إلاّ على مرتكب الجريمة وشريكه، أي من
ارتكب الخطأ شخصيا، فالمسؤولية الجنائية شخصية لا يسأل الشّخص عن أخطاء غيره، إلاّ
أنّ المشرع الجزائري أوجد بعض الاستثناءات على شخصية المسؤولية، أبرزها مسؤولية
مدير المنشأة الاقتصادية عن الجرائم التي يرتكبها موظفوها.
ولقد ذهب بعض
الفقه إلى التأكيد على أنّ هذا النّوع من المسؤولية يشكّل قاعدة عامّة في القانون الجنائي
الاقتصادي، ويحصر الأسباب التي ساعدت على اتساع نطاقها في: حماية تنفيذ القوانين
الاقتصادية واتّساع نطاق التجريم وخطورة الجرائم الاقتصادية إضافة إلى ذاتية
الرّكن المعنوي في الجرائم الاقتصادية.
يضاف إلى ذلك
أنّ من شأن هذا الحلّ أن يدفع صاحب الشّركة أو مديرها إلى حسن اختيار عمّاله،
وٕإصدار التّعليمات اللازمة لمراعاة الأحكام الاقتصادية والسّهر على تنفيذها
إضافة إلى أنّ الجريمة قد يحكم فيها بغرامة كبيرة ولا تسمح موارد العمّال أو
المستخدم بتسديدها، كما أنه من العدل أن يتحمّل المالك أو المدير تبعة الجريمة إذا
كشف أمرها لأنه يستفيد ممّا تجنيه المؤسّسة من مخالفة القانون الاقتصادي.
على ذلك يمكن
القول أنّ حالات المسؤولية الجنائية عن فعل الغير تمثل استثناءا عن مبدأ شخصية
العقوبات ينصّ فيها القانون على مساءلة أشخاص عن جرائم لم يباشروها مادّيا ولم
يدخلوا فيها بصورة من صور الاشتراك التي نصّ عليها القانون.
كما حاول بعض
الفقه الفرنسي الذي عالج المسؤولية الجنائية لمدير المنشأة الاقتصادية بتحديد نطاق
هذه المسؤولية المتوّلّدة بفعل ارتكبه التابع من النّاحية الظاهرية.
فخلص إلى
القول أنّ المسؤولية الجنائية هي مسؤولية شخصية نشأت بفعل الغير née
du fait d’autrui وليست مسؤولية عن فعل الغير "fait
d’autrui" فهناك خطأ شخصي للمتبوع (المدير) الذي
يمثّل خطأ التابع اللاحق مجرّد أثر كاشف له ممّا يستتبع عقاب المتبوع وحده أو عقاب
المتبوع والتّابع معا.
ولقد سايرت
محكمة النّقض الفرنسية هذا الاتجاه فأقرّت بمسؤولية مدير المنشأة الاقتصادية سواء
كان موجودا في مكان العمل أم لا، ولو كان الأمر يتعلق بواجب الرّقابة لأدّى الغياب
لانتفاء مسؤوليته وهذا ما لم يحدث حيث لا يمكن أن يكون مدير المنشأة غائبا ومع ذلك
يظلّ ملتزما بالرّقابة والإشراف، فهذا الالتزام يقتضي الوجود في المنشأة والغياب
يقتضي زواله وزواله يقتضي زوال المسؤولية.
المطلب الثاني: طبيعة جريمة الأعمال ومقاصد التّجريم والعقاب في القانون الجنائي للأعمال
من أجل إعطاء
تعريف متكامل لجريمة رجال الأعمال لابدّ من البحث في طبيعة تلك الجريمة والمقاصد
التي يريد المشرّع تحقيقها من وارء التجريم والعقاب.
أولا: طبيعة جريمة الأعمال
الجريمة بصفة
عامّة هي كلّ فعل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه. إذن
للجريمة مفهومان أحدهما علمي والآخر قانوني، فالجريمة حسب المفهوم العلمي هي ظاهرة
اجتماعية تتمثل في عمل أو امتناع ضارّ بالمجتمع سواء نصّ عليه المشرّع أو لم ينصّ.
وهو مفهوم لا يهتمّ بأركان الجريمة وعناصرها التّكوينية المحدّدة قانونا، وٕإنّما
يهتمّ فقط بفكرة الدّفاع عن المجتمع.
أمّا الجريمة
بمفهومها القانوني، فهي الجريمة التي يحدّدها القانون ويحدّد أركانها العامّة
وشروطها الخاصّة، غير أنه إذا كنّا أمام أفعال تدخل في خانة جرائم الأعمال، فإنّ
هذه الأركان بدورها تعرف عدّة خصوصيات سواء على محتوى الرّكن القانوني، أو الرّكن
المادّي، فضلا عن الرّكن المعنوي.
يقصد بالرّكن
القانوني (أو الشّرعي) للجريمة أنه لا يجوز اعتبار فعل أو امتناع جريمة إلاّ بنصّ
من القانون، لكن الرّكن القانوني في جرائم الأعمال أصبح يتجه نحو العديد من مظاهر
الخصوصية، وذلك بوضع تحديد قانوني مطاط يهدم البناء الجنائي القديم على مستوى
شرعية التجريم بشكل يمكن القول عليه أنه توقيع على بياض من المشرّع لفائدة جهات معيّنة،
متى توفرت أسباب كثيرة أهمّها السّبب التّقني والفنّي في تحديد الرّكن المادّي
للجريمة.
ويقصد
بالقاعدة الجنائية على بياض، تفويض المشرّع إلى جهة معيّنة تحديد الأفعال التي
يمكن أن تعتبر جريمة معاقب عليها حيث يكتفي المشرّع بتحديد العقاب فقط دون الأفعال
المعاقب عليها التي تستقلّ بها سلطة أخرى.
وقد اعتمد
المشرع الجزائري هذه التّقنية في مجموعة من النّصوص الجنائية المنظمة لمجال
الأعمال خاصّة ميدان الجمارك ومجال الصّرف.
ولعلّ السّبب
في اعتماد هذه التقنية يعود بالأساس لضرورة حماية المصلحة الاقتصادية والمالية
وذلك بقيام الإدارة بتكملة عناصر القاعدة الجنائية لأنها تكون على دراية أكثر من
غيرها.
إنّ ما يلاحظ
على جرائم الأعمال على مستوى ركنها المادّي أنها تتسم بصعوبة تحديده، لأنّ من
خصائص هذه الجرائم أنها معقّدة وذات طابع تركيبي ودولي أحيانا.
إنّ جرائم
رجال الأعمال تجمع بين صورتي السّلوك الإجرامي الإيجابي والسّلبي وهو ما يمثل
"عمل أو امتناع عن عمل" أو ما يطلق عليه "الفعل
والتّرك".
وبالرّجوع إلى
نصوص القانوني الجنائي للأعمال يتبين أنّ أغلب الجرائم المنصوص عليها بهذا القانون
هي جرائم إيجابية، أمّا الجرائم ذات الفعل السّلبي فهي قليلة.
ومن صور الجرائم
الإيجابية تضمين عقد الشّركة إقرارات كاذبة تتعلق بتوزيع حصص رأس المال، وجريمة
توزيع أرباح صورية أو فوائد على خلاف أحكام القانون، وجريمة إفشاء الأسرار.
ومن الجرائم
السّلبية ،جريمة إغفال مندوب الحسابات وقائع جوهرية عمدا في التقرير الذي يقدّمه
للجمعية العامّة وفقا لأحكام الشّركات وجريمة عدم تمكين المراقبين من الاطلاع على
الدّفاتر والأوراق التي يكون لهم الحقّ في الاطلاع عليها.
وقد تكون جرائم
رجال الأعمال بسيطة وقد تكون مرّكّبة ومعقدة عندما تتمّ على مراحل وتتضمّن أنشطة
مادّية متعدّدة وقد تكون لها تفاعلات دولية عندما تتمّ في نطاق أكثر من دولة
وبمساعدة العديد من الأشخاص من جنسيات مختلفة. وهي غالبا ما تتّخذ صور الجريمة
المنظمة وترتكب في إطار مشروع إجرامي قائم على أشخاص يوحدّون جهودهم من أجل القيام
بأنشطة إجرامية على أساس دائم ومستمرّ.
بخصوص الرّكن
المعنوي، إنه لا يختلف في جرائم الأعمال فيه عن جرائم القانون الجنائي العامّ،
والقصد الجنائي في جرائم الأعمال يقوم مثلما يقوم في الجرائم العامّة، على العلم
والإدراك بطبيعة الفعل وبالنّتيجة وٕإرادة إحداثها، ويمكن أن يكون هذا القصد قصدا
عامّا وفي بعض الجرائم قصدا خاصّا (العمد) كما هو الحال بالنّسبة لجريمة إساءة
استعمال أموال واعتمادات الشّركة، وكذلك جريمة توزيع الأرباح الصورية.
وقد تكون جرائم
رجال الأعمال غير عمدية يكفي فيها الرّكن المادّي، ومنها جريمة عدم تعيين مندوب
الحسابات أو عدم استدعائه إلى جمعية المساهمين طبقا للمادّة 828 من القانون
التّجاري، وهي جرائم تقوم بمجرّد إثبات التصرّفات المادّية المكوّنة لها وذلك لعدم
ورود أية عبارة صريحة في النصّ المعاقب عليها تفيد ضرورة قيام الرّكن المعنوي
للجريمة، ومن ثمّ فإنّ إهمال المتصرّف القيام بالواجبات المفروضة عليه دون حاجة
لاقتراف ذلك بسوء نيّة، يكفي في حدّ ذاته لقيام الجريمة.
وهنا تجدر
الإشارة إلى أنّ التجريم، في إطار القواعد العامّة، يشترط العمد ما عدا في حالة
الخطأ. أمّا في القواعد الخاصّة بجرائم رجال الأعمال فإنّ العمد ليس ضروريا في كلّ
جرائم الأعمال.
وعلى أية حال،
فطبيعة جرائم الأعمال وضرورة تطبيق السّياسة الاقتصادية وتنفيذا لأحكامها، تطلّبت
هذه السّياسة، أي إضعاف الرّكن المعنوي وعدم التشديد في إثباته، وهو ما عبّر عنه
الفقه بتلاشي الرّكن المعنوي لصالح الرّكن المادّي.
إنّ المشرّع
وسّع من دائرة التجريم والعقاب بالنّسبة لرجال الأعمال حتى أنه جرّم انعدام كفاءة
رجل الأعمال أو التاجر في تسييره لمؤسسته أو مشروعه المالي. فبالعودة إلى القانون
التّجاري الجزائري نجد أنّ المشرّع لم يكتف بمعاقبة التاجر سيّئ النيّة، بل تعدّاه
إلى معاقبة التّاجر عديم الكفاءة والذي لم يحترم الالتزامات المفروضة عليه قانونا
كإمساك الدّفاتر التجارية بشكل منتظم.
كما وسّع
المشرع من نطاق جرائم رجال الأعمال بسبب الخطر الذي تشكّله وهو خطر مفترض، وهذا
حال جريمة الاستعمال التعسّفي لأموال الشّركة وهي جريمة لا يشترط لقيامها حدوث
الضّرر بالفعل بل يكفي ثبوت سوء استعمال هذه الأموال لقيامها. وعلى العكس من ذلك،
فهناك جرائم لرجال الأعمال تكون جرائم ضرر لا جرائم خطر، فلا تقوم إلاّ إذا تحقق
الضّرر ومنها جرائم التفليس.
ومن مظاهر
اتساع نطاق التجريم والعقاب في القانون الجنائي للأعمال هو التّجريم والعقاب
لمجرّد الاشتباه في كونه ارتكب جريمة مالية، وكمثال على ذلك جريمة تبييض الأموال
التي يعاقب عليها المشرّع وحتى ولو لم يثبت أنّ الأموال المراد غسلها متحصّلة من
جريمة.
ومن جهة أخرى،
فإنّ جرائم رجال الأعمال، شأنها شأن باقي الجرائم قد تكون مجرّد مخالفات وقد تكون
جنح كما قد تكون جنايات، وهذا التّقسيم لا يثير صعوبات كبيرة عند التمييز بين
الأنواع الثلاثة ،خصوصا المخالفات والجنح إذ يكفي الرّجوع إلى نصوص القانون
الجنائي للأعمال لتحديد طبيعتهما، أمّا بالنسبة للجنايات فإنه لابدّ من الرّجوع
إلى أحكام القانون الجنائي العامّ لتحديدها إذ أنّ القوانين المتخصّصة لا تنصّ ولا
تحدّد في الغالب الجرائم التي تعتبر جنايات.
إنّ النّيابة
العامّة لدى المحاكم العادية هي المختصّة بتحريك الدّعوى العمومية، فالمشرع الجزائري
لم ينشأ محاكم اقتصادية مختصّة في الجرائم الاقتصادية على غرار ما فعل مثلا المشرع
المصري، أو غرف مختصّة على غرار ما فعل المشرع الفرنسي.
فنجد النّيابة
العامّة لدى المحاكم العادية، كما تعالج الملفات المحال عليها بخصوص الجرائم العادية،
تقوم بنفس الأمر بخصوص الملفّات المتعلقة بالجرائم الاقتصادية أو جرائم
الأموال.
ثانيا: محلّ وموضوع جريمة الأعمال ومقاصد التجريم والعقاب
إنّ الحقّ هو
محلّ وموضوع الجريمة بصفة عامّة، والحقّ أقسام وأنواع فهناك الحقوق السياسية
والحقوق المدنية والحقوق العامّة أو ما يطلق عليه الحرّيات العامّة. وهناك الحقوق
الخاصّة ومنها الحقوق المالية أو ما يسمّى بحقوق الذمّة المالية، والحقوق بصفة
عامّة تكون محلّ اعتداءات ومنازعات من طرف أشخاص ينتمون إلى مختلف الطوائف ممّا
يجعل المشرع يتدخّل بفرض قواعد قانونية لحمايتها والحفاظ عليها بمقتضى أنظمة
وقوانين تمسّ الجميع بدون استثناء. إلاّ أنه بالنّظر إلى خصوصية بعض المجالات
والمهن اضطرّ المشرع إلى التدخّل بسنّ قوانين تهمّ طوائف معيّنة، ومنها القوانين
المتخصّصة في المال والاقتصاد، التي تهمّ رجال الأعمال وهي القوانين التي تعنى في
غالبها بالحقوق المالية. وهي حقوق تنقسم إلى ثلاثة أنواع: حقوق عينية، وحقوق شخصية
وحقوق ذهنية أو فكرية.
فالحقّ العيني
هو سلطة مباشرة يقرّها القانون لشخص معيّن على شيء محدّد بالذّات، ومن أهمّ الحقوق
العينية حقّ الملكية، وحقّ الارتفاق إلى غير ذلك، أمّا الحقّ الشّخصي فهو سلطة
قانونية تثبت لشخص معيّن قبل شخص آخر، تمكّنه من إلزامه بأداء عمل معيّن أو
بالامتناع عنه تحقيقا لمصلحة مشروعة له.
وهو على هذا
الأساس يمثّل علاقة بين شخصين، صاحب الحقّ والمدين به، في حين أنّ الحقّ المعنوي
هو سلطة للشّخص على شيء معنوي كالأفكار والاختراعات وعلى العموم كلّ إنتاج
ذهني.
ويمكن اقتصار
الحقّ المالي بأنواعه الثلاثة (العيني والشّخصي والذّهني) بأنه: "مصلحة ذات
قيمة مالية يحميها القانون" ويختزل في "المال" عموما وهو محلّ
وموضوع جريمة رجال الأعمال.
والمقصود
بالمال هنا هو المال بمفهومه الواسع الذي يشمل كلّ حقّ مالي أو ما له قيمة اقتصادية،
سواء كان عقارا أو عقارا بالتخصيص أو منقولا: كالنّقود والعمارات، والسّفن،
والأسهم، والسّندات، والحصص في الشّركات، وحقوق الملكية الصّناعية والملكية
الفكرية، وبراءة الاختراع... وغيرها.
وبمعنى آخر
فإنّ الأموال التي تعتبر محلاّ للحقّ هي كلّ ما يمكن تقويمه نقدا واكتسابه
والتعامل فيه، وتشكّل ذمّة الشّخص المالية. وتعتبر الأموال في عالم الأعمال
المحرّك الذي يسمح باتخاذ المبادرات واستعمال الميكانزمات الاقتصادية.
والمال حسب
بعض التعريفات والمفاهيم الأخرى هو: "كلّ شيء ينفع الإنسان ويمكن أن يستأثر
به دون غيره، أي يمكنه أن يحوزه حيازة مادّية".
وبغضّ النّظر
عن مفاهيم المال المذكورة فإنّ المال ينقسم إلى مال عامّ ومال خاصّ، فأيّ منهما
يكون محلاّ لجريمة رجال الأعمال؟
الأموال
العامّة هي أموال مخصّصة للنّفع العامّ، فهي تخضع لنظام قانوني يغاير ذلك الذي
ينظم الأموال الخاصّة في القانون المدني. ووصف المال بأنه مال عامّ يعني أنه ملك
لكلّ المجتمع وتنوب عنه الدّولة وأجهزتها المختلفة في ملكيته وٕإدارته بما يحقق المنفعة
العامّة التي رصد لها. وهو يمثل إحدى وسائل الدّولة لتسيير وتدبير مرافقها
العامّة. وتكون من مجموع ما تملكه الدّولة ومؤسّساتها المملوكة لها كلّيا أو جزئيا
من أموال عقارية ومنقولة.
وٕإذا كانت
صفة المال العامّ تعتبر شرطا أساسيا في الجرائم التي يرتكبها الموظف العمومي، فإنّ
هذا المال يمكن أن يكون محلاّ لجريمة رجال الأعمال، في حالات معيّنة، ومنها حالة
المقاولات ذات الامتياز، وهي المقاولات المعهود لها تسيير مرفق عامّ بمقتضى عقد
امتياز تكون فيه للدّولة صفة السّلطة المتعاقدة. فأيّ اختلاس أو اعتداء إجرامي يمسّ
هذا المال العامّ الموضوع تحت تصرّف المقاولة المسيّرة يعتبر تصرّفا إجراميا أو
اختلاسا لمال عامّ ارتكبه رجل الأعمال كشخص طبيعي أو شخص معنوي.
وقد يكون
المال العامّ محلاّ لجريمة رجال الأعمال عن طريق الاشتراك أو الإخفاء.
فكثير ما
يشارك رجل الأعمال الموظف العمومي في اختلاس أو تبديد مال عام، خصوصا عند تنفيذ
الصّفقات العمومية. كما قد يعمد إلى إخفاء المال العام المتحصّل من جرائم الموظف
العمومي.
الأموال
الخاصّة هي أموال يمتلكها أفراد أو أشخاص بغرض استغلالها والحصول على ما ينتجه من
موارد مالية. وهي تخضع من حيث اكتسابها واستغلالها والتصرّف فيها لأحكام القانون
الخاصّ. أمّا من حيث الحماية الجنائية للأموال الخاصّة فهي إمّا أموال الغير أو
أموال الضحية، وٕإمّا أموال المشروع أو المؤسّسة، أو أموال الفاعل أي رجل الأعمال
نفسه.
الأصل في
القواعد العامّة المنصوص عليها بالقانون الجنائي أنّ الحماية الجنائية للمال تهمّ
بالأساس مال الضحيّة أو المال المملوك للغير الذي يكون ضحية الفعل الجرمي، كما هو
الشّأن بالنسبة لجرائم السّرقة، والنّصب، وخيانة الأمانة... وغيرها والتي تتعلّق
باختلاس أموال الغير.
أمّا بالنسبة
للقانون الجنائي للأعمال فإنّ هذه الحماية لا تقتصر فقط على المال المملوك للغير
بل تمتدّ إلى حماية مال الجاني أيّ رجل الأعمال نفسه أو ما يسمّى بـ "مال
المؤسّسة أو المشروع" وهي الأموال الموضوعة تحت تصرّف المسؤولين عن المشروع
من أجل استعمالها لتحقيق أهدافه ونشاطه وبلوغ الغاية المخصّصة له. وقد تتمثل هذه
الأموال في معدّات أو بضائع أو براءة اختراع، أو نقود أو أصول... أي كلّ الحقوق
التي لها قيمة مالية سواء كانت مادّية أو معنوية. فقيام رجل الأعمال ببعض
التصرّفات في ماله إضرارا بالمتعاملين معه أو الدّائنين يعتبر جريمة وكمثال على
ذلك جريمة التّفليس في القوانين التّجارية، أو جريمة إساءة استعمال أموال
الشّركة... إلى غير ذلك.
فالمسؤولية
الجنائية بالنّسبة لأموال المؤسّسة تنشأ من تحويلها عن تخصيصها أو مسارها القانوني
أو التّأسيسي في سبيل مصلحة خاصّة وشخصية ممّا يضرّ بالغير.
إنّ هذا
التمييز بين مال الغير (الضحية) وبين أموال المشروع أو المؤسّسة ينطبق كذلك على
مفهوم الاختلاس في بعض جرائم الأموال. فالاختلاس الذي يمسّ أموال الغير هو تحويل
حيازة الجاني النّاقصة لتلك الأموال إلى حيازته الكاملة.
في حين أنّ
تحويل أموال المشروع أو أموال الجاني لا يمكن أن يعتبر اختلاسا بل هو إخفاء لهذه
الأموال بما يضرّ بمصالح الغير لأنّ الإنسان لا يختلس أمواله.
وفي نفس
الإطار فإنه يتعيّن التمييز بين رجل الأعمال المالك أو صاحب المال وبين المسؤول
الإداري المستخدم، فالأول يعاقب على التصرّف في ماله عندما يضرّ مصالح الغير أو من
شأنه الإضرار بالغير أو بالدّائن.
في حين أنّ
المسيّر غير المالك للمال الذي يتصرّف بسوء نيّة في أموال المشروع فهو يعاقب في
إطار القواعد العامّة، وكمثال على ذلك جريمة خيانة الأمانة لأنّ فعله يعتبر
اختلاسا لمال مملوك للغير هذا فضلا على أنه قد يعاقب من أجل جرائم منصوص عليها
بالقوانين المتخصّصة كحالة المدير المسؤول بالشّركة الذي يوزع أرباحا صورية.
لا شكّ أنّ
التدخّل بالتجريم والعقاب في ميدان الأعمال أمر تمليه عدّة أسباب تتصل، من جهة
،بالسّياسة الاقتصادية والجنائية للبلاد. وغايتها دعم حرّية المبادرة وحماية
الادّخار تشجيعا للاستثمار المنوط به تحريك عملية الاقتصاد الوطني. وتتصّل، من جهة
أخرى، بحماية المستهلك والدّائنين على اختلاف أصنافهم منتجين وموّزّعين وموردين
وعمّال وغيرهم من الفاعلين الاقتصاديين وهنا يبرز المعطى الاقتصادي وتأثيره على
السّياسة الجنائية للبلاد، ذلك أنّ المظهر الاقتصادي أصبح هو نقطة التحوّل في
وظيفة القاعدة القانونية بحيث أصبحت تعكس قوّة تأثيره على الطبيعة القانونية
للعلاقة الاجتماعية. وغاية المشرع من سنّ القواعد الجزائية الخاصّة بالأعمال ليس
بالضرورة دائما هو البحث عن الجريمة ومرتكبها بل هي في الأصل غاية وقائية تستند
إلى وعي كلّ واحد من عناصر السوق بحقوقه وواجباته لتكون العلاقة بين رجال الأعمال
والتجّار والمتعاملين معهم منسجمة ومبنيّة على الشّفافية.
إنّ المستهلك
هو المحور الرّئيسي الذي تدور حوله عمليات الإنتاج والتّسويق، ومع ذلك يعتبر هو الحلقة
الضّعيفة أمام التطوّر المتسارع لوسائل الإنتاج والتسويق. وفي هذا الإطار فإنّ
غاية المشرع فيخلق توازن بين طائفتين طائفة رجال الأعمال وطائفة المتعاملين معهم.
فتشجيع الاستثمار وٕإنعاش الاقتصاد بإعطاء الحرّية لرجل الأعمال لتدبير وتسيير
مشاريعه وأعماله بما يضمن مصالحه الخاصّة ،يقابلها حماية المساهمين والمدّخرين
والدّائنين من الإدارة السيّئة أو غير الأمينة للمشروع.
إنّ الحفاظ
على ثقة كلّ الفاعلين الاقتصاديين في السّوق هو أساس استمرار الاقتصاد الوطني في
الازدهار والتقدّم.
ذلك أنّ جرائم
رجال الأعمال لها عواقب وآثار سلبية ليس على الاقتصاد الوطني فقط بل كذلك على
التّوازن الطبقي داخل المجتمع لأنها تعمل على زيادة الفجوة بين طبقة الأغنياء التي
تحتكر وسائل الإنتاج، وطبقة المستهلكين والفقراء التي ينبغي حمايتها. واللّجوء إلى
الجزاء يكون ضروريا وحتميا للحفاظ على التوازن الطبقي داخل المجتمع. وهكذا فقد
أصبحت غاية المشرّع من سنّ قوانين جنائية للأعمال هو خلق مساواة معيشية أي مساواة
فعلية وحقيقية.
وفي إطار
التوازن دائما فإنّ المشرع لم يهتمّ فقط بخلق التّوازن بين طبقات المجتمع،
وٕإنّما عمل عن طريق التّشريع والقوانين الجنائية للأعمال على خلق توازن داخل
مجالات معيّنة من الأعمال، وعلى الخصوص في مجال التجارة.
المرجع:
- د. قيسي سامية، محاضرات في القانون الجنائي للأعمال، جامعة أبو بكر بلقايد – تلمسان، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، تخصص قانون الأعمال، الجزائر، السنة الجامعية 2019-2020، من ص26 إلى ص49.