طرق إثبات النسب
تناول المشرع الجزائري في المادة 40
بفقرتيها الطرق التي يثبت بها النسب والتي يجب الاستناد إليها عند اللجوء أمام
القضاء للمطالبة بإثبات النسب، فإذا لم تثبت أية حالة من تلك الحالات المنصوص
عليها في المادة السالفة الذكر فإن ذلك سوف يؤدي إلى رفض الطلب الرامي إلى إثبات
النسب، وتبعا لذلك فإن هناك الطرق الشرعية لإثبات النسب (أولا) والطرق العلمية
(ثانيا).
أولا: إثبات النسب بالطرق الشرعية
إن الطرق الشرعية التي اعتمد عليها
المشرع الجزائري في إثبات النسب هي ما تناولته المادة 40 من قانون الأسرة السالفة
الذكر، والتي تتمثل أصلا في إثبات النسب بالزواج، وكذا بالطرق الأخرى كالإقرار
والبينة.
1- إثبات النسب بالزواج
وفي هذه الحالة نتناول إثبات النسب
بالزواج الصحيح ثم بالزواج الفاسد، وبنكاح الشبهة.
أ- إثبات النسب بالزواج الصحيح: إن أي ولد ينتج عن الزواج الصحيح يمكن
أن ينسب لأبيه فهو الزوج شرعا مع احتمال كونه من غيره حتى ولو قامت قرينة أخرى
قوية على أنه لغير صاحب الفراش، فالفراش قرينة على المخالطة المشروعة بين الزوجين
إلا أن الغالب أن الفراش لا يكون إلا بالزواج الصحيح وهذا لقوله صلى ﷲ عليه وسلم
"الولد للفراش وللعاهر الحجر"، ومعنى ذلك إذا جاء الولد بعد عقد زواج
صحيح فإنه يمكن إثبات نسبه إلى والده أي زوج أمه متى كان هذا الزواج شرعيا
وقانونيا، وكذا متى أمكن الاتصال الجنسي بين الزوجين ولم يكن الزوج قد نفاه بالطرق
الشرعية وهي الملاعنة، ومتى حصلت ولادة هذا المولود خلال أقل مدة الحمل التي هي
ستة أشهر وأقصاها 10 أشهر.
وفي ذلك ترى المحكمة العليا في إحدى
قراراتها ما يلي "من المقرر قانونا أن النسب يثبت بالزواج الصحيح وينسب الولد
لأبيه متى كان الزواج شرعيا وأمكن الاتصال، ومن المقرر أيضا أن نفي النسب يجب أن
يكون عن طريق رفع دعوى اللعان التي حددت مدتها في الشريعة والاجتهاد بثمانية أيام
من يوم العلم بالحمل أو برؤية الزنا، ومتى تبين في قضية الحال أن العارض لم يثبت
غيابه الدائم عن البيت الزوجي وتمسك بأن البنت ولدت في مدة تقل عن ستة أشهر من
عودته إلى التراب الوطني، كما أنه لم ينف النسب بالطرق المشروعة قانونا فإن قضاة
الموضوع بقضائهم بقاعدة الولد للفراش ما دامت العلاقة الزوجية قائمة بين الزوجين
طبقوا صحيح القانون".
ب- إثبات النسب بالزواج الفاسد ونكاح
الشبهة:
النكاح الفاسد هو الذي فقد شرطا من شروط الصحة المنصوص عليها في نص المادة 9 مكرر
من قانون الأسرة، كالنكاح بغير ولي أو بدون شهود وبدون صداق مثلا، والذي يستوجب
الحكم بالتطليق أو التفريق حالا ويترتب عليه صداق المثل وثبوت النسب.
كما جاء في المادة 40 من قانون الأسرة
إن النسب يثبت بكل زواج تم فسخه طبقا للمواد 32- 33-34 من هذا القانون، فإذا اقام أحد
الزوجين بدعوى أمام المحكمة بعد الدخول وطلب الحكم بفسخ عقد الزواج بينه وبين
الزوج الآخر لسبب من الأسباب القانونية والشرعية الموجبة لفسخ العقد أو كان قد نتج
عن هذا الزواج ولد فهذا الأخير يمكن إسناد نسبه إلى أبيه كلما حكم القاضي بفسخ
العقد بعد الدخول، وكلما ثبت أنه قد وقعت ولادته في الفترة ما بين أدنى وأقصى مدة
الحمل.
ونلاحظ أنه إذا كانت المادة 40 من
قانون الأسرة تقضي بثبوت النسب بكل نكاح تم فسخه بعد الدخول، فإن القانون الجزائري
لا يعترف بثبوت النسب قبل الدخول، وذلك لمصلحة الولد خشية من ضياع نسبه.
كما يثبت النسب بنكاح الشبهة وهي تسمية
فقهية لوهم يقع فيه الزوج فينكح أنثى يعتقد أنها تحل له، كمن يواقع زوجته بعد أن
طلقها طلاقا بائنا وهي في عدتها، أو أن يواقع امرأة يظن أنها زوجته ويتبين له فيما
بعد أنها ليست زوجته، وفي هذا المعنى دائما نصت المادة 34 من قانون الأسرة على أن
"كل زواج بإحدى المحرمات يفسخ قبل الدخول وبعده ويترتب عليه ثبوت النسب،
ووجوب الاستبراء".
لقد اتجهت المحكمة العليا في أحد قرارتها
إلى اعتبار أن الاغتصاب الثابت بحكم قضائي يعد وطأ بالإكراه ويكيف بأنه نكاح شبهة
يثبت به النسب.
2- إثبات النسب بالطرق الأخرى
بالرجوع إلى المادة 40 من قانون الأسرة
السالفة الذكر فإنها تقضي بأنه يثبت النسب بالإقرار أو بالبينة.
أ- إثبات النسب بالإقرار: إن
مفهوم الإقرار في الاصطلاح الشرعي هو إخبار الإنسان بحق عليه لآخر، والإقرار
بالنسب هو إدعاء المدعي أنه أب لغيره فيصدق فيه إلحاق الولد بفراشه، ويثبت النسب
بإقرار الأب ولو كذبته الأم، أو كذبه الابن، أو كان الإقرار بعد موت الابن، فالإقرار
حجة قاصرة على المقر كما أنه حجة ملزمة له، وفي ذلك جاء قرار المحكمة العليا أنه
"يثبت النسب بالإقرار بالبنوة ويكون حجة على المقر حال حياته وبعد وفاته حتى
ولو ثبت خلاف ذلك بطريق آخر لا يحتمل الإقرار النفي لا بشهادة الشهود ولا بالخبرة
العلمية وتحت أي إدعاء بالتبني أو بغيره سواء من المقر نفسه أو ورثته بعد وفاته
لما ترتب عن ذلك من حق الولد في النسب...".
كما يلاحظ أيضا وفي نفس السياق أنه نصت
المادة 44 من قانون الأسرة على أنه "يثبت النسب بالإقرار بالبنوة أو الأبوة
أو الأمومة لمجهول النسب ولو في مرض الموت متى صدقه العقل والعادة".
وباستقراء هذه المادة يتضح لنا أن
قانون الأسرة الجزائري أجاز إثبات النسب بطريقة الإقرار أو الاعتراف بالمولود كابن
لمدعي الأبوة، وأخضع هذا الإقرار إلى وجوب توفر شرطين أساسيين هما: أن يتعلق الإقرار
بطفل مجهول النسب، وأن يكون المنسوب إليه المزعوم له صفة الأبوة أو البنوة أو
الأمومة، وأن يكون الادعاء بالنسب يصدقه العقل والعادة، بمعنى ذلك لا يجوز للقاضي
أن يحكم بإسناد نسب ولد معلوم النسب وناتج عن زواج أب وأم معلومين ومرتبطين بعقد
زواج رسمي وشرعي إلى رجل وامرأة أخرى غيرهما.
كما يعتبر أيضا من بين الإقرار الذي لا
يصدقه العقل والعادة إقرار رجل تجاوز سنه الثمانين من عمره وهو مريض بالعقم وعدم
الإنجاب أن يدعي بأن فلان ابنه، وأيضا ليس من العقل ولا العادة أن يسند طفل عمره
عشرة سنوات إلى رجل أو شخص عمره عشرون سنة، أو أن هذا الشخص لم يتزوج أصلا ولم
تجمعه بوالدة الطفل أي عقد زواج شرعي صحيح، لأنه لا يجوز شرعا أن يولد طفل من زنا
ثم يدعي ويقر الرجل أن الطفل ابنه، مع العلم أن نص المادة 44 من قانون الأسرة
السالفة الذكر أشارت في هذا الصدد إلى الأخذ بعين الاعتبار الإقرار بالنسب ولو في
مرض الموت متى صدقه العقل والعادة طبعا.
ب- إثبات النسب بالبينة: لم يحدد قانون الأسرة ولا قانون الإجراءات
المدنية والإدارية نصاب الشهود ولا ما يشترط فيهم في مسائل إثبات النسب، فيتعين
حينئذ الرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية عملا بأحكام المادة 222 من قانون
الأسرة، ويرى فقهاء المالكية في هذا الصدد أن تكون الشهادة من رجلين عدلين، ويرى
الحنفية أن تكون من رجلين أو من رجل وامرأتين، بتقديم الدلائل والحجج التي تؤكد
وجود واقعة مادية وجودا حقيقيا، كما تجوز الشهادة بالاستفاضة أو بالتسامع وهي أن
يشهد الشاهد أن العدول بأنهم سمعوا سماعا أن فلان هو ابن فلان، أو أن فلان قد
اعترف أمامهم أن زوجته حامل منه، وقد جاء في قرار المحكمة العليا ما يلي "...
وعليه فإن القضاة لما لم ينتبهوا لوجوب سماع جماعة الشهود الذين حضروا إقرار المطعون
ضده أمام الموثق، فإنهم خالفوا الشرع والقانون وعرضوا قرارهم للقصور في
التسبيب".
ثانيا: إثبات النسب بالطرق العلمية
إلى جانب الطرق الشرعية في إثبات النسب
نص المشرع الجزائري على إمكانية إثبات النسب بالطرق العلمية، وهذا في نص المادة
40/2 من قانون الأسرة والتي جاء فيها "... يجوز للقاضي اللجوء إلى الطرق
العلمية لإثبات النسب"، وهي تعتبر إضافة من طرف المشرع حيث يستعان بالطرق
العلمية الحديثة في سبيل الوصول إلى الحقيقة البيولوجية وهي الوسائل التي تثبت
العلاقة اليقينية الجنسية بين الولد وأبيه، إلا أن المشرع جعل هذا الأمر جوازيا
للقاضي وليس مطلقا لمجرد ثبوت هذه العلاقة بالفحص الطبي، فقد ربط ذلك بوجود القرائن
التي تبقى كأقوى دليل في إثبات النسب.
واستنادا إلى نص المادة 40/2 من قانون
الاسرة السالفة الذكر فإنه يمكن تبعا لذلك إثبات النسب عن طريق الخبرة الطبية أي
عن طريق البصمة الوراثية أو التحليل الجيني للحمض النووي "ADN"، فاعتماد نتائج فحص الدم والخبرة
الطبية في قضايا النسب تعد دليلا مؤكدا في ثبوت النسب أو نفيه.
1- التعريف بالبصمة الوراثية
البصمة الوراثية مركب وصفي من كلمتين
البصمة والوراثية، فالمقصود بالبصمة لغة هو أثر الختم بالإصبع، فهي الانطباعات
التي تتركها الأصابع عند ملامستها سطحا مصقولا.
أما المقصود بالوراثية: فهي مجموع
الصفات الفيزيولوجية والتشريحية والعقلية المتشابهة أو المتفرقة بين الأفراد الذين
تربطهم صلة قرابة والمتوارثة من جيل إلى جيل.
أما في الاصطلاح العلمي فإن البصمة
الوراثية هي ما يتوارثه الأبناء عن آبائهم من صفات تحدد هويتهم بدقة وتميزهم عن
غيرهم، فهي الجينات الوراثية التفصيلية التي تدل على هوية كل إنسان بعينه والتي
تتحكم في صفات الشخص الجينية التي يختص بها كل فرد دون سواه، وهي الوسيلة التي
تمتاز بالدقة في التحقيق من النسب البيولوجي، والتحقق من الشخصية.
كما أنه ومن جهة أخرى فإننا نجد أن
البصمة الوراثية للشخص لا يمكن أن يتشابه فيها مع غيره، وهي التي تحدد هوية الشخص
عن طريق تحليل جزء من الحمض النووي (ADN)
وهي المادة ذو الشفرة الوراثية التي يحملها الإنسان بالوراثة عن أبيه أو أمه في
خليته الجينية.
2- دور البصمة الوراثية في إثبات النسب أو نفيه
بالرجوع إلى نصوص مواد قانون الأسرة
وبالتحديد نص المادة 40/1 منه فإن النسب الشرعي يثبت بالفراش الناتج عن عقد الزواج
الصحيح أو الزواج الفاسد، وكذا بالإقرار وبالبينة، وقد نصت المادة 40/2 على أنه
يجوز للقاضي الاعتماد على البصمة الوراثية، ومنه يمكن القول بأن هذه الأخيرة لا
يجوز أن تتقدم على الطرق الشرعية والقانونية لثبوت النسب التي أوردها المشرع في نص
المادة 40/1 السالفة الذكر، وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنه لا يجوز اللجوء إلى
البصمة الوراثية لإبطال الأبوة الثابتة بهذه الطرق الشرعية، هذا الأخير الذي لا
يمكن نفيه إلا عن طريق اللعان.
لقد كان فقهاء الشريعة الإسلامية قبل
ظهور الطرق العلمية في العصر الحديث يعتمدون في مسألة ثبوت النسب على ما يسمى
بالقيافة، بأن يعرض الولد المتنازع عليه على القائف الذي له دراية بتميز الأنساب
من أجل إلحاقه بأمه لوجود الشبه بينهم، وقد رأت المحكمة العليا في إحدى قراراتها
أن استحقاق النسب بناءً على خبرة علمية بتحليل الحمض النووي (ADN) على إثر علاقة غير شرعية يقتضي إلحاق النسب
دون التطرق لقيام العلاقة الزوجية من عدمها، إذ جاء في قرارها ما يلي:
"المبدأ يمكن طبقا للمادة 40 من قانون الأسرة إثبات النسب عن طريق الخبرة الطبية
(الحمض النووي) ولا ينبغي الخلط بين إثبات النسب في الزواج الشرعي المادة 41 من
نفس القانون، وبين إلحاق النسب في حالة العلاقة غير الشرعية".
ورأت المحكمة العليا في قرار آخر لها أن
"النسب يلحق بالطاعن متى ثبت ارتكابه لجرم هتك العرض على شخص الطاعنة (قاصر)،
وأن هذا الفعل يعد من قبل البينة طبقا للمادة 40 من قانون الأسرة، خلافا لما ذهب
إليه قضاة الموضوع، بحيث أن الأصل في اللجوء إلى الطرق العلمية في مثل قضية الحال
وليس الزواج الصحيح الذي لا يكون في حالة نفي النسب إلا عن طريق اللعان، وقضية
الحال تتعلق بإثبات النسب التي يجوز إثباتها بالطرق العلمية...".
يمكن اللجوء للبصمة الوراثية كخبرة
طبية وكدليل علمي لإثبات البنوة أو الأبوة بيولوجيا وفقا للمادة 40/2 من قانون
الأسرة في عدة حالات منها مثلا حالة الولد المجهول النسب لمعرفة والده الحقيقي، حالة
اختلاط المواليد في المستشفيات، وأصحاب الجثث المفحمة، حالة الشك في النسب، حالات
نسب الولد الناتج عن الوطء بشبهة أو من زواج فاسد...
وٕإذا كان الثابت شرعا وقانونا أنه
يمكن الاعتماد على البصمة الوراثية بناءً على أوامر القضاء المختص واعتبارها طريقا
من الطرق العلمية المعتبرة لإثبات النسب بالتحاليل البيولوجية، إلا أنه مع ذلك
فإنه لا يجوز استخدام البصمة الوراثية لتعطيل الطرق الشرعية والقانونية المنصوص
عليها في المادة 40/1 من قانون الأسرة، إذ لا يجوز التلاعب بها للتشكيك في الزيجات
والأنساب المستقرة.
المرجع
- د. ربيع زهية، إجراءات التقاضي في شؤون الأسرة، محاضرات موجهة لطلبة السنة الثانية ماستر، تخصص قانون أسرة، جامعة أكلي محند أولحاج – البويرة – كلية الحقوق والعلوم السياسية، السنة الجامعية: 2020-2021، ص118 إلى ص125.